ليبيا الجديدة تصارع الفوضى

الخبراء: الفوضى الحالية كانت نتيجة حتمية للتدخل العسكري.. وواشنطن تدرس التدخل مرة أخرى

أطلال وبقايا من بنغازي عقب قصف مستمر بين كتائب الجيش وميليشيات «أنصار الشريعة» وآخرين موالين للعقيد الراحل (نيويