طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (1 من 7): شركات أمن غربية تحط رحالها بطرابلس.. وأمراء الحرب يتحسبون للأسوأ

ـ«الشرق الأوسط» ترصد الأوضاع داخل المدينة: منتجعات على الشواطئ باتت مرتعًا لضباط الاستخبارات

اثنان من تنظيم داعش يتمركزان قرب ضاحية الصابري في بنغازي في محاولة لمنع الجيش الوطني من التقدم باتجاه مواقع المتطرفين في المدينة («الشرق الأوسط»)
اثنان من تنظيم داعش يتمركزان قرب ضاحية الصابري في بنغازي في محاولة لمنع الجيش الوطني من التقدم باتجاه مواقع المتطرفين في المدينة («الشرق الأوسط»)
TT

طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (1 من 7): شركات أمن غربية تحط رحالها بطرابلس.. وأمراء الحرب يتحسبون للأسوأ

اثنان من تنظيم داعش يتمركزان قرب ضاحية الصابري في بنغازي في محاولة لمنع الجيش الوطني من التقدم باتجاه مواقع المتطرفين في المدينة («الشرق الأوسط»)
اثنان من تنظيم داعش يتمركزان قرب ضاحية الصابري في بنغازي في محاولة لمنع الجيش الوطني من التقدم باتجاه مواقع المتطرفين في المدينة («الشرق الأوسط»)

بينما تتقدم قوات الجيش الوطني الليبي في بنغازي، وفي بعض جبهات الشرق والجنوب، منذ عدة أيام، بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، تتزايد حالة الارتباك والغضب في العاصمة الليبية طرابلس بين قيادات سياسية وعسكرية لميليشيات تسيطر على العاصمة ومدن مجاورة لها. تحارب هذه الميليشيات الجيش وسلطة البرلمان الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق في شرق البلاد، وتخشى، فوق هذا، من تدخل دولي وشيك. أما من ناحية شاطئ بحر طرابلس، فيأتي صوت الموسيقى الخفيفة مع رائحة طبخ الطعام من مقار الفرق الأمنية الأجنبية التي وصلت أخيرا إلى هنا. وفي جولة قامت بها «الشرق الأوسط» في العاصمة الليبية، تبيَّن مدى الفوضى التي تعيشها المدينة التي باتت مرتعا للميليشيات، وترسانات الأسلحة، ورجالات استخبارات من دول غربية، من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، أرسلت ضباطا متقاعدين ورجال مخابرات سابقين، لجمع معلومات عن مجريات الأحداث. هؤلاء يتبعون شركات أمنية خاصة. هم أكثر الناس هدوءا في العاصمة ومدن أخرى حطوا فيها، فيما يعده البعض مقدمة لشن عمليات واسعة في هذا البلد شاسع المساحة، ضد المتطرفين خصوصا تنظيم داعش. أما قيادات الميليشيات في طرابلس، فيبدو عليها الارتباك والعصبية. وجمعت «الشرق الأوسط» من خلال تحقيقات كثيرة، عددا من الوثائق وسجلت مشاهدات، وشهادات، توثق، الحالة المرتبكة جدا في العاصمة الليبية، التي يحتلها أمراء الحرب الذين أصابهم اليأس من تحقيق أي انتصارات، في وقت باتوا يتخوفون فيه من تدخل دولي. هذه الحالة انعكست على عائلات قيادية وعسكرية وأمنية بدأت في الرحيل عن العاصمة ومدينة مصراتة المجاورة إلى خارج البلاد، مع عملية محمومة لجمع العملات الصعبة وصلت إلى نصف مليار دولار خلال 48 ساعة، بحسب تقارير استخباراتية تابعة لحكومة طرابلس.
حينما وصل خبر دخول قوات الجيش الوطني إلى بنغازي التي تبعد عن طرابلس نحو ألف كيلومتر، حدث لقاء عاجل في الليل، في رواق داخل فندق ريكسوس في طرابلس، حذَّر فيه العقيد مصطفى نوح، رئيس جهاز المخابرات العامة، التابع للسلطة التي تديرها الميليشيات في العاصمة، من خطورة تقدم قوات حفتر. أبلغ العقيد مصطفى، وهو من المنتمين لجماعة الإخوان، السيد نوري أبو سهمين، رئيس المؤتمر الوطني المنتهية ولايته (أي البرلمان السابق المستمر في عقد جلساته في طرابلس) بأن «الظروف تسير إلى الأسوأ». في اليوم التالي انعقد اجتماع في الرواق نفسه، وجرى وضع خطة. لكن نشبت معارك جانبية بين قادة العاصمة أيضا.
«الخطر ليس من قوات حفتر فقط.. حتى القبائل الموالية للقذافي بدأت تنتفض ضدنا.. ماذا نفعل يا فضيلة الشيخ؟». بهذه الطريقة سأل أبو سهمين، الأسبوع الماضي، الشيخ الصادق الغرياني، مفتي ليبيا الذي يوالي سلطات طرابلس.
أعد مراقبون غربيون تقارير عما يجري. وتمكنت «الشرق الأوسط» من الاطلاع على جانب منها. يسود اعتقاد بين قادة الميليشيات بأن القبائل المحسوبة على القذافي بدأت تأخذ زمام المبادرة وتستغل انتصارات حفتر للانقضاض على الخصوم، أو هذا ما ورد في بعض تحليلات جرى إرسالها إلى عواصم ما وراء البحار.
الغرياني الذي أصبح قطاعٌ كبيرٌ من الليبيين يرفض فتاواه ويتجاهل تعليماته، أفتى لرئيس المؤتمر المنتهية ولايته، في جلسة خاصة بأن «أنصار القذافي يعاملون معاملة المشركين»، وقال إن «قتالهم واجب شرعي». وبعد ذلك بعد أيام أصدر فتوى تدعو للجهاد ضد قوات الجيش. في الجلسة نفسها، اقترح الغرياني عدة مقترحات لم تظهر للعلن، ومنها سحب الجنسية الليبية من المحسوبين على القذاف. مثل هذه المتغيرات محل مراقبة أيضا من الأجانب الذين استقروا في منتجعات كان يسكنها فيما مضى خبراء شركات النفط الدولية في عهد القذافي.
ويقول أحد المصادر من قيادات طرابلس: إصدار بيان رسمي، بعد ذلك بعدة أيام، عن الدعوة إلى الجهاد، من جانب المفتي، ضد حفتر في بنغازي، كان أمرا متوقعا، وإن كانت لهجة البيان أقل حدة مقارنة بما دار في الجلسة الغرياني وأبو سهمين. ضابط مخابرات أميركي متقاعد، يعمل ضمن فرقة أمنية لها مقر يقع خلف منتجع «سيدي عبد الجليل» السياحي على البحر في ضاحية جنزور في العاصمة التي يسودها الارتباك.. يرى أنه أصبح من الصعب فهم ما يريده قادة الميليشيات. يقول وهو يعد المكرونة بالطريقة الليبية ويقلب معجون الطماطم في القدر المنصوب فوق النار: يغيِّرون الولاء لبعضهم بعضا ليلة بعد ليلة. اليوم أصدقاء، لكن يمكن أن يقتتلوا غدا. حتى طريقة تعامل قادة الميليشيات مع المفتي «طريقة ليست طيبة.. يعملون على إجباره على قول ما يريدون».
نوافذ المطبخ أصبحت، مثلها مثل باقي نوافذ فيلات المنتجع، ذات زجاج معتم ومضاد للرصاص. الدخول إلى المقار الأمنية للفرق الأجنبية، ليس بالأمر الهين. توجد في الشوارع البعيدة التي يمكن أن تؤدي إلى هنا حواجز من الخرسانة المسلحة.
