إديث شتاين.. نحو فينومينولوجيّة لاهوتيّة

كانت سباقة في الحديث عن المرأة ودورها في المجتمع

إديث شتاين و غلاف كتاب «المرأة»
إديث شتاين و غلاف كتاب «المرأة»
TT
20

إديث شتاين.. نحو فينومينولوجيّة لاهوتيّة

إديث شتاين و غلاف كتاب «المرأة»
إديث شتاين و غلاف كتاب «المرأة»

لم تعش أكثر من خمسة عقود، لكنها تركت ما لم يتركه من عمّر ما يقارب القرن. يتعلق الأمر بالفيلسوفة اللاهوتية، إديث شتاين (1891 – 1942)، اليهودية الهوية، الألمانية المنشأ. لم يأسر قلبها ولا عقلها أي من الأديان، إلا بعد أن خبرت الحياة وسبرت أغوار الحقيقة من كل الجهات.
تتلمذت على يد الفينومينولوجي الشهير، إدموند هوسرل، الذي عيّنها مساعدة له سنة 1917، بعد وفاة معاونه الأول الدكتور ريناخ. التحقت إديث بجامعة فريبورغ سنة 1913، وأعدت فيها أطروحة الدكتوراه في الفلسفة، دراسة فينومينولوجية، تحت عنوان: «تسرب الانفعالات والعواطف»، حاولت من خلالها، تجاوز مقاربة علم النفس، نحو علم يخص الظواهر الإنسانيّة، للكشف عن عمق الباطن الفردي، وما يفعل فيه من إحساسات تترجم في حدوس عقلية وانفعالية.
كان لفقدان إديث ثلاثة من إخوتها (وهي واحدة من ضمن عشرة إخوة) وأباها، وهي في سن الثانية من عمرها، أثرٌ بلِيغ في مسارها اليومي. وقد تكفلت أمها بإعالتها هي وإخوتها، غير أن إديث شتاين ستشق لنفسها طريقًا آخر غير ما ورثته من التقاليد اليهوديّة، وهذا ما عبرت عنه في كتابها «قصة حياة يهودية»، الذي يعد سيرة ذاتيّة غير مكتملة، حكت فيها عن طفولتها وانفعالاتها وعنفوانها، وعن علاقاتها في مراحل مختلفة من حياتها.
لم تسعفها الظروف الحياتيّة لتصير فيلسوفة معروفة في الأوساط الأكاديميّة، بالنظر إلى وضعها بصفتها يهوديّةً مهددةً في حياتها، بعد صعود النازيّة إلى الحكم في الثلاثينات. وقد كان حدسها صحيحًا، حيث أحرقت بمعية أختها الطبيبة روز (التي ساعدتها على التطبيب في الحرب العالمية الأولى تضامنا مع زملائها في الدراسة الذين تطوعوا للقتال دفاعا عن الوطن)، في محرقة أشفيتز الغازيّة سنة 1942، على الرغم من انتمائها إلى الطائفة المسيحيّة، فيما بعد، واعتكافها على تربيّة الراهبات في الكرمليّة الهولندية (إيخت) لسنوات عدة. مع العلم بأن هيدغر رشحها لمنصب جامعي ودعمها، إلا أن النازيين وقفوا في وجهها بسبب أصلها اليهودي.
أصدرت إديث في حياتها كتبًا فلسفيّة ومعرفيّة عدة ركزت على قضية المرأة، والحقيقة والتربيّة والوضع الإنساني. في كتابها «العلم والإيمان»، بنت حوارًا أخاذًا بين هوسرل وتوما الأكويني. وفي «بناء الكائن البشري»، نجد بحثا في أصل الجنس البشري وتطوّره وأعراقه ومعتقداته، وهو البحث الذي عرف، فيما بعد، بـ«الإناسة اللاهوتيّة». أما كتابها «جوهر الحياة»، أو «الحياة في شموليتها»، فتعالج فيه قضايا تربويّة عدة: تربيّة الروح والنفس، وما تقتضيه من قوى روحيّة من شأنها أن تجعل من الحياة بكاملها مشروعًا يندفع نحو الحقيقة، لتعرج فيه على أهمية الحضور النسوي في التعليم. هذا ناهيك بكتاب «فن التربية» و«في الشخص». وفي كتابها عن «قدر المرأة»، كانت إديث سبّاقة إلى الحديث عن المرأة ودورها في المجتمع، حيث تتساءل: هل المرأة من طبيعة أنثويّة؟ ما الهدف من تعليم المرأة؟ محاولة أن تعالج قضايا المرأة من باب أخلاقيّة المهن النسائيّة، أو فيما سمته «تكامل المرأة في جسد المسيح السرّي»؛ حيث تدعو الرجل والمرأة معًا، ليكونا ضمن نظام الطبيعة ونظام النعمة. ولا شك في أنها متأثرة كثيرا بوضعية أمها التي عالت إخوتها وبالسيدة آن رينر.
كتبت في مجال اللاهوت: «صلاة الكنيسة وسرّ الميلاد»، و«علم الصليب»، وترجمت كتاب توما الأكويني «في الحقيقة».
خالطت شتاين كبار عمالقة الفكر الفلسفي الألماني طوال سنوات خلال تحضيرها أطروحتها، وخلال اشتغالها محاضرة في ما بين 1923 و1933. وانتقلت إلى المعاهد الكاثوليكيّة بعد أن أعفيت من الأستاذيّة، لتعيش حياة الرهبنة، مهرولة إلى اللاهوت لقراءة المفكرين المسيحيين، لا سيما القديس توما الأكويني. وقد كان لهذا التغير المفاجئ وقع على أصدقائها اليهود، بحيث اتهمت بالهروب من جحيم النازية، الذي لم تسلم منه. وصاحبت كلا من أدولف رينر، الذي يعد الذراع اليمنى لهوسرل، وجون هيرينج، وهانز ليبس، وماكس شيللر (في الصليب الأحمر الألماني)، وهيدغر، وانخرطت في حلقة الفينومينولوجيا.
يمكن تقسيم أعمال الفيلسوفة الراهبة شتاين، بحسب المتخصص في فلسفتها اللاهوتية، جون فرنسوا لافين، إلى ثلاثة محاور:
يتعلق الأول بتحليل الشخص البشري كما يعيش نوازعه وانفعالاته الداخلية، منطلقًا من سؤال: من أكون؟ إلى أي نوع من الموضوعات ينتمي الأنا؟ ما الروابط القائمة في تشكلنا: الجسد، الملكات العقلية، الروح، الحساسية، الأحاسيس؟ وذلك للبحث عن تصور شمولي للكائن البشري.
أما الثاني، فيخص التربية؛ فلأجل تربيّة الكائن، يجب التوجه إليه كما هو: كما يحس داخليًّا ووفق معرفته الباطنيّة. وهو ما جسدته، فعليا، في الكرملية، حيث عمقت بحثها في الظواهر الإنسانية.
ويتعلق المحور الثالث، بمجال الميتافيزيقا، حيث اطلعت على توما الأكويني، إيمانا منها بأن البحث عن الحقيقة هو أسمى ما يمكن أن يقودها إلى فهم ما يحيط بها من ظواهر إنسانية. ولا شك في أن لكتاب هيدغر، الكينونة والزمن، (صدر سنة 1929)، أثرا بالغا على محاضراتها في تلك الفترة، التي نجد فيها تأملات فلسفية عميقة مشحونة بعاطفة جياشة مفعمة بالأمل.
وإلى جانب كتابها في مسألة الدولة، يشكل بحثها تحت عنوان: «الكينونة الفانية والكينونة الأبدية»، (وهو أضخم كتبها ويقع في 530 صفحة)، أعمق تأمل فلسفي في قضية الغير، والتعاطف، محاولة استجلاء القول، وبيان عمق البينذاتية في بعدها الفينومينولوجي. فالتعاطف Empathy، يسير في اتجاه تحقيق الذات، بالارتكاز على خبرتك في فهم الذات الإنسانية، وهو ما يتطلب تركيزا لفهم الأنا التي لا تظهر للعيان على حقيقتها. تزداد صعوبة التعاطف خلال اللقاء بالناس، لأن كل واحد منهم يحمل «أنًا» خاصة محملة بخبرات متنوعة ظاهرة. وعلى هذا الأساس، تشدد إديث على ضرورة فهم الآخر، عبر نظريّة التعلم واكتساب المعرفة. وبذلك تشاطر ماكس شيللر في مقاربته لإشكالية معرفة الغير.



فارغاس يوسا يسدل الستار على الجيل الذهبي لكُتَّاب أميركا اللاتينية

الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في صور خلال مقابلة بمنزله 7 أكتوبر 2009 (أ.ف.ب)
الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في صور خلال مقابلة بمنزله 7 أكتوبر 2009 (أ.ف.ب)
TT
20

فارغاس يوسا يسدل الستار على الجيل الذهبي لكُتَّاب أميركا اللاتينية

الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في صور خلال مقابلة بمنزله 7 أكتوبر 2009 (أ.ف.ب)
الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في صور خلال مقابلة بمنزله 7 أكتوبر 2009 (أ.ف.ب)

«أعرف أن غيابه سيترك حزناً عميقاً بين أفراد أسرته وأصدقائه وقرائه حول العالم، لكننا نعقد الأمل أن الجميع سيجد عزاء في كونه تمتع بحياة مديدة ومثمرة، وترك لنا أعمالاً سترافقنا طويلاً من بعده».

بهذه العبارات نعى الفارو، النجل البكر لماريو فارغاس يوسا، رحيل والده وهو على أبواب التسعين، بعد أسبوعين بالتمام من احتفاله بعيد ميلاده التاسع والثمانين في منزله المطل على البحر في مدينة ليما التي لم ينقطع عنها أبداً رغم ترحاله المستمر وإقامته فترات في مدن كثيرة، كانت مدريد آخرها، حيث توطدت بيننا صداقة وكانت مدخلاً لانضمامه إلى أسرة «الشرق الأوسط» منذ نيّف وثلاث سنوات.

لا شك في أن غياب فارغاس يوسا سيُحدث فراغاً كبيراً في نفوس الذين تهافتوا على أعماله ووجدوا في أدبه رفيقاً حميماً في ساعات البهجة كما في ساعات القنوط.

يوم الأربعاء الفائت تحدثت إلى ألفارو لأبلغه أن «الشرق الأوسط» نشرت في ذلك اليوم مقالة والده عن صديقه خوسيه دونوسو، وطلبت إليه أن ينقل إلى «دون ماريو» تحيات عطرة من سمرقند التي قال لي مرة إنه يحلم بزيارتها بعد قراءة الرواية التي وضعها أمين معلوف عن هذه المدينة الساحرة. وبعد قليل، ردّ المتوج بنوبل للآداب والعضو الوحيد في الأكاديمية الفرنسية الذي لم ينشر كتاباً واحداً بلغة موليير، بقوله: «كم هو العالم بحاجة إلى مدن مثل سمرقند في أيامنا هذه!».

في تواصلي الأسبوعي مع نجله البكر، وهو أيضاً كاتب، كان يخبرني أنه منذ عودته العام الفائت إلى بيرو، بدأ فارغاس يوسا يقوم بنزهات «خفيفة» في الأماكن التي ألهمته في أعماله، وأنه في إحدى السهرات ذهب إلى مشاهدة عرض مسرحي خاص مستوحى من روايته «مَن قتل بالومينو موليرو؟». بعد ذلك زار المدرسة العسكرية التي تابع فيها مرحلة دراسته الثانوية وألهمته رائعته «المدينة والكلاب» التي ارتقى بها إلى أولمب الآداب الإسبانية مطلع ستينات القرن الفائت، ورسم فيها صورة فذة عن تعقيدات مجتمع بلاده، بيرو. كما تردد غير مرة على المقهى الذي اختمرت على مقاعده روايته «محادثة في الكاتدرائية»، وكانت نزهاته الأخيرة في أجمل أحياء ليما، «الزوايا الخمس»، المشرف على البحر.

وقد أوصى يوسا بأن يوارى الثرى في جنازة خاصة جداً، وغير رسمية، تقتصر على أفراد أسرته المقربين من جهة والده. وشاءت الصدف أن غالبية مواطنيه لم يعرفوا بنبأ وفاته من نشرات الأخبار، بل من متابعتهم إحدى المباريات المهمة بكرة القدم على ألسنة المعلقين الرياضيين، كما لو أنه هو الذي كتب هذا المقطع الأخير من حياته، وهو الذي كان شغوفاً بالفريق الذي خسر تلك المباراة، والذي كان عضواً فخرياً فيه لا يفوّت مباراة له كلما كان في ليما.

كان مزيجاً من فيكتور هوغو وغوستاف فلوبير، الذي قيل إن أحداً لم يكتب عنه بمثل العمق والتألق الذي فعله فارغاس يوسا عن صاحب «مدام بوفاري». وبرحيله ينسدل الستار على الجيل الذهبي من كتَّاب أميركا اللاتينية الذين رصّعوا الأدب العالمي بأجمل الدرر، مثل غارسيا ماركيز وكارلوس فونتيس وخوليو كورتازار.

«الشرق الأوسط»، بالاتفاق من نجله ووكيلته الأدبية، ستواصل نشر مقالات له سابقة مرتين في الشهر، وهي تتقدم إلى أسرته بخالص العزاء.