لقد سعى الحلفاء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية لتدشين نظام تجاري دولي، كما تابعنا في الأسبوع الماضي، حيث سعت الولايات المتحدة والتي كانت أكبر قوة اقتصادية دولية إلى اقتفاء أثر النظام النقدي والمالي الذي رسخته والمعروف بـ«نظام بريتون وودز»، إذ أسّس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية ليكونا ركيزتي هذا النظام.
ولكن مسعى الولايات المتحدة والحلفاء لم يستطع تطبيق نفس المبدأ على التجارة الدولية نظرًا للظروف المرتبطة بها وأثرها المباشر على التنمية والتطور في الدول، ومن ثم أكتفي بوضع نظام متعدد الأطراف لإدارة التجارة الدولية عرف باسم «الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات» (الغات) GATT التي أقرّت كثيرا من المبادئ، وعلى رأسها منع التمييز ومنح الدول المتعاقدة حق الدولة الأولى بالرعاية، أي أن ما يمنح لدولة يجب منحه للدول الأخرى. كذلك أقرّت الاتفاقية العمل على خفض التعريفة الجمركية وكسر مسألة الأفضليات والسعي لوضع حد للحصص التجارية Quotas وحسم مسألة الدعم، وهي كلها مسائل تهدف إلى تسهيل حركة التجارة الدولية لإقرار السلام عبر التكامل بين الدول. كذلك فقد نشأ نظام لتسوية المنازعات التجارية بين الدول، وبالفعل نجحت الاتفاقية في خلق بيئة دولية إيجابية نسبيًا، خصوصًا بعد «جولة كيندي للمفاوضات» التي ساهمت بشكل كبير في خفض التعريفات الجمركية بنسب متفاوتة.
ورغم الصعوبات المرتبطة بمسائل التجارة الدولية فإن الآمال كانت منعقدة على هذه الاتفاقية لتحقيق مزيد من الأهداف لمواجهة المشكلات التجارية. وبالفعل نجحت «الغات» حتى منتصف ستينات القرن الماضي لأسباب مرتبطة بشكل مباشر بالظروف الاقتصادية الدولية في ذلك الحين، والتي بدأت تتغير تدريجيًا وأثرت على النظام التجاري الدولي تمامًا مثل النظام النقدي الدولي، إذ شهدت فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي تطورات كثيرة أدت إلى تزايد المشكلات المرتبطة بالتجارة ورفع مستوى الحمائية بين الدول، وهو ما يتناقض تمامًا مع مبادئ الاتفاقية.
فلقد بدأ العالم يدخل في أزمته النقدية مع فقدان الولايات المتحدة القيادة، إذ أصبحت تعاني من أزمات اقتصادية أدت إلى تعويم الدولار وكسر قاعدة الذهب في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، وهو ما كان له أثره المباشر على التجارة الدولية، حيث حقّق الميزان التجاري الأميركي لأول مرة عجزًا بحلول عام 1971، وبدأت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لمعالجة الأمر بمزيد من الحمائية، خصوصًا أن الكونغرس بدأ يدخل نفسه في هذا الإطار بعدما كان الأمر متروكًا للسلطة التنفيذية بالأساس.
أما على المستوى الدولي، فأصبحت اليابان وأوروبا الغربية في حالة اقتصادية جيدة بعدما عبرت أزمات الحرب العالمية الثانية وحققت نسب نمو عالية وعادت مرة أخرى إلى الساحة الدولية بقوة، بل أصبحت هذه الدول منافسًا قويًا للولايات المتحدة، وباتت الأوضاع تنذر باندلاع حروب تجارية بين الدول الكبرى، خصوصًا بعدما بدأ النظام الدولي يدخل في مرحلة التضخم المصحوب بالكساد بفعل الأزمة المالية، إضافة إلى ارتفاع أسعار البترول بعد حرب 1973، وهذا ما أدى إلى تفشي ظاهرة البطالة في هذه الدول وتذبذب أسعار الصرف. وأدى من ثم إلى إعادة العالم مرة أخرى إلى سياسات «على حساب الجار» التي دفعت بالحمائية لأقصى آفاقها منذ الحرب العالمية الثانية.
ولعل بداية ظهور التكامل الأوروبي كانت سببًا مضافًا إلى هذه الأزمة التجارية الدولية، إذ سعت أوروبا منذ إعلان «السوق الأوروبية المشتركة» إلى العمل على التكامل التدريجي إلى أن أصبحت «الاتحاد الأوروبي». وهي خطوات كان من شأنها تقوية الترابط التجاري الداخلي على حساب علاقاتها بالعالم الخارجي، خصوصًا بعد «اتفاقية ماستريخت» التي فتحت المجال أمام الاتحاد الأوروبي. وهذا ما دفع العالم للتخوّف من أن تصبح هناك «أوروبا المحصّنة» ضد التجارة الدولية، خصوصًا بعد توحيد المعايير والتعريفات أمام التجارة الدولية. ولكن هذا التكتل لم يكن التهديد الوحيد للتجارة الدولية، إذ وقّعت الولايات المتحدة وكندا والمكسيك اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية «نافتا» NAFTA عام 1992، ثم تبعتها دول من أميركا اللاتينية التي أعلنت عن إقامة «سوق الميركوسور»، وأصبحت هناك تكتلات تجارية دولية باتت تنظر بخطورة بالغة على التجارة الدولية.
