اليمين المسيحي واليهودي المتطرف في مقابل الغلو الإسلامي

خطوط سياسية وتوجّهات أصولية

(يسار) صورة أرشيفية لاستعراض مقاتلي «داعش» في شوارع الرقة شمال سوريا بعد دخولهم إليها في يونيو 2014 (رويترز)
(يسار) صورة أرشيفية لاستعراض مقاتلي «داعش» في شوارع الرقة شمال سوريا بعد دخولهم إليها في يونيو 2014 (رويترز)
TT

اليمين المسيحي واليهودي المتطرف في مقابل الغلو الإسلامي

(يسار) صورة أرشيفية لاستعراض مقاتلي «داعش» في شوارع الرقة شمال سوريا بعد دخولهم إليها في يونيو 2014 (رويترز)
(يسار) صورة أرشيفية لاستعراض مقاتلي «داعش» في شوارع الرقة شمال سوريا بعد دخولهم إليها في يونيو 2014 (رويترز)

هل يمكن القول إن تصاعد المدى اليميني المسيحي واليهودي، لا سيما في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات الأخيرة - وبالذات منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2011، وحتى الساعة - سببه الوحيد والغالب هو مشاهد التطرف والغلو الإسلامي، البعيدة عن روح الإسلام السمح، الوسطي والمعتدل، والتي أوصلتنا إلى حالة من البربرية الداعشية غير المسبوقة؟
السؤال بصفته الإطلاقية هذه لا يجوز طرحه لأسباب يحتاج شرحها وتحليلها لقراءات مطولة. غير أنه، وفي اختصار غير مخلّ يمكن القول إن الأصولية كامنة في عمق أعماق الشريعة اليهودية، التي لا تزال حتى الساعة تؤمن بفكر «الشعب المختار» في مواجهة «الغوييم»، أو الأغيار، حتى إن بعض غلاة المتشددين هناك يرون أن نفس غير اليهودي قد تتساوق في قيمتها مع أرواح الدواب، لا البشر من اليهود، وهذه قصة يطول شرحها. وعلى الجانب المسيحي، خلافًا للمسار الأصلي للمسيحية الذي هو المحبة والرحمة والتسامح، كانت القرون الوسطي مرتعًا خصبًا لنشوء وارتقاء حركات أصولية متطرّفة قادت إلى هجرات بعيدة عن أوروبا، وكانت الولايات المتحدة من ثم هي الموقع والموضع المختار لتتجلّى تلك الأصوليات التي تتمسك بحرفية الوحي والنصوص الدينية.

لأسباب هي مزيج من السياسي والديني، وربما الاجتماعي تلاقت وتتلاقي الأصوليات ومنطلقات التطرف، وتتحد في كثير من الرؤى والتوجهات، إلى حد التطابق. هل يعني ذلك أن ظاهرة التطرف والتشدد الإسلامي التي باتت «القاعدة» ثم تنظيم داعش ومن لف لفهم لا علاقة لها باليمين المسيحي واليهودي المتطرف؟
يمكن القول إن ردات الفعل على تلك المغالاة الإسلاموية، قد أبرزت من جديد تلك الحركات التي بدت كامنة أو ساكنة تحت الجلد الأوروبي والأميركي، وظهرت على السطح من جديد، منذ أن بشر صامويل هنتينغتون في سرديته التشاؤمية عن الصراع الحضاري والثقافي والفكري بين الأمم والشعوب، وتقسيمه العالم تقسيمًا مانويًا بين فسطاطين للخير والشر، أو هكذا فهم جورج بوش الابن صباح ذلك الثلاثاء الحزين بعد أحداث نيويورك وواشنطن.
هذا الحديث له اليوم ما يبرره. ولعل المراقب المحقق والمدقق للمشهد، يستطيع أن يرصد عدة ظواهر ومظاهر، تشي بالقلق من ردات فعل اليمينيين الأصوليين اليهودي والمسيحي على حد سواء، وهو ما يجعل نهار العالم قلقًا وليله أرقًا، عوضًا عن أن تكون الأديان أداة لراحة وإسعاد النفوس الحائرة في رحلة بعثها عن الفردوس الموعود.
في مقدمة الظواهر التي نحن بصددها، وبحسب التسلسل التاريخي نجد ردات الفعل اليميني في إسرائيل، التي تظهر الآن على السطح كرجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر، ملقيًا باللوم كله على ما يدعوه «الإرهاب والأصولية الإسلامية».
