{شفرة} مراسلات بن لادن السرّية

من زعيم «القاعدة» إلى رجاله: ابتعدوا عن إيران.. لنا معها مصالح

صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا  («الشرق الأوسط»)
صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا («الشرق الأوسط»)
TT

{شفرة} مراسلات بن لادن السرّية

صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا  («الشرق الأوسط»)
صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا («الشرق الأوسط»)

أثارت الوثائق التي كشفت عنها وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الأميركية وقالت: إنها حصلت عليها من منزل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، عقب مقتله في مدينة آبوت آباد بباكستان 2011. والتي نشر التنظيم نسختها الأصلية باللغة العربية بينما ترجمت «سي آي إيه» الوثائق الـ133 التي كشفت عنها إلى اللغة الإنجليزية، المزيد من اللغط حول العلاقة بين «القاعدة» وإيران. وكان من أبرز المراسلات تلك التي بعث بها بن لادن إلى «الأخ توفيق»، الذي يُعتقد أنه قيادي من جماعة «الجهاد» المصرية، بحسب أصوليين في لندن، حيث كان من اللافت تركيز عدد كبير منها مما تضمنته الوثائق - التي كتبها بن لادن أو قيادات بالتنظيم - عن إيران وطرق التعامل معها، باعتبارها ممرًا «آمنًا للرسائل والأموال والأسرى».
أثبتت وثائق «سي آي إيه»، المشار إليها أعلاه، ومنها الوثيقة التي كتبها أسامة بن لادن، إلى «الأخ توفيق» بين الجانبين، أي إيران و«القاعدة»، التعاون المشترك بينهما الذي طال لسنوات عدة، وحث فيها بن لادن على عدم فتح جبهة ضد الدولة الشيعية، حيث طالبت إيران من القاعدة حماية المراقد الشيعية في العراق، وأنها ليست ضمن الأهداف المراد ضربها، وأن ما يحدث هو نتيجة التخبط الحاصل هناك، وأن «العمدة» - يقصد به ابن لادن وأصحابه - غير راضين عن استهداف تلك المراقد، وأن الإيرانيين أصبحوا غير راضين عن أي شيء في العراق، عن طريق الموالين لهم أو بطريق مباشر، ويريدون التعاون ولكن بعد الحصول على تطمينات». وتقول رسالة بن لادن المكتوبة بخط يده، أيضا بأنهم يريدون مناقشة الكثير من الأمور «ولكن بعد لقاء مندوب من طرفكم».
والملاحظ أنه تظهر في الوثائق كُنى وألقاب لعشرات من القياديين، تكررت في مراسلات بن لادن مثل «أبو خالد» و«أبو نواف» (شقيق ابن لادن)، و«أبو محمد» (الظواهري) و«العمدة» (بن لادن نفسه) و«أزرق» (أبو مصعب الزرقاوي) و«أبو الوليد المصري» (مصطفى حامد «منظّر القاعدة») و«أبو صلاح» و«مولوي عبد العزيز» و«كارم» و«أبو عبد الله الشافعي». وهناك رسالة إلى «أزمراي» (بن لادن) من أحد مساعديه، وكذلك رسالة مهمة إلى «الشيخ محمود» وهو «عطية الله الليبي» أي جمال إبراهيم زوبي (أحد قادة التنظيم وهو من مدينة مصراتة الليبية).
وفي رسالة إلى «الشيخ سعيد» (مصطفى أبو اليزيد قائد «القاعدة» في أفغانستان) بخصوص إيران طالب فيها بن لادن بـ«إعداد بحث شرعي عن الشيعة يتضمن مناقشة أسس القضايا بأسلوب يسهل فهمه دون الدخول في الفروع لتسهيل الأمر على العوام». وقال بن لادن في رسالته إلى «الشيخ سعيد» ما يلي «المصلحة في هذه المرحلة، تقتضي أن لا ندخل في حرب عسكرية مع إيران لما في ذلك من تشتيت للجهد الوحيد الموجه إلى رأس الكفر أميركا». وقد عنون عباراته بخط الفولماستر الأحمر. وأردف بن لادن «أحسب أننا في فترة الإجهاز على أميركا، إلا أنه كما لا يخفى عليكم، أن الدول الكبرى لا تنهار بين عشية وضحاها وأن الانشغال عن عدو منهك وإعطاءه الفرصة لالتقاط أنفاسه والدخول في حرب طويلة المدى مع عدو آخر أمر مناف للحكمة ما دام هناك خيار للتأجيل».
والملاحظ هنا تغيرت الكنى والألقاب من حين لآخر بحسب الظرف والمكان، وبعض هذه الكنى كشف عنه متخصصون في شؤون الحركات المتطرفة، والبعض الآخر ما زال مجهولا، بفعل أن بعض هؤلاء ما زال ملاحقا من قبل القوات الأميركية، وفي قائمة أخطر المطلوبين ضمن الحرب على الإرهاب.
ورأى بن لادن في إحدى الوثائق المسرّبة أنه «إذا كانت لدى (القاعدة في بلاد الرافدين) القدرة على فتح جبهة ضد إيران وإلحاق الأذى بها، فالأفضل ألا تعلنوا ذلك، ولا تهددوا به، بل نفذوا ضرباتكم في صمت، وتفهموها أو تتركوها تفهم أنكم الضاربون، لأن هذا أحفظ لسمعتكم إذا لم تؤت الخطة ثمرتها، وأدعى لسهولة التفاوض مع إيران، إذا نالها الأذى الشديد». وحسب المتخصصين استخدم بن لادن في رسائله ألقابا مغايرة لأسماء قادة التنظيم تجنبًا لتوريطهم حال وقوع الرسالة في يد الأمن. وجاء في الرسالة المكتوبة بخط يد لـ«توفيق» الكلام عن ترتيب لقاء بأحد الأشخاص من طهران، كما يلي «الإيرانيون مهتمون بعمل ارتباط مع أحد من طرف (العمدة)، وذلك ليس فقط لوضع المرضى وإنما يهمهم بالدرجة الأولى الوضع في العراق، حيث إنهم يعتقدون أن الإخوة هناك وبالذات (الأزرق) ومجموعته لهم دخل في الاعتداءات على الأماكن والعتبات المقدسة لدى الشيعة». كذلك تحدث عن وجود صعوبة في إرسال مندوب من طرفه (أي بن لادن) إلى إيران للتباحث حول اتهام إيران لـ«القاعدة» بالمسؤولية عن استهداف الأماكن والعتبات المقدسة لدى الشيعة. وذكرت الرسالة، نقلاً عن الوسيط بين الطرفين، أن إيران ترغب في مقابلة مندوب عن بن لادن، ومستعدة لتقديم الدعم وترغب في بحث إمكانية التعاون إذا تمت تسوية بعض النقاط، لا سيما مع عجزها على حماية المقدسات الشيعية في العراق، وأنها راغبة على الأقل في الحصول على خطاب بتوقيع بن لادن، الذي رمز له في الخطاب باسم «العمدة»، يؤكد فيها أن الأماكن المقدسة لدى الشيعة ليست هدفًا للتنظيم واستهدافها مرفوض من قبله. وتعد هذه الوثيقة واحدة من وثائق الدفعة الثانية لزعيم «القاعدة» السابق الراحل التي أفرجت عنها واشنطن، مما صادرته القوات الأميركية بعد مقتله عام 2011 بمخبئه في مدينة آبوت أباد.
لقد طالب بن لادن من الجانب الإيراني بـ«إطلاق سراح جميع أسرى التنظيم فورًا، وبإعطائهم الفرصة لكي يرجعوا من حيث أتوا، وعدم الإساءة إلى المهاجرين وأطفالهم من أهل السنة». كما تحدث في رسالة أخرى موجهة إلى «أبو نواف» - الذي يعتقد أنه أحد أشقائه - عن الإقامة الجبرية في إيران لزوجته خيرية صابر «أم حمزة» وأولاده حمزة وفاطمة وأسماء وسعد وعثمان ومحمد وحامد، وأكد أن أخبارهم تصله وأنهم جميعًا بخير. وذكر أنهم ذهبوا إلى طهران هربًا من الاحتلال الأميركي في أفغانستان من دون تنسيق مع الحكومة الإيرانية، وأن الحكومة لم تستجب لمطالباته بإخراجهم إلى باكستان. وناشد بن لادن «أبو نواف» أن يخرجهم إلى منطقة وزيرستان بباكستان، وسمح له بالاستعانة بأخواله في تلك العملية، ووضع خطة في رسالة لزوجته لخروج حمزة على وجه الخصوص من إيران. وأشار إلى أهمية دعم معتنقي المذهب السني في إيران والدول المجاورة لها ولكن من دون أن يحدد شكلاً لهذا الدعم. وأشاد في كلمة وجهها لـ«الأمة الإسلامية» بـ«التخطيط الجيد الذي أدى لنجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، من حيث إدارة الثورة عبر قائد موجود في مكان بعيد حصين لا يختلط بالجماهير حفاظًا عليه، ليتمكن من الاستمرار في الإدارة والتحكم في قيادة الثورة».
غير أن التناقض ازداد في رسالة ثالثة إلى «كارم» تحفظ بن لادن فيها عن تهديد «القاعدة» لإيران من دون الرجوع إليه، وأكد أنه «لا داعي لفتح جبهة جديدة مع إيران... لأن لنا معها مصالح»، وقال: إن التنظيم كان قادرًا بالفعل على تنفيذ تهديداته لها، وكان رأيه الشخصي هو الانصراف تمامًا عن توجيه ضربات لها في الوقت الحالي. ولم يفضل فكرة أسر إيرانيين للتفاوض عليهم، ورأى تقديم التفاوض على أسرى «القاعدة».
وفي رسالة إلكترونية بدا أنها كُتبت على عجل إلى «الشيخ أبو عبد الرحمن»، تحدث قيادي بالتنظيم لم يذكر اسمه، عن اختلاف داخل «القاعدة» حول ضرب إيران، ورغبة «أبو سالم» (أحد القيادات) في التعجيل بذلك الضرب واعتباره أنه لا محالة من تنفيذه، ولكن بن لادن ارتأى أن ضرب إيران سيغير المعادلة في المنطقة تمامًا، وأن على التنظيم عزل سوريا أولاً ثم تحييد «حزب الله» في لبنان ليتمكن من ضرب إيران، معتبرًا أن هذا الاتجاه «لا محيد عنه سياسة وواقعًا».
وتناولت الرسالة أيضًا تخوفات داخل التنظيم من وقوع الحرب بين إيران والولايات المتحدة، واعتبر بن لادن أن التيار «المتشدد» سيكون أكبر المستفيدين من حرب مماثلة تفتح له الطريق إلى الشام، ولكنها ستعود عليه بخسائر أكبر سواءً فازت إيران فعظمت قوتها، أو فازت الولايات المتحدة فتمكنت من فرض السيطرة الكاملة على المنطقة.
وفي ملخص للنقاط المطروحة في أحد اجتماعات قيادة «القاعدة»، استقر الرأي على تأجيل التصعيد ضد إيران نظرًا لأن التنظيم غير قادر في ذلك الوقت على استعدائها، وحرصًا على الفرصة المتاحة لإطلاق سراح معتقلي التنظيم لديها، ولإظهار التعاطف مع من يضرب إسرائيل.
وهنا يقول أحد الخبراء في الشأن الإيراني «كانت هناك علاقة مهادنة بين التنظيم وإيران، وهو ما يؤكده عدم استهدافها بالعمليات الإرهابية رغم القرب الجغرافي مع معقل التنظيم في أفغانستان، لعدة أسباب منها أن إيران كانت تصلح ممرًا لعناصر التنظيم إبان الاحتلال الأميركي لأفغانستان، وكانت إيران تضغط على التنظيم في المقابل من خلال معتقليه لديها».
لم تكن سيطرة الإيرانيين على بن لادن عبر احتجاز عائلته واضحة المعالم، فالبعض يعتبر أن الأمر أكثر من ورقة ضغط وأن بن لادن أرسل أولاده عبر علاقاته مع الإيرانيين ليكونوا في مأمن، وإلا لماذا لم يسمح لهم بالعبور إلى المملكة العربية السعودية أو سوريا حيث تقيم أم بعضهم وهي نجوى الغانم.
ومن الأسماء التي برزت من قادة «القاعدة» وعوائلهم ويقيمون في إيران: القيادي سيف العدل وزوجته المصرية ابنة مصطفى حامد والأبناء وزوجته الباكستانية وأطفالها. ولقد خص بن لادن مصطفى حامد «أبو الوليد» وزوجته وفاء علي الشامي، التي هربت من الإقامة الجبرية ولجأت إلى السفارة المصرية في طهران بصحبة حفيدها، برسالة مطولة ضمن الوثائق يعلق فيها على كتابه «صليب في سماء قندهار» وآخر هو «حرب المطاريد».
كذلك ضمن الذين كانوا في إيران واعتقلوا لاحقًا سليمان جاسم بوغيث الكويتي زوج ابنة بن لادن، وأحمد حسن أبو الخير وأسرته، و«أبو حفص الموريتاني»، و«أبو سعيد المصري» وعائلته، وعثمان بن لادن الذي كان يعول زوجتين وولدين وبنتًا (يقال: إنه الآن في قطر)، وهناك من أبناء بن لادن محمد بن لادن الذي يعول بنتين وصبيًا وحمزة بن لادن (يبلغ من العمر 19 سنة وهو متزوج ويعول طفلين تعيش معه أيضًا والدته السيدة خيرية صابر وهي سعودية. وفي المجمع السكني أيضًا فاطمة (البالغة من العمر 24 سنة) مع زوجها وابنتها نجوى. وكذلك إيمان التي هربت إلى السفارة السعودية في طهران وكشفت «الشرق الأوسط» في حينه قصة لجوئها إلى السفارة قبل خروجها آمنة إلى حيث تعيش والدتها في سوريا.
إضافة إلى هؤلاء تشير التقارير أن أكثر من 100 من قيادات الأفغان العرب عاشوا في طهران مع عوائلهم، ومنهم من غادر إلى بلدانهم الأصلية بينما اختار آخرون العودة إلى وزيرستان (عرب باكستان) حسب تقارير لمنظمات متعاطفة مع «القاعدة».
من ناحية أخرى، عرف عن الإيرانيين عشقهم حيازة أوراق ضغط كثيرة ضد أعدائهم وحتى أصدقائهم. ولعل احتجاز عائلة بن لادن المكونة من 24 امرأة وولدًا وبنتًا لا علاقة لهم بما فعله والدهم ويفعله وقت الاحتجاز، يدل على أن إيران لا تتورع عن استخدام هؤلاء كورقة ضغط على بن لادن و«القاعدة». وهنا يقول ستيف كول، مؤلف كتاب «عائلة بن لادن: عائلة عربية في قرن أميركي» إن الإيرانيين كانوا يريدون السيطرة على عائلة بن لادن بصورة أو أخرى. ما يعني أنهم يريدون الضغط على الأب.
وأظهرت الوثائق أيضا، أن زعماء «القاعدة» كانوا يشعرون بقلق متزايد من وجود جواسيس بينهم وطائرات تجسّس من دون طيار وأجهزة تتبّع سرّية تنقل تحركاتهم مع استمرار الحرب التي تقودها الولايات المتحدة عليهم. كما تؤكد الوثائق أن التنظيم «كان يبدو مصمما على مواصلة (الجهاد العالمي) لكن الدوائر الداخلية لقيادته في باكستان وأفغانستان كانت تتعرض لضغوط على عدة جبهات». ثم في السنوات التالية بدا التنظيم صامدا من أفغانستان إلى شمال أفريقيا ونما منافسه تنظيم داعش وانتشر. وفي إحدى الوثائق أصدر بن لادن توجيهات لأعضاء في «القاعدة» يحتجزون رهينة أفغانيا بالتحسب لاحتمال وجود جهاز تتبّع مرفق مع مبلغ الفدية. وقال بن لادن في رسالة لأحد مساعديه «الشيخ محمود» إنه «من المهم أن تتخلص من الحقيبة التي تسلم فيها الأموال لاحتمال أن تكون تحمل شريحة تعقّب».
وتحدث عبد الحكيم الأفغاني القيادي في «القاعدة» في رسالة أخرى عن هروبه من المخابرات الإيرانية إلى باكستان مع من يُدعى «الحاج سلطان» موضحًا أنه شعر بمراقبة شديدة مع توطيد العلاقات بين مصر وإيران في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.. بينما ذكر بن لادن لأخيه خالد في إحدى الرسائل أن زوجته وولده حمزة وزوجته تمكنوا جميعًا من الهروب من إيران، في عملية معقدة قُتل خلالها عدد من رجال «القاعدة» وتم اعتقال البعض الآخر.
ودوّن بن لادن في رسالة وجّهها إلى «الشيخ محمود» (عطية الله الليبي) مؤرخة وفق التقويم الهجري بما يعادل أواخر عام 2009 «عليك أن تُبقي في ذهنك أنّه من الممكن أن يكون الصحافيون تحت المراقبة أيضًا. أمرٌ ليس بوسعنا أو بوسعهم التنبّه إليه، إن كان على الأرض أو عبر القمر الصناعي»، مضيفا: «كذلك ثمّة احتمال غرس رُقاقة في قطعة من معدّاتهم قبل وصولهم إلى الموقع لمقابلة أحد الإخوة».
حول موضوع الكنى، ضمن الكنى التي استخدمها الدكتور أيمن الظواهري الرجل الثاني في «القاعدة»، خلال رحلته ما بين القاهرة وباكستان وأفغانستان والسودان ثم العودة مرة أخرى إلى أفغانستان «الدكتور عبد المعز» و«الأستاذ نور» و«أبو محمد». وهناك رسالة وحيدة، حصلت عليها «الشرق الأوسط» نشرت قبل سنوات من كومبيوتر الظواهري، وقعها باسمه صراحة من دون استخدام الكنى التي كان يعرف بها، وقال فيها «إن الحركة عصية على الاستئصال أو التطويع أو الإكراه أو التنازل عن ثوابتها، رغم البطش الذي يصب عليها من دون توقف وبلا رحمة».
وكشف أصوليون في لندن لـ«الشرق الأوسط»، أن إقبال الجماعات على استخدام الكنى في التخاطب بين أعضائها يعود لعدة أسباب، فهي إعمال للسنة، باعتبار أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يطلق على أصحابه الكنى توثيقا للعلاقات فيما بينهم وبينه، لكنهم يستخدمونها أيضا في العمل السري لتضليل أجهزة الأمن، بحيث إذا سقط أحدهم في قبضة رجال الشرطة لا يستطيعون معرفة باقي أعضاء الخلية. وأوضح قيادي أن كنى المتشددين تتغير مع مراحل انتقالهم من بلد لآخر، مثل رفاعي طه رئيس «مجلس شورى الجماعة الإسلامية» السابق (الذي استقال من منصبه عام 1998)، وسلم إلى مصر من سوريا، كان يتنقل بكنية «صلاح الأسمر»، إلا أنه عرف بين قيادات الحركة بعد ذلك باسم «أبو ياسر»، وهو مؤلف كتاب «إماطة اللثام عن بعض أحكام ذروة سنام الإسلام» (طبع في لندن).
من جهته، قال الدكتور هاني السباعي، مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية، إنه «يفضل أنصار الجماعات الألقاب والكنى التي يشتهرون بها ويستمدونها من عبق التاريخ، ولا يرجع ذلك إلى التخفي والكتمان والسرية فقط، بل اقتداء بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يطلق تلك الكنى والألقاب على بعض الصحابة كما فعل مع الصحابي علي بن أبي طالب الذي لقبه بـ(أبي تراب) والصحابي عبد الرحمن بن صخر الذي لقبه بـ(أبي هريرة) لأنه كان يحمل هرة بين يديه، كما لقب الصحابي خالد بن الوليد بـ(سيف الله المسلول). كذلك تماشيا مع الحديث الشريف (المرء مع من أحب)، فحب الجماعات للصحابة وقادة الإسلام في التاريخ خاصة المشهورين بالبطولات والعلم، عظيم فنجد من يتكنى بـ(أبي حمزة) تأسيا بعم الرسول (صلى الله عليه وسلم) حمزة بن عبد المطلب، ومنهم من يتكنى بـ(أبي حفص) تأسيا بكنية الصحابي عمر بن الخطاب، ومنهم من يتكنى بـ(أبي بكر) تأسيا بالصحابي عبد الله بن عتيق (أبو بكر الصديق)، ومنهم من يختار كنية (أبي مصعب) تأسيا بالصحابي مصعب بن عمير، ومنهم من يتكنى بـ(أبي قتادة) نسبة إلى الصحابي أبي قتادة الأنصاري».

صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا («الشرق الأوسط»)



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».