أما الطرق الفرعية الأخرى فقد جرى إغلاقها بالكامل. في الشارع الذي يؤدي إلى داخل المنتجع هناك نقطتان للحراسة.. الأولى وهي الأقرب إلى بوابة المنتجع يحرسها أجانب، أما الثانية فتحرسها ميليشيات بأجر تتقاضاه من الشركة الأمنية في الداخل. بالنسبة للحركة في شوارع المدينة فتتم بسيارات مصفحة. ويوجد مقر آخر للفرق الأمنية في منطقة كورنثيا السياحية أيضا. يقول الضابط الأميركي بشأن علاقة قبائل القذافي بحفتر، إنها ما زالت أمرا مستغلقا على الفهم بالنسبة لكثيرين حتى في الولايات المتحدة.. «لا صدام بينهما حتى الآن، بل يوجد شبه تكامل في عدة جبهات بين ضباط معروف أنهم لا يُقرّون بثورة 17 فبراير التي قضت على النظام السابق، وضباط من الموالين للثورة».
ويضيف أن «الواقع هو أن جيش حفتر يقاتل تحت راية ثورة فبراير، أما جيش القبائل المشار إليها فيرفض الاعتراف بعلم الثورة ذي الألوان الثلاثة.. لكن أعتقد أن من يريد أن يقلق على ليبيا عليه أن ينظر إلى تنامي قوة (داعش)».
على الجانب الآخر يقدم الدكتور محمد الزبيدي، الذي شغل موقع رئيس اللجنة القانونية لمؤتمر القبائل الليبية لعدة أشهر، تفسيرا لهجوم ميليشيات طرابلس والمفتي الليبي على القبائل المحسوبة على القذافي.
يعد الزبيدي من الشخصيات الرافضة لسلطة الميليشيات، وينتمي لقبيلة ورفلة التي ينظر إليها البعض على أنها من القبائل التي ترى أن ثورة فبراير «مؤامرة على الدولة الليبية». يقول لـ«الشرق الأوسط» إن قادة ميليشيات العاصمة يترنحون، ويشعرون بدنو الهزيمة، خصوصا بعد الانتصارات التي حققها الجيش في بنغازي.
أيا ما كان الأمر، فإن الأجواء تعكس حالة من التوتر وانعدام الثقة. بدأ عدد من قادة ميليشيات طرابلس ومدينة مصراتة المتمردة على السلطات الشرعية، في البحث عن مسارات جديدة يمكن أن تؤمن لهم المستقبل.
في مكتبه المحمي بعناصر من الميليشيات، وضع العقيد نوح تقريرا بهذه المعلومات. جرى توزيع التقرير الاستخباراتي قبل أيام، على نطاق ضيق، أي على مستوى مسؤولي المؤتمر الوطني، ومسؤولي ما يسمى بحكومة الإنقاذ المنبثقة عن المؤتمر، وهي برئاسة السيد خليفة الغويل. كما وصلت نسخ من مثل هذه التقارير إلى مقار أمنية على ساحل طرابلس.
من وراء الستار تدور معركة أخرى بين جماعات نفوذ عابرة للحدود تعمل انطلاقا من العاصمة ويصل نشاطها إلى مدن أخرى. كل يوم أو يومين تصل الأنباء عن قصف بالطيران لمواقع تابعة للمتطرفين في صبراتة وسرت ودرنة. مرة طيران أميركي ومرة طيران ليبي ومرة طيران يطلق عليه هنا «مجهول الهوية».
كلما ازدادت حدة المعارك، حملت الريح أصداء مداولات وتعليمات وجدل يمتد من طرابلس، ويتخطى البحار. تقارير عبر البريد الإلكتروني وعبر الهواتف المربوطة بالأقمار الاصطناعية، تعكس كلها حالة التنافس المحمومة للسيطرة على هذا البلد. برقيات تتضمن خططا واستغاثات ومؤامرات.
تقول برقية أرسلها من طرابلس أحد قادة جماعة الإخوان من الليبيين الذين يحملون الجنسية الأميركية، إلى وزارة الخارجية في واشنطن: دول الجوار لديها أطماع في ليبيا. فلنتعاون من خلال مجلس ليبي أميركي لتحقيق المصالح المشتركة والتصدي لمن يريدون نهب ثروات الليبيين. واقترح الرجل، وهو قيادي في حزب البناء والتنمية التابع للإخوان في ليبيا، على الأميركيين، البناء على مجلس أهلي «ليبي أميركي» قائم بالفعل. جرى تأسيس هذا المجلس على يد مجموعة من جماعة الإخوان الليبية في واشنطن في بداية تسعينات القرن الماضي. يشغل مسؤولون في حكومة الميليشيات وفي المؤتمر الوطني في طرابلس، عضوية المجلس نفسه.