ونظرًا لأهمية التجارة الدولية على المستوى المحلي، أخذت الدول تسعى لنوعية جديدة من الحمائية بعيدًا عن التعريفات الجمركية التي حسمتها اتفاقية «الغات» ومعها مسألة الحصص. وبالتالي وجد العالم نفسه أمام ممارسات ليست بالضرورة جديدة، لكنها صارت متفشية، وعلى رأسها ما هو معروف باسم «الحواجز غير الجمركية» Non Tariff Barriers، على رأسها: المعوّقات الصحية والمواصفات والمقاييس ومسألة الدعم للصناعات المحلية والتمييز ضد الشركات الأجنبية في المناقصات الحكومية والمسائل المرتبطة بالملكية الفكرية والضمانات الحكومية، إضافة إلى مشكلة التجارة في الخدمات، التي صارت النسبة الكبرى من التجارة، خصوصا بالنسبة للدول المتقدمة علميًا. ولقد مثلت الصادرات الأميركية من الخدمات أكثر من نصف صادراتها في مطلع التسعينات، وهي الموجة الجديدة التي بدأت تعيق حركة التجارة الدولية التي استخدمتها الدول لوقف الواردات من الدول الأخرى. كذلك لجأت الدول إلى ما هو معروف باسم «اتفاقيات التقيد الطوعية» والتي أخذت الدول توقّعها في ما بينها لتفادي الحمائية الجديدة والدخول في حروب تجارية.
إزاء كل هذه التطوّرات صارت الدول الكبرى تدرك أهمية إطلاق جولات جديدة للمفاوضات المتعددة الأطراف لمواجهة هذه الموجات الجديدة من العوائق التجارية لإيجاد الحلول المناسبة لها. وبالفعل انطلقت «جولة طوكيو» للمفاوضات عام 1973 لمواجهات آثار التقلّبات النقدية على التجارة الدولية بمبادرة أميركية. وطالت هذه المفاوضات لسنوات عدة، غير أنها انتهت بنجاح جزئي، حيث أدخلت تسويات جزئية وعلى رأسها حق الأطراف المتأثرة من أضرار الدعم الحكومي للتفاوض لإيجاد تسوية تعويضية، إضافة إلى وضع مدونات سلوك لمواجهة المسائل الخاصة بمنع الإغراق بعدما وضعت تعريفات دقيقة لهذه العملية، كما وضعت شروطًا واضحة بالنسبة لقطاع المناقصات في بعض المجالات لضمان المعاملة المتساوية النسبية بين الشركات المحلية والأجنبية. كذلك سهّلت كثيرا من الإجراءات الخاصة بالحصول على التصاريح والرخص بالنسبة للشركات المختلفة العاملة في دول أخرى، التي كانت محل تأخير. لكن الملاحظ هنا أن الاتفاقيات لم تكن شاملة لكل الأعضاء المشاركين في «الغات»، وهو ما كسر المبدأ الأساسي الذي كان معمولا به في إطار الاتفاقية، وهو مبدأ الدولة الأولى بالرعاية. فلقد أصبحت بعض الاتفاقيات تضم بعض الدول دون غيرها، وفي كل الأحوال فإن الدول لم تستطع مواجهة مشكلة حرية التجارة في السلع الزراعية، خصوصا بعدما أدخل الاتحاد الأوروبي السياسة الزراعية المشتركة التي جعلت التجارة في هذا المجال خارج النطاق تمامًا رغم الضغوط الأميركية القوية في هذا المجال.
ونظرًا لأن «جولة طوكيو» لم تحسم كثيرا من الأمور، أطلقت جولة جديدة من المفاوضات عرفت بـ«جولة الأوروغواي»، وبدورها استمرت لسنوات وظلت تحت ضغط الانهيار في أي لحظة بسبب الاختلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وضغوط الدول النامية. ومن ثم خلصت الجولة إلى كثير من النتائج الهامة، ولكنها كعادة هذه الجولات لم تكن شاملة، إذ أسفرت عن خفض إضافي للتعريفات الجمركية، وتوصلت إلى خفض الدعم على المنتجات الزراعية وصل إلى قرابة 21 في المائة على ست سنوات، فضلاً عن إلغاء نظام الحصص في صادرات المنسوجات والاستعاضة عنه بتعريفات جمركية التي يمكن النظر في خفضها فيما بعد. أيضًا جرى إدخال الاستثمار والخدمات في نظام التجارة الدولية وتطبيق مبادئ المعاملة الوطنية على هذا القطاع. وتم الاتفاق على حماية الملكية الفكرية داخل المنظومة التجارية بناءً على ضغوط الدول الصناعية الكبرى لحماية حقوقها من القرصنة وبيع المنتجات المصنعة عبر القرصنة.
وتم بالفعل التوقيع على الاتفاق في مدينة مراكش المغربية عام 1994 على أن يدخل حيّز التنفيذ عام 1995، وتقرر أيضًا بإبدال منظومة «الغات» بمنظمة التجارة العالمية والتي كانت مقرّرة وفقًا لـ«ميثاق هافانا» الذي لم يرَ النور، ومع ذلك انطلقت «جولة الدوحة» التي لا تزال مستمرة إلى اليوم لمعالجة أوجه القصور التي لم تتناولها «جولة الأوروغواي».
وهكذا تطوّر النظام التجاري بخطى أبطأ من النظامين النقدي والمالي الدوليين، لكنه لا يزال محكومًا بمبادئ أساسية للتجارة. ولا تزال الدول تبتكر وسائل لأنواع جديدة من الحمائية، ولكن المفاوضات الدولية تقتفي أثر هذه المتغيرات وتلاحقها شأنها شأن ما يحدث في النظام النقدي والمالي الدولي.
من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي
من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة