طرابلس.. مدينة السلاح والميليشيات (7 من 7): صراع أجهزة المخابرات ينهك ليبيا.. ويحول طرابلس إلى مدينة للرعب

ميليشيات تأثرت بها.. وبعضها يتفاخر بامتلاك منظومة «للتجسس والتصفية»

عناصر من الجيش الوطني الليبي في جنوب البلاد يراجعون أوراق العابرين ضمن حالة من التأهب بسبب الظروف الأمنية الصعبة («الشرق الأوسط»)
عناصر من الجيش الوطني الليبي في جنوب البلاد يراجعون أوراق العابرين ضمن حالة من التأهب بسبب الظروف الأمنية الصعبة («الشرق الأوسط»)
TT

طرابلس.. مدينة السلاح والميليشيات (7 من 7): صراع أجهزة المخابرات ينهك ليبيا.. ويحول طرابلس إلى مدينة للرعب

عناصر من الجيش الوطني الليبي في جنوب البلاد يراجعون أوراق العابرين ضمن حالة من التأهب بسبب الظروف الأمنية الصعبة («الشرق الأوسط»)
عناصر من الجيش الوطني الليبي في جنوب البلاد يراجعون أوراق العابرين ضمن حالة من التأهب بسبب الظروف الأمنية الصعبة («الشرق الأوسط»)

سعر الوحدة الواحدة من منظومة تقنية لـ«المراقبة والتجسس»، يختلف حسب الإمكانات والجودة ونوع المورِّد الذي يجنح عادة لاستغلال الظروف الأمنية السيئة في العاصمة الليبية. استيراد «منظومة» متوسطة الإمكانيات لأمير من أمراء الحرب، وتركيبها في مزرعته أو بيته أو مكتبه، تبدأ كلفتها من 100 ألف دولار فما فوق. وتلقى أجهزة متابعة المكالمات الهاتفية والتنصت على الخصوم والأصدقاء، وتحديد المواقع والتحركات، رواجا وهوسا بين الكثير من قادة الميليشيات والتنظيمات المتطرفة.
يقول مصدر أمني غربي يعمل في طرابلس، إن 20 قياديا في العاصمة تأكد حصولهم على منظومات تجسس متقدمة سهلها لهم سماسرة على علاقة بأجهزة مخابرات دولية، خلال الشهور الثلاثة الماضية، تبلغ قيمتها ملايين الدولارات.. «آخر وحدة من هذا النوع، اشتراها قيادي كبير في المؤتمر الوطني (البرلمان السابق) بلغت قيمتها 500 ألف دولار، وجرى تركيبها في مسقط رأسه في بلدة زوَّارة، وذلك بعد يومين اثنين من القصف الأميركي على بلدة صبراتة المجاورة، والذي وقع يوم 19 الشهر الماضي».
يأتي هذا وسط صراع لأجهزة مخابرات دولية على الأراضي الليبية ما أدى إلى إنهاك هذا البلد وتحويل طرابلس إلى مدينة للرعب. وتشير تحقيقات يقوم بها مسؤولون ليبيون إلى أن الصراع المخابراتي للميليشيات تغذيه أجهزة مخابرات مختلفة «تتصارع فوق رؤوس الشعب الليبي».
تعرَّف قادة للمقاتلين على منظومات التجسس في أيام الحرب التي دعمها حلف الناتو ضد معمر القذافي. وتطورت خبرة بعضهم بهذا الشأن مع دخول أجهزة استخبارات عربية وأجنبية للعمل مع أمراء الميليشيات انطلاقا من هذا البلد.
اليوم تجد نوعا من التفاخر لدى زعماء الحرب الأهلية، غير المنضبطين، بامتلاك منظومات لـ«التجسس» وأن لديهم علاقة بالدولة الفلانية والجهاز المخابراتي الفلاني. تسبب الولع بالتنصت على الخصوم وبعض الأصدقاء، في اكتشاف خيانات وتلاعب وأوامر بالتصفية الجسدية، مثلما حدث داخل تنظيم «جند الحق» الموالي لـ«داعش» في منطقة الحرشة في غرب طرابلس، وكما وقع من خلافات بشأن رغبة تنظيم «جماعة المرابطين» في إدخال 2500 عنصر إلى داخل العاصمة، قبل أسبوعين.
كشفت عمليات التجسس بين قادة في طرابلس أيضا، عن وجود تعاون خفي بين زملاء لهم، مع ميليشيا تطلق على نفسها «سُبل السلام»، وتنشط في نطاق مدينة الكفرة في تهريب الأسلحة والمهاجرين من السودان. بعد ذلك سقط عشرات القتلى. وفي مناطق أخرى أدى التنصت لاكتشاف عملاء مزدوجين جرت تصفية بعضهم وما زال البعض الآخر مطاردا.
منذ عام 2011 ساعدت عدة دول في حلف الناتو مجموعات المتمردين المسلحين على نظام القذافي، وكان من بين هذه المساعدات أجهزة تحديد إحداثيات المواقع الخاصة بقوات النظام السابق، ثم تطورت إلى أجهزة لمراقبة هواتف القادة العسكريين في الجيش الليبي في ذلك الوقت بسبب طول مدة الحرب التي استمرت ثمانية أشهر.
ضابط أميركي متقاعد يعمل في ضاحية جنزور بطرابلس وعلى صلة بشركة «ستراتفور» الاستخباراتية الخاصة، يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «معظم الأجهزة ذات الطابع المخابراتي التي قدمتها دول غربية لزعماء الحرب ضد القذافي اختفت.. أكثر الأجهزة المتقدمة كانت في بلدة سرت، وهي الآن إما لدى قادة في ميليشيات طرابلس، أو لدى تنظيم داعش الذي سيطر على سرت وينشط في مدن أخرى».
لا تقتصر قدرة أجهزة المراقبة التي كانت في سرت، واختفت، على تتبع الهواتف الجوالة التابعة لشركات ليبية، مثل ليبيانا والمدار، ولكنها مزودة بإمكانية رصد هواتف مستهدفة وتابعة لشركات اتصالات في دول أخرى.. «بمجرد تلقي الرقم المعني لاتصال من أحد الأطراف، تخرج إشارة من الجهاز، ويبدأ في التسجيل وتحديد موقعي الطرفين».
ويشير المصدر الأميركي نفسه إلى وجود وحدات أخرى للمراقبة والتجسس كانت تابعة للأجهزة الأمنية في عهد القذافي، واستولى عليها أمراء الحرب أيضا، لكنها تعد بدائية وتعتمد على التسجيل على أشرطة ممغنطة، ومع ذلك ما زالت تعمل حتى الآن في بعض مكاتب جهاز المخابرات الذي يديره تحالف للميليشيات في طرابلس. بينما الأجهزة الحديثة تختلف وذات سعة تخزين كبيرة.
منذ أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وصلت فرق أمنية غربية لاستكشاف الأوضاع في ليبيا، بالتزامن مع قلق دولي من تنامي الجماعات المتطرفة في هذا البلد الغني بالنفط والغاز. ومن بين المعدات التي جلبتها معها في صناديق خشبية كبيرة، أجهزة تنصت ومراقبة، إضافة إلى أجهزة للكشف عن الغازات السامة. تستعين الفرق الأمنية الأجنبية بمساعدين محليين للحراسة والمشاركة في العمل التقني.
«أي فرق أجنبية تعمل على الأرض لا بد أن تتعاون مع القوى الموجودة. هذا حدث في العراق من قبل، ويحدث في ليبيا الآن». هكذا يقول لـ«الشرق الأوسط» المحلل الأميركي من أصل مصري، شريف الحلوة، المعني بالتطورات في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها ليبيا والعراق وسوريا، مشيرا إلى أن «الشركات الأمنية لا تعمل إلا بتنسيق كامل وشامل مع جميع الأطراف الليبية.. الغرض تجميع أكبر قدر من المعلومات والسيطرة على الموقف وتوجيهه لصالح السياسة الأميركية أو الأوروبية أو الغربية بشكل عام، وكذلك لصالح سياسة حلف الناتو في المنطقة».
بعض شركات الأمن التي جاءت من وراء البحار وحطت على شواطئ طرابلس، تبدو، مما يظهر من تحركاتها، أنها معنية أساسا بترتيب الأوضاع لتمكين حكومة فايز السراج، للعمل انطلاقا من العاصمة.. تقوم بتعلية أسوار لقرى سياحية خالية من الزبائن، تقع على البحر، ونصب أبراج المراقبة حول هذه المقار، أي أنه اتجاه لتأسيس منطقة خضراء للسراج بالتعاون مع بعض الميليشيات.. «أعتقد أن الأمر يشبه ما حدث في الماضي في العراق».
ويضيف الحلوة قائلا إن شركات الأمن الغربية، خاصة الأميركية «لديها صلاحيات وإمكانات تشبه ما تتمتع به وزارة الدفاع، بما فيها الحصول على معلومات من الأقمار الاصطناعية والقيام بعمليات استخباراتية.. يتعاملون يدا بيد مع المخابرات المركزية الأميركية والأمن الوطني الأميركي».
الزخم الاستخباراتي في طرابلس ليس غربيا فقط، ولكن جرى رصد نشاط لمخابرات من بلدان مختلفة، كما يقول مصدر من شركة «ستراتفور»، مشيرا إلى أن وجود الفرق الغربية لا يقتصر على العاصمة، ولكنه يمتد إلى شرق البلاد «لتقديم استشارات للجيش». معلوم أن هذه الشركة متخصصة في عمليات الاستخبارات الجيوسياسية، كما أنها توفر للأفراد والمنظمات في جميع أنحاء العالم، تحليلات استراتيجية وتنبؤات بالمستقبل.
ويعتقد هذا المصدر أن الفرق الأمنية التي حطت في طرابلس لديها إمكانات أكبر من تلك الموجودة في الشرق.. «تتعامل أيضا مع أقمار اصطناعية للحصول على صور حية للتحركات على الأرض، ناهيك عن تتبع مكالمات هاتفية وأماكن وجود زعماء المتطرفين في العاصمة وما حولها».
يوم 21 الشهر الماضي، وفي خضم المخاوف من تنامي تنظيم داعش، على حساب قوى الميليشيات التقليدية، وبينما المجاميع المسلحة تتجسس بعضها على بعض، جرى الكشف في لقاء بين اثنين من القيادات الإخوانية (أحدهما نائب في البرلمان وهو من مصراتة، والثاني عقيد في رئاسة الأركان من طرابلس)، عن قيام مهندسين عسكريين من دولة إسلامية تقع في البحر المتوسط، بتركيب منظومة تجسس كاملة لصالح تنظيم داعش، وجرى وضع هذه المنظومة وتجهيزها للعمل فيما يعرف باسم «ديوان المحكمة الشرعية» في معقل التنظيم الدموي في قلب مدينة سرت.
مقر التجسس الداعشي الجديد في هذه المدينة الساحلية الواقعة في الشمال الأوسط من ليبيا، مربوط بسفينة تقف في وسط البحر مقابل خليج سرت، كما اتضح أن هناك زوارق تتنقل، بين حين وآخر، وهي تحمل مهندسين وتقنيين، بين السفينة والديوان الداعشي المشار إليه.
ولدى «داعش» محطات مراقبة في العاصمة منها في مقر زعيم التنظيم في عين زارة، وفي دار الحسبة في منطقة القربولي، وفي معسكر يقع قرب مطار معيتيقة. يعمل على هذه الأجهزة تقنيون دواعش من جنسيات مختلفة أغلبهم تونسيون.
أما عن تفاصيل صفقة شراء المنظومة لقيادي في البرلمان السابق، والتي بلغت قيمتها نصف مليون دولار، وأشرف على الصفقة مهندس متخصص في الاتصالات ومسؤول في شركة هواتف جوالة. ويقول مصدر في الشركة إن المسؤول المشار إليه جرى استدعاؤه من جانب القيادي البرلماني، وسأله عن موضوع انتشار أجهزة التجسس بين زعماء الميليشيات، ومن أين تأتي وما هي أسعارها، فأخبره أنه يتم استيرادها عن طريق سماسرة في أوروبا، وأن الأسعار تبدأ من 100 ألف دولار فما فوق.
يبدو أن البضاعة كانت حاضرة في العاصمة، حيث إنه جرى الاتفاق بين الرجلين على إتمام الصفقة، داخل مركب كانت راسية على الشاطئ اسمها «زرقاء اليمامة». وطلب القيادي البرلماني السابق أن تكون المنظومة من النوع المتقدم إلى حد معقول، ولهذا كان السعر نصف مليون دولار، وطلب أيضا أن يتفرغ مسؤول الاتصالات نفسه، من العمل، لعدة أيام، ويتوجه بمنظومة المراقبة إلى الاستراحة الخاصة بالقيادي المذكور والموجودة في بلدة زوارة، وأن يشرف على تركيبها هناك، وأن يدرب فريقا من أنصاره على إدارتها.
ساعدت أجهزة المراقبة على تنفيذ عمليات تصفية جسدية بشعة من جانب دواعش وميليشيات، وقطاع طرق ولصوص ومهربين، في مناطق مختلفة من البلاد. من بين عشرات الضحايا، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية فقط، رجل يدعى «خُمُر» يبدو أنه كان مطلوبا من جانب جماعة متشددة تنشط فيما يعرف بـ«إمارة الخُمس». تولى عملية الرصد عبر تقنية متقدمة قيادي في الجماعة يدعى «السالمي». وبدأ في تتبع تحركات الهدف.
واطلعت «الشرق الأوسط» على محاضر تحقيقات بشأن هذه العملية من مصادر أمنية غربية في طرابلس. تقول أوراق التحقيقات إن الأوامر صدرت من الجماعة بقتل «خُمُر» إذا تعذر القبض عليه، وأن السالمي، وهو يتابع تحركاته عبر أجهزة التجسس، أخذ يعطي التعليمات لعناصر مسلحة تابعة لجماعته.. «خُمُر وصل الآن إلى منطقة غنيمة.. خُمُر توجه إلى تاجوراء من الطريق الساحلي.. رأيتم سيارته.. اعترضوها الآن».
وفي يوم آخر، وبناء على أجهزة التجسس التي يملكها، اكتشف قيادي لتنظيم صغير يعمل في غرب طرابلس، ويتعاون مع «داعش»، ويدعى «رشيد»، خيانة من تجار أسلحة في منطقة اسمها «بو شيبة»، وأصدر أوامر لأحد أتباعه المقيمين في مدينة غريان، ويدعى «برشوش»، وفقا للمصادر الغربية نفسها، بأن يتوجه مع فرقة تابعة للجماعة ويدمر الموقع بمن فيه من تجار وما فيه من أسلحة.
ورصدت فرقة أمنية غربية متخصصة في رصد مواقع التجسس والتنصت، وجود ما لا يقل عن خمسين محطة في طرابلس وحدها، من ماركات وتقنيات مختلفة، بعضها يفوق في قدراته المحطات الموجودة لدى جهاز مخابرات العاصمة. كما اكتشفت الفرقة نفسها أن ملكيتها تعود لعشرين قياديا بينهم مسؤولون في المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق)، والبعض الآخر من ميليشيات تابعة للجماعة الليبية المقاتلة، والإخوان، و«داعش».
أحيانا تكون هناك بعض المؤشرات الإيجابية من وراء المراقبة بغض النظر عمن يقوم بها، فتنظيم مثل «سبل السلام» الذي يعمل في أقصى الجنوب الشرقي من البلاد، لا توجد عنه معلومات كثيرة بعد، حتى في أوساط المحققين الغربيين الذين يعملون في العاصمة. من خلال تتبع تحركات المتطرفين في طرابلس، ومن خلال نشاط أجهزة الاستخبارات، جرى اكتشاف وجود التنظيم بقيادة رجل يدعى «هاشم» وأن له اتصالات مع قادة في العاصمة، ويتعاون معهم في تجارة السلاح وفي جلب المهاجرين غير الشرعيين عبر الحدود.
ومن الجنوب يقول الناشط والإعلامي الليبي، يوسف غالي، لـ«الشرق الأوسط» عن هذا التنظيم إنه موجود بالفعل. ويتنافس «هاشم» مع زعماء ميليشيات في المنطقة على التهريب، وهو من المعادين للجيش الوطني. يبدو أن معلومات وصلت بالخطأ من طرابلس لهذه الميليشيا عن دخول مدد للفريق أول خليفة حفتر من حركة العدل والمساواة السودانية، أدت لهجومه على مجموعة مهاجرين غير شرعيين أثناء توقفهم للاستراحة في منطقة بوزريق، ما أدى لمقتل أكثر من ثلاثين، و«جرى التنكيل بباقي المهاجرين وتصويرهم على أنهم من الحركة السودانية المشار إليها».
ومن العمليات التي جرى تنفيذها بعيدا عن أعين العالم، في أقصى الجنوب، قيام تنظيم «سبل السلام» أيضا بحرق واحة بزيمة، في عملية انتقامية للأسباب نفسها. أما بالقرب من طرابلس، وبحسب مصدر أمني غربي، فقد رصدت اثنتان من منظومات التجسس المحلية نشاطا لنجل القذافي، سيف الإسلام، رغم أنه محبوس في سجن في منطقة الزنتان، بعد الحكم عليه بالإعدام من محكمة تخضع لهيمنة الميليشيات في العاصمة العام الماضي.
ويشير المصدر إلى أن منظومة مراقبة على علاقة بمكتب اللجنة الأمنية «أبو سليم»، وأخرى تابعة لمكتب استخبارات «جماعة الإخوان» في طرابلس، رصدت «تحالفا بين قادة في منطقة الزنتان وقوة من قبائل موالية لنظام القذافي، وأن سيف يخطط مع هذا التحالف لإحداث انتفاضة في العاصمة».
الولايات المتحدة يبدو أنها تشترط منح البرلمان الحالي الثقة للحكومة التي اقترحتها الأمم المتحدة، برئاسة السراج، أواخر العام الماضي، قبل شن حرب حقيقية من جانبها، على «داعش» في ليبيا. يقول أحد ضباط الفرق الأمنية الغربية المقيمة في منطقة «سيدي عبد الجليل» على كورنيش طرابلس: «الحقيقة.. (داعش) اليوم أكثر قوة، الكل يعرف هذا عن ليبيا».
ويضيف أنه يعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية لديها معلومات دقيقة عن مواقع التنظيم في البلاد، لكن مسألة التخلص منه عسكريا، أمر يتطلب تحالفا مع أوروبا ودول أخرى. كما أن واشنطن لن تنفذ أي عمليات كبرى في ليبيا إلا بعد وجود حكومة توافق وطني.
لكن مستشار رئيس البرلمان، عبد المجيد، أبلغ «الشرق الأوسط» بأن هذا الأمر ما زال بعيد المنال، لأن الحكومة المقترحة بهذه الحالة «مجرد حكومة وصاية مفروضة من الخارج»، و«لا تحظى بقبول غالبية أعضاء البرلمان ولا الشعب». وأضاف: «بشكل عام التحديات صعبة وليبيا في مفترق طرق».



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!