الفنان الفلسطيني أمجد غنام في «راس وروس»

أعمال معرضه في رام الله صرخات في وجه القمع

إحدى لوحات المعرض
إحدى لوحات المعرض
TT

الفنان الفلسطيني أمجد غنام في «راس وروس»

إحدى لوحات المعرض
إحدى لوحات المعرض

«من بين احتمالات الموت المؤجل، إما قبول الصحراء، أو الخروج منها بحرًا.. ومن بين احتمالات الموت المؤكد، إما اختناقًا بكيس داعش أو إسرائيل أو أي قمع كان، أو الاختناق في أقبية الأنظمة من جهة أخرى.. من بين جميع الاحتمالات يبقى احتمال الحياة هو الأقل حظًا.. غابت جميع الوجوه التي أعرفها ورسمتها مرارًا تحت الأقنعة، أو تحت أكياس الخيش.. موت واحد بمساحة العالم.. قمع باق ويتمدد».. هذا ما وقع باسم الفنان أمجد غانم في مقدمة الكتب الخاص بمعرضه «راس وروس»، واحتضنه «جاليري1» في مدينة رام الله، مؤخرًا.
والمتجول في المعرض، ما بين لوحات «أرض السواد»، و«غارة»، و«وطن»، و«قيم»، و«نزوح»، و«درس»، و«أحمد عبد الكريم جواد»، و«أمام المجزرة»، و«حرية»، وغيرها، يلاحظ أن غنام يقاوم بلوحاته العنف المستشري في فلسطين والعالم، ويعمل على تعريته، في لوحات سوداوية لا تقل عن سواد العالم المعاش، وإن كان تحاكيه بشكل أو بآخر، عبر لوحات ارتبط بماسي الحروب لفنانين عالميين كبار، أو التهكم اللوني والتشكيلي الذي غلبت فيه الواقعية البعيدة عن «الكلاشيهات» على الأمل الذي حاول اللجوء إليه بلوني الزهر، والأزرق الفاقع.
ويقترح علينا أمجد غنام أعمالاً فنية ورسومات تنوء تحت وطأة الأسر والمنع والاحتجاز.. يأخذنا إلى حيث نعيش واقع وقسوة حياة مصادرة ومنهكة، ويحضر إلينا التجربة الإنسانية، وهو المسكون بهذه الفكرة، على قماش اللوحة بصيغ متعددة.. لوحات تطرح فكرة أزمة الإنسان داخل السجن أو السجن الذي في داخله، وكأنه لم يخرج تمامًا من تجربة الاعتقال التي عاشها في سجون الاحتلال، وهو المسكون بأقرانه من المعتقلين السياسيين، بآمالهم وأحلامهم المحبطة.
ويفرد غنام ألوانه الباهتة نسبيًا على مساحة اللوحة، وهو يجتهد في وضع تلك العلامات والخطوط والكتل، مستحضرًا بذلك الجسد الآدمي المنتهكة كينونته من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، حيث تسجل لوحات «راس وروس» محنة المعتقل وموضوع الأسر والسجون المتلاصقة التي تتعاظم بدل أن تضمحل وتزول، وكأن اللوحات تدعونا ربما إلى أن نمد يدنا لنزيل غطاء الرأس عن الوجوه والعيون الممنوعة من البصر، أو لنتحسس ذلك الغطاء وتلك الغشاوة على وجوهنا.
ويلفت الفنان خالد حوراني إلى أن غنام «يأخذنا إلى درس راس وروس الشهير في كتب القراءة الأولى لخليل السكاكيني، ليضعه هنا في معادل بصري جديد، يبحث في المعنى الحقيقي للقراءة التي تقترحها الحياة الآن وهنا، ومن حضور الرأس لا بمعناه التوضيحي كما في الدرس، وإنما الرأس المغطى والمعصوب العينين، وكذلك عن حضور الجسد كموضوع للقمع والقهر.. رؤوس وقامات تحاول التمرد تارة، والسخرية من قيدها وهي تثور تارة أخرى، فيبدو أن الكيس والعتمة ليست عناصر مدخلة على الشخوص في اللوحة فقط، وإنما على اللوحة نفسها أيضًا، وهي من نفس خامتها في غالب الأمر.
إن ما يريده أمجد هو أن نتقرب من هذه التجربة الجسدية دون أن يورطنا في النواح والشكوى ودون رفع الشعارات، وهو بذلك يتركنا وحدنا في زمن تعصف به أزمات، وتضع كل حياة الإنسان، وليس حريته فقط، على كف عفريت، بل على أكف عفاريت الاحتلال والاستبداد والقمع، وكذلك الجهل والإرهاب، إلا أن هذه اللوحات تنم عن قدرة على الإنشاء والتخطيط والرسم والتلوين، ويصبغها الفنان بذكاء وهالة من السحر والغموض الآسر تجعلها أيضًا موضوعًا للحب والتعاطف الإنساني لا بتوقيت السجن، أي سجن، بل بتوقيت رام الله والقدس والملتبس».
يقول غنام في لقاء لنا معه: «راس وروس هو درس اللغة العربية الأول في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وكتبه خليل السكاكيني ورسمت رسوماته الفنانة الفلسطينية الراحلة فاطمة المحب، والمعرض عبارة عن إعادة قراءة لذلك الدرس في ظل الظروف التي نعيشها ونعايشها اليوم، والتي يفرضها علينا الواقع السياسي في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة. نقطة البداية كانت من محاولة محاكاة الأوضاع الحالية في سوريا، ونقاط الاشتباك والتشابه مع حدث معنا كفلسطينيين، من قتل واعتقال وتجويع وغيرها».
وهناك لوحات تروي حكايات معينة، أبرزها لوحة «أحمد عبد الكريم جواد»، وتروي بالرسم حكاية مواطن سوري عرض سيارته للبيع مقابل خمسة كيلوات من الأرز، وبعد أسبوع مات جوعًا، فرسم غنام صورته على طريقة الأيقونة المسيحية، مستبدلاً هالة القداسة بـ«كيس خيش» فارغ، هذا الكيس الحاضر في الكثير من لوحات المعرض، بما يحمله من رمزيات الاعتقال، والاختناق، والقمع، وهي الحالات التي باتت تكبل وتحاصر وتكاد تكون عناوين يومية في حيوات الفلسطينيين والعرب أيضًا هذه الأيام.
أما «الستارة الزرقاء»، فيحاكي فيها غنام لوحة «الغارنيكا» لبيكاسو، التي رسمها في عام 1937 حول الحرب الأهلية في إسبانيا. وحكاية رسمها تعود إلى المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول حول الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، حيث تمت تغطية اللوحة حينها بستارة زرقاء، ولقي هذا التصرف انتقادًا كبيرًا من نقاد وفنانين وإعلاميين، وبررت الخارجية الأميركية هذا التصرف بأن الخطوط الحادة للوحة كانت ستؤثر على جودة تصوير المؤتمر الصحافي، في حين وجد غنام ما قاله قبله الكثير من الساسة وغيرهم، بأن وجود اللوحة التي تتحدث عن مآسي البشرية بسبب الحروب ستصعب من مهمة باول في إقناع الأميركيين والعالم بجدوى الغزو الأميركي على العراق، والحروب المتعددة لجيشها في العراق وأفغانستان وغيرها من الدول بدعوى «مكافحة الإرهاب»، فرسم «الغارنيكا» مغطاة بستارة زرقاء على صورة معتقل من معتقلي سجن أبو غريب، على الشاكلة التي خرجت فيها بعض الصور المسربة عن حادثة «أبو غريب» الشهيرة، والتي تمت فيها تعرية السجناء في ذلك السجن بالعراق، والتقاط صور «سيلفي» لمجندة ومجندين أميركيين مع العراة من المعتقلين العراقيين.



رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
TT

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الرقائق الذهبية، زُيّن بعض منها بنقوش تصويرية تتميّز بطابعها الفني المتقن. تعود هذه المجموعة إلى الحقبة التي عُرفت بها هذه البلاد الجزرية باسم تايلوس في القرون الأولى من عصرنا، وتشهد لتقليد فني جنائزي شاع في نواحٍ عدة بالشرق الأدنى، وبلغ ساحل الخليج العربي.

خرجت هذه الرقائق الذهبية من مقابر عدة موغلة في القدم، تقع اليوم في المحافظة الشمالية، وتطل على شارع البديع. تُعرف هذه المقابر بأسماء القرى التي تجاورها، وهي مقبرة أبو صيبع، ومقبرة الشاخورة، ومقبرة الحجر. تقع أولى هذه المقابر على تل دائري يبعد نحو 8 كيلومترات غرب المنامة ونحو 500 متر جنوب دوّار جنوسان عند شارع البديع، وهي من المواقع الأثرية التي شرع فريق بحريني في استكشافها منذ عام 1983. أظهرت أعمال المسح قبوراً عدة، حوت مجموعات من الأواني الفخارية والزجاجيات والحلى، دخل قسم كبير منها القاعة التي تحمل اسم تايلوس في متحف البحرين الوطني بالمنامة، ومنها 4 رقائق بيضاويّة مصنوعة من الذهب، تُشكّل زوجين متشابهين من الأقراص كما يبدو.

عُثر على زوج من هذه القطع الذهبية عند أعلى صدر أحد الراقدين في هذه المقبرة، وعُثر على الزوج الآخر المشابه له عند أسفل الصدر، ممّا يوحي بأنها مشابك صُنعت لتثبت عند أطراف رداء الجثمان أو كفنه. يحمل كل زوج من هذه الأقراص صورتين منقوشتين، تمثّل الأولى وجه رجل ملتحٍ يظهر في وضعية جانبية، وتمثّل الأخرى قامة نسر مجنّح يظهر كذلك في وضعية مماثلة. تحتلّ صورة الرجل مساحة بيضاوية مسطّحة يبلغ طولها 5.3 سنتيمتر، وتظهر على شكل نقش ناتئ حُدّدت تفاصيله بأسلوب يجمع بين الدقة والإتقان والرهافة. الطابع الفني يوناني، مع أنف طويل، وعين يحدّها جفنان بارزان، وفم مطبق تحيط به لحية تنسدل من أعلى الوجنتين إلى أسفل الذقن. يرتفع هذا الوجه فوق عنق ترتسم فوق كتفين يعلوهما ثوب يوناني تقليدي، كما توحي ثناياه الملتفة حول المنكب. في المقابل، تحتل صورة النسر مساحة يبلغ طولها 4 سنتيمترات، وتُمثّل طيراً يقف منتصباً، فاتحاً جناحيه المنبسطين في الفضاء.

تتكرّر صورة هذا الرجل الملتحي مع اختلاف في التفاصيل على قطعتين ذهبيتين من الطراز نفسه، مصدرهما مقبرة الشاخورة التي تقع شمال غربي القرية التي تحمل اسمها، على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع. وهي مقبرة كبيرة تُشكّل موقعاً كبيراً يشمل سلسلة من التلال المنخفضة، تحوي مجموعة من مدافن تعود لفترة تايلوس. تظهر صورة الرجل الملتحي على صفحة منمنمة مستطيلة، كما تظهر على صفحة دائرية، وتوحي ملامحها بأنها تمثّل وجهاً واحداً يختزل في وحدته شبهاً مثالياً يتجاوز الملامح الفرديّة.

يظهر المثال الأنثوي على قرص دائري يبلغ طول قطره 3.2 سنتيمتر، مصدره كذلك مقبرة الشاخورة. الأنف طويل ومتصل بالجبين، والعين مفتوحة وسط هدبها، والثغر صغير. الوجنة مكتنزة، والعنق منتصب، ويحدّه عقد تنسدل منه سلسلة من الحبات الرباعية الأضلاع. الشعر مرفوع إلى الوراء، مع جدائل معقودة تبلغ أعلى طرف الظهر. تبدو هذه الصورة المنقوشة على صفحة رقيقة من الذهب مماثلة للصور المنقوشة على الجواهر التي يُشار إليها باسم «قميو»، وهو اسم خاص بصنف من الجواهر، عُرف في ميدان الفنون الفاخرة الكبرى بشكل واسع على مدى عصور.

إلى جانب هذه الرقائق الذهبية التي تتبنّى أسلوباً تصويرياً، تحضر رقائق أخرى تحمل طابعاً تجريدياً، مصدرها مقبرة الحجر التي تتبع قرية تحمل هذا الاسم، تقع كذلك على شارع البديع، وتحديداً بين قرية أبو صيبع وقرية القدم. تنقسم هذه الرقائق إلى مجموعتين. عثرت بعثة محلية على المجموعة الأولى خلال عام 1971، وهي مكونة من قطع صغيرة متعددة الأشكال صُنعت لتزيّن أكاليل خاصة بالراقدين. وعثرت بعثة محلية أخرى على المجموعة الثانية بين عام 1992 وعام 1993، وهي مكوّنة من رقائق مستطيلة ذات أطراف مقوّسة، صُنعت لتثبّت فوق أفواه الراقدين في قبورهم.

تعكس قطع البحرين الذهبية تقليداً فنياً شاع في مقدونيا القديمة كما في مواقع تقع اليوم في مناطق حدودية من بلغاريا

استُخدم الذهب منذ أقدم العهود في ميادين فنية متعدّدة، وتعدّدت أشكاله بين حضارة وأخرى، وبين حقبة وأخرى. في «اللطائف والظرائف»، نقل الثعالبي عن شداد الحارثي في «باب مدح الذهب»: «الذهب أبقى الجواهر على الدفن، وأصبرها على الماء، وأقلّها نقصاناً على النار، وهو أوزن من كل شيء إذا كان في مقدار شخصه، وجميع جواهر الأرض إذا وضع على الزئبق في إنائه طفا، ولو كان ذا وزن ثقيل وحجم عظيم، ولو وضعت عليه قيراطاً من الذهب لرسب حتى يضرب قعر الإناء، وله حسن وبهاء في العيون، وحلاوة في الصدور، ومنه الزريابات والصفائح التي تكون في سقوف الملوك، وعليه مدار التبايع منذ الزمان الأول والدهر الأطول».

افتتن أهل الأرض بالذهب «منذ الزمان الأول والدهر الأطول»، وجعلوا منه ثمناً «لكل شيء»، كما تشهد الحضارات المتعاقبة على هذه الأرض. تعكس قطع البحرين الذهبية تقليداً فنياً راسخاً شاع في مقدونيا القديمة، كما في مواقع تقع اليوم في مناطق حدودية من بلغاريا. ويتمثّل هذا التقليد في صناعة رقائق من الذهب تستقر على أعضاء معيّنة من الجثامين، وعلى مواقع محدّدة من الأكفان. امتدّ هذا التقليد إلى الشرق الأدنى، وشاع في الساحل الفينيقي، كما تشهد قطع عُثر عليها في صيدا وجبيل وبعلبك وحمص.

بلغ هذا التقليد الجنائزي نينوى في شمال العراق، ووصل منه كما يبدو إلى الجزيرة العربية، كما تؤكد القطع التي خرجت من مقابر البحرين، والقطع المشابهة التي عُثر عليها في نهاية القرن العشرين بمدفن شُيّد في شرق مستوطنة ثاج التي تتبع اليوم شمال شرقي المملكة العربية السعودية، وتقع على بعد نحو 95 كيلومتراً من مدينة الجبيل غرباً، وسط وادٍ ضحل يمتدّ على الطريق التي كانت تسلكها قديماً القوافل التجارية.