بتاريخ الرابع عشر من مارس (آذار) الحالي، كانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني تكتب على صفحات جريدة «معاريف» الإسرائيلية «أن العدو الحقيقي الذي يتوجب على العالم اعتباره ليس داعش فقط، بل كل الجماعات الأصولية الإسلامية». وقبل مقال ليفني وبنحو عشرة أيام صرخ الكاتب الإسرائيلي آري شبيط على صفحات جريدة «هآرتس» الليبرالية أن الحاضر في إسرائيل اليوم بات ملكا للأصوليين، إذ أوجد الخوف من «داعش» و«القاعدة» الغالبية المطلوبة والقوة المطلوبة لتدمير كل مؤسسة، وتشويه كل قانون، وإفساد كل قيمة، والقضاء على كل شيء جيد في الدولة العبرية.
قد يغالي شبيط بعض الشيء، لكن الأسوأ لم يأت بعد، ذلك أن الأصولية اليهودية المتطرّفة اليوم تتخذ من دعوات «داعش» منطلقًا للتحضير للموقعة الحاسمة التي لا بد من أن تأتي المقادير بها - في تقديرهم - غداة بناء الهيكل الثالث وإزالة الأقصى. وعليه يكاد يكون هناك اتفاق مطلق في الداخل الإسرائيلي الأصولي المتطرف على التصعيد، ومن هنا فهو ليس تصعيدًا ضد المسلمين والإسلام فحسب، بل إنه تطرّف ينسحب على المسيحية كذلك، وخير دليل على ذلك المقال الذي كتبه في شهر ديسمبر (كانون الأول) المنصرم بنتسي غوبشتين، الرأس الأصولي لمنظمة «لهافا» المتطرفة، ووصف فيه المسيحيين بأنهم «مصاصو دماء»، داعيًا جميع اليهود الراغبين في خلاص إسرائيل لرفع الصرخة ومحاربة «الظاهرة المنحرفة التي تُدعى المسيحية»، التي وصفها بأنها «الدين الرجيم».
هذا شكل واحد، وتجلٍ مفرد من روايات وأحداث لظاهرة تصاعد اليمين التوراتي الإسرائيلي، وهو يرى الخطابات النارية لـ«داعش» و«القاعدة». ولم يكن بنيامين نتنياهو ليتقاعس عن اللحاق بالركب، وتصريحاته الأخيرة عن «الإرهاب الإسلامي» تحمل من السم في العسل ما يكفي ويزيد لفهم إشكالية «رجع الصدى» التي نحن بصددها.
الحال في أوروبا ليس أقل سوءًا. فالشيء المؤكد أن اليمين الأوروبي بدأ يطفو على السطح في القارة التي خيل لكثير من الناظرين أنها ألقت وراءها مظاهر وظواهر التعصب الديني بعد نضال طويل وعقود من عصور التنوير.
غداة الهزة الاقتصادية الكبرى عام 2008.. كانت الأزمة كاشفة وداعية للبحث عن شطآن للأمان. وكان جورج برناردشو الأديب الآيرلندي الكبير قد قال ذات مرة: «عند العاصفة يلجأ المرء إلى أقرب مرفأ». والحقيقة أنه ليس أقرب من الدين وثوابته من مرفأ، يجد فيه المرء ملاذًا آمنًا، في مواجهة تدهورات وتطورات أوضاع السياسة النسبية.
لقد عاشت «القارة العجوز» مواجهات بين العرب والمسلمين مع الأوروبيين في العصور الغابرة، لكنها مضت وانطوت، إلى أن جاءت اعتداءات باريس الأخيرة لتذكي وتغذّي مشاعر الكراهية من جديد. وبالفعل كانت نتائج الأحزاب الأوروبية اليمينية في انتخابات عام 2014 في البرلمان الأوروبي جيدة جدًا.. بصورة مقلقة. ووسط هذا الأداء الجيد ثمّة من يتساءل عن إسهام تطرّف «داعش» في مكاسب اليمين الأصولي في أوروبا.
قبل بضعة أشهر ألقت الشرطة الإيطالية القبض على باكستاني وتونسي في مدينة بريشيا الإيطالية، وفي حوزتهما وثيقة سرّية يتناقلها أنصار «داعش» فيما بينهم، مباشرة أو عن طريق الإنترنت وتطبيقات التواصل المختلفة.. منها - صدّق أو لا تصدّق - خطة احتلال «داعش» للفاتيكان، رمز المسيحية ولروما العاصمة التاريخية للإمبراطورية العتيدة!
الوثيقة التي نشرت معالمها صحيفة «إل جورنالي» الإيطالية، أكبر من أن نعرض لها هنا، وهي تبدأ بالتدرج في العمليات التكتيكية من أجل الوصول إلى الهدف الاستراتيجي الذي تسعى إليه «داعش»، أي إطلاق سعير الحرب الدينية حول العالم.
وتبدأ المعركة ضد الغرب، بموجب الخطة، بتنفيذ تفجيرات محدودة في أماكن متفرقة في إيطاليا. وبالتوازي مع ذلك، يجري «الاعتماد» على الجاليات المسلمة ذات الكثافة العددية في فرنسا وإيطاليا من أجل حصار مركز الكثلكة في العالم. أما في الشرق - أي شرق إيطاليا - فسيكون وبحسب نص الوثيقة «سيكون لإخوتنا في البلقان، خاصة البوسنة وألبانيا وكوسوفا، شرف استكمال الحصار النهائي. ومن الجنوب ستتقدم السفن محملة بالرجال في اتجاه إيطاليا، في حين تتوالى الصواريخ طويلة المدى للقضاء على أي مقاومة ممكنة، ربما انطلاقًا من ليبيا».
هل يفهم المرء لماذا بدأت بعض نتائج الانتخابات في الولايات الألمانية تأتي بنتائج مثيرة للقلق؟
لقد فاز الحزب اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» AfD، الذي تقوم حملته على منصة كراهية الأجانب - وهو التعبير المستتر للمسلمين - ومعاداة المهاجرين بـ12.5 في المائة من الأصوات في ولاية بلاتينية الراين، و15 في المائة من الأصوات في بادن فورتمبيرغ، و24 في المائة من الأصوات في ولاية سكسونيا.
والشاهد أن بعض الأحداث التي تعد فردية من جانب بعض المهاجرين أو اللاجئين، وحتمًا بين صفوفهم نفرٌ قليلٌ أو كثيرٌ من أصوليين حاليين أو سابقين، يستفيد منها اليمين الأوروبي المتطرف أكبر استفادة، ولا أحد يستطيع المدافعة أو المنافحة عن تلك الأخطاء، وحادث مدينة كولونيا الشهير ليلة رأس السنة خير شاهد على ذلك.
وهنا نصل إلى الولايات المتحدة الأميركية التي تعيش حمى الانتخابات الرئاسية، التي تذكي بدورها نيران الأصوليات اليمينية، مسيحية أو يهودية.
وكنا في الماضي قد أشرنا إلى عمق الهوية الدينية في العقلية والنفسية الأميركية، ودائما ما كان الأثر الديني فاعلاً، غير أن انتخابات الرئاسة هذا العام تكتسب مذاقًا خاصًا، حيث ردود الفعل على بعض مشاهد التطرف الإسلامي الفردي، تأتي غاية في المغالاة وبما لا يقاس بحجم الفعل الأصلي.. ما معنى ذلك؟
بعد عقد ونصف من أحداث 11 سبتمبر، التي بدأت تتكشف من حولها معلومات مثيرة، قد تغير من اتجاهات الأحداث، جاءت حادثة كاليفورنيا لتنكأ جراحًا غائرة لدى الأميركيين، حول التطرف الإسلامي، وكيف أن لهذا الغلو والتزيد أن يضر بالأمن القومي الأميركي.
في هذا الإطار الآيديولوجي الذي يجد من يروّج له، لم يكن غريبًا أن يجد مرشحًا «ديماغوجيًا» مثل دونالد ترامب طريقه إلى قلوب الجماهير، وها هو يحقق انتصارات غير متوقعة أو مسبوقة، وبات الحزب الجمهوري ومؤسساته العميقة في ورطة أمام الاحتمالات الخطرة لفوز الرجل بترشيح الحزب.
والثابت أنه لا تهمنا قضية الرئاسة، بقدر النظر إلى الشعارات التي بنى عليها ترامب شعبيته، ولو كانت شعبية مغشوشة، وفي مقدمتها الترويج لكراهية الإسلام والمسلمين لأميركا، وتبرير الأمر بمشاهد «إدارة التوحّش الداعشي»، في العراق وسوريا وليبيا، والرؤوس المقطوعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
ويستلفت النظر أمر خطير آخر هو «حلف الأصوليات غير المقدّس» الذي يتبدى الآن في العلن بين اليمين الأوروبي ونظيره الأميركي، وإليك على سبيل المثال وليس الحصر عدة تصريحات، تؤكد ما نقول به.
فإذا نظرنا إلى تومي روبنسون، مؤسس الفرع البريطاني لحركة «بيغيدا» المعادية للمسلمين، نجد أنه يشجع الأميركيين على انتخاب ترامب، الذي سيسمح له وللآخرين بطرح مشاعرهم إزاء الإسلام بشكل أكثر حرية. وفي هولندا قال السياسي العنصري خيرت فيلدرز، زعيم حزب الحرية الهولندي ذي الآراء المتطرفة: «آمل أن يكون ترامب الرئيس الأميركي المقبل، فهو خيار جيد لأميركا ولأوروبا. إننا بحاجة إلى قادة شجعان».
ثم هناك حلقة يمينية أخرى لم نتطرق إليها، وتحتاج لحديث مستقل، هي تلك التي تتصل بروسيا ومجريات الأمور فيها، وتصاعد المد اليميني داخلها، خوفًا من تمدد «داعش» وأخواته إلى حدود الجمهوريات السوفياتية السابقة، ذات المسحة الدينية الإسلامية، لا سيما في منطقة القوقاز. بل يبدو الأمر أيضًا مثيرًا، إذ إن بعض رموز اليمين الأوروبي مثل روبير مينار، عمدة مدينة بيزييه بجنوب فرنسا، والليبرالي اليميني المدعوم من الجبهة الوطنية، يطالب أميركا وأوروبا بالتقارب مع روسيا، ونسيان الخلافات التي يراها «سطحية»، من أجل هدف واحد وهو محاربة تنظيم داعش الذي يهدد الجميع.
على أن هناك أمرين آخرين لا بد من الإشارة إليهما، وهما يوضحان كيف أن ثمة أطرافا أخرى لا تحمل الخير لا للعرب ولا للسنة، بل تعمل على تصعيد الخلافات وإثارة المخاوف والثغرات من «الإسلام السياسي السني» المتطرف. فقبل بضعة أيام قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، خلال كلمة له في الجامعة الوطنية الأسترالية بمدينة كانبرا عاصمة أستراليا، محذرًا من «أن تقسيم سوريا قد يؤدي إلى معارك آخر الزمان». وهنا نجد الرجل يروج تمامًا للفكر «الداعشي»، الذي يتحدث عن معركة «دابق»، حيث جيوش المسلمين لا بد وأن تلاقي جيوش الروم في معركة دموية، تكون الغلبة فيها للمسلمين.
والمؤكد أن ظريف يستخدم هذا الإطار الثيؤلوجي أو الفقهي، سواء أكان يؤمن به أم لا، لإحداث خلخلة في النسيج المجتمعي الغربي بأكبر صورة. ذلك أنه يعلم تمام العلم أن الترويج للفكر «الداعشي» سيواجه برواية يمينية يهودية مسيحية أصولية، معروفة لدى كثيرين، وهي رواية هرمجدون، أي المعركة الحتمية التي ستقع في آخر الزمان في «مجدو» بفلسطين. وهي معركة دموية شبيهة كل الشبه بـ«دابق»، ولها من أنصارها الملايين حول العالم، ولقد كان الإيمان بها عند الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان في أوائل الثمانينات سببًا مباشرًا لإحياء الأصولية الدينية في الولايات المتحدة، والبدء ببرنامج «حرب النجوم».
أما الأمر الآخر فيتصل بأصابع خفية تعزف على أخطاء وخطايا الأصوليين والمتطرفين الإسلاميين في أوروبا تحديدا لإطلاق سعير التيارات اليمينية المتشددة هناك. وفي مقدمة هذه الأصابع عدد من المثقفين غير النزيهين والتعبير هنا للمفكر الفرنسي الشهير باسكال بونيفاس، وفي المقدمة منهم، المفكّر والحركي الفرنسي برنار هنري - ليفي الذي وقف وراء إشعال كثير من الجبهات العربية، تحت مسمى «الربيع العربي»، وللرجل قصص طويلة حيث يرتبط ارتباطا جذريا بالمؤسسات اليمينية اليهودية في إسرائيل منذ زمن طويل.
ولقد رأينا هنري - ليفي أخيرًا وهو يدفع في اتجاه ترهيب وتخويف يهود فرنسا، ويبدو في المشهد ناصحًا لهم بالسفر إلى إسرائيل نهائيًا وإلى الأبد، في هجرة قطعية «خوفًا عليهم من اعتداءات الإسلاميين» في فرنسا، وربما عموم أوروبا. وهو في هذا يلوح بكارثة اليهود الكبرى في أوروبا، أي «المحرقة» النازية، ويمهد الطريق لليمين الإسرائيلي للتمكين من قيادة الدولة العبرية، عبر الشريعة التوراتية، كما تطالب «لهافا» لا عن طريق القوانين الوضعية، التي ترى إسرائيل نفسها من خلالها أنها دولة مدنية ديمقراطية.
هل المشهد مرشح لمزيد من التدهور؟
المرجح أن ذلك كذلك، إذا لم يقدّر للعالم الإسلامي الخلاص من الاتجاهات الموغلة في التطرف، خصوصا أننا على أبواب الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة بعد بضعة أشهر، ثم الانتخابات الرئاسية في فرنسا عام 2017.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».