برقيات أخرى مرسلة من رجل يدعى «الشيخ ياسين» من مكتب الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي، في العراق، وقد أصيب بالغضب من انتصارات الجيش الوطني الليبي في بنغازي. البرقية وصلت إلى القائد الفعلي لتنظيم داعش ويدعى محمد المدهوني، ويتخذ من منتجع على بحر طرابلس، مقرا له يطلق عليه «دار الحسبة»، ضمن مقرات أخرى في العاصمة. قال له الشيخ ياسين: «حفتر يتقدم وأنتم تأكلون وتنامون ما هذا؟».
أما في اجتماع فندق ريكسوس فقد اشترك في الحديث أمام العقيد نوح، قيادات محسوبة على الإخوان وأخرى على الجماعة الليبية المقاتلة، وثالثة من الموالين لـ«داعش». استمع العقيد نوح للشروح التي قدمتها هذه القيادات للتصدي للجيش الوطني، وللوقوف ضد خطر القبائل الليبية.
مع هذا تبدو الصورة العامة أكبر من خطط الميليشيات المتربصة ببضعها. يوجد وكلاء ينتظرون من وراء البحار. البعض يحاول تقليل الخسائر للوصول إلى منابع النفط والغاز، والبعض يسعى لقلب الطاولة.
في ليل العاصمة تتحرك سيارات الميليشيات المسلحة، وكأنها تنطلق بوقود من الغضب. إطاراتها تطلق صرخات على الإسفلت.. في بعض الأحيان تسمع أصوات لطلقات الرصاص. ومن السماء المظلمة يتناهى هدير أصم لطائرات تمشط الأجواء على مدار الساعة. الاجتماع التالي الذي انعقد في ريكسوس أيضا، في وجود رئيس المخابرات، قال فيه أحد قادة الميليشيات للعقيد نوح: «بالتأكيد لديك علم بأن الطائرات الروسية دخلت في القصة هي الأخرى. تراقبنا، وتتنصت علينا». ينظر قادة طرابلس بعين الريبة لعدد من زعماء منطقة الزنتان القريبة من العاصمة، باعتبار أنهم أكثر ميلا للتعامل مع الروس، بينما تشير التحركات على مساحات الأراضي الملحية السبخة، إلى أن الفرق الأمنية وصلت حتى منطقة بدر الواقعة في الأحراش الغربية من طرابلس.. «هذا يعني أنها تتخوف من وجود روسي في المنطقة».
هكذا يشير أحد الضباط الذين يعملون مع العقيد نوح، ويضيف لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «توجد خشية من الروس.. نعم. لهذا تجد ترحيبا من جانب قادة في ميليشيات العاصمة بالفرق الأمنية الغربية.. يعدون ذلك نكاية في الروس، ونكاية أيضا في محاولات المصريين مد أنوفهم داخل العاصمة». يبدو أن أكثر المناطق الآمنة في طرابلس هي القرى السياحية القديمة المطلة على البحر، والتي أصبح يقيم فيها بعض شركات الأمن الغربية.. هناك ثلاث شركات على الأقل أمكن رصدها، وهي تضم عسكريين متقاعدين وعملاء أجهزة مخابرات سابقين، لديهم خبرة في التعامل مع المجاميع المسلحة.. خبرة مستمد على ما يظهر من العمل فيما مضى في مناطق ملتهبة مثل العراق وأفغانستان.
بعد عبور عدة بوابات وحواجز خرسانة، يمكن الدخول إلى منطقة فيلات «كورنثيا»، التي تقع قرب مدينة «سيدي عبد الجليل» السياحية. بعض هؤلاء الضباط يتحدث اللغة العربية، مثل العقيد جون الذي يمتلك شبكة علاقات متشعبة مع عناصر فاعلة داخل عدة ميليشيات في العاصمة. لا يقتصر الأمر على هذا. بل لدى جون قدرة على صناعة وجبات ليبية محلية.. المكرونة بالطماطم والفلفل، وأطباق البازين.
في اتصال من واشنطن، يقول باراك بارفي، الباحث الأميركي في مؤسسة «أميركا الجديدة»، لـ«الشرق الأوسط»، إن الوضع حاليا في ليبيا سيئ للغاية.. «البعض في الولايات المتحدة يريد التدخل عن طريق تحالف دولي في ليبيا، لكن الرئيس باراك أوباما لا يريد ذلك. وهذه مشكلة كبيرة. لا أحد يريد أن يتعامل مع الوضع المحلي المعقد». أكثر المتخوفين من تنامي نفوذ «داعش» في ليبيا هي دول الجوار والدول الواقعة على الضفة الأخرى من السواحل الليبية على البحر المتوسط، أي أوروبا. لكن أوروبا لا يبدو أنها تريد أن تخوض مغامرة في هذا البلد دون حضور أميركي قوي.
يقول بارفي الذي عمل لوقت طويل في دول المنطقة بما فيها ليبيا وسوريا، إنه، ومما لا شك فيه، أن الجانب الأميركي يراقب «داعش» ويراقب المتطرفين في ليبيا في الفترة الأخيرة.. «فبعد (داعش) في العراق وسوريا، تُعد ليبيا أهم مكان لـ(داعش) في العالم. وتوجد مخاوف من أن عناصر التنظيم في ليبيا يمكن أن تصل إلى أوروبا». لا يخفي بارفي دهشته من العلاقات الغريبة التي تحكم تحركات القوى الفاعلة على الأرض في ليبيا. الخطر «داعش»، ويفترض أن كل القوات تشارك في مواجهة هذا الخطر، بما فيها ميليشيات طرابلس (التي يعمل بعضها تحت لواء قوات فجر ليبيا)، لكن ما لا يفهمه الضباط الغربيون هنا هو أن قوات طرابلس تحارب حفتر، الذي يحارب «داعش».
يقول بارفي: «قوات فجر ليبيا أيضا تقاتل قوات حفتر، بدلا من مقاتلة (داعش). تنظيم داعش يمثل اليوم الخطر الأكبر على ليبيا، بعد أن انتشر ليس فقط في ليبيا، ولكن في تونس أيضا، ومن الممكن أن يصل إلى مصر». وسقط في تونس قبل أيام عشرات القتلى في هجمات للتنظيم المتطرف، بينما تعاني مصر من هجمات التنظيم بين وقت وآخر خصوصا في شبه جزيرة سيناء. يضيف المحلل الأميركي بارفي قائلا: أعرف أن هناك اتصالات بين الأميركيين وكل القوى الوطنية على الأرض في ليبيا. لكن كل واحدة من هذه القوى تعلن رفضها لأي تدخل أميركي، إذا شعرت أن هذا التدخل يمكن أن يكون في صالح قوى أخرى منافسة لها.. «إذا قررت أميركا دعم قوى معينة في داخل ليبيا، فإن هذه القوى تكون مؤيدة للتدخل الأجنبي، لكن إذا رأت أن أميركا ستدعم قوى ثانية، فإن الأولى تقول إنها ترفض مثل هذا التدخل».
بعيدا عن حسابات الميليشيات، وبالتزامن مع التقدم الذي أحرزه الجيش الليبي في بنغازي، وجهت الولايات المتحدة ضربات بالطيران لمقر لـ«داعش» في بلدة صبراتة القريبة من الحدود مع تونس، بينما شنت طائرات أخرى «مجهولة الهوية» غارات على مواقع للتنظيم المتطرف في سرت قبل عدة أيام. لكن السؤال الشائع في المنطقة الشرقية من ليبيا، يقول: لماذا لا تتعاون أميركا بشكل مباشر مع الجيش الوطني لتخليص البلاد من «داعش» وباقي الميليشيات المتطرفة. وتعكس الإجابة شكوكا في النيات الغربية.
غدًا في الحلقة الثانية:
* جمع مليارات الدولارات من الأسواق وانخفاض العملة الليبية وتراجع أسعار العقارات
* هروب عائلات لقادة سياسيين وعسكريين من طرابلس ومصراتة إلى خارج البلاد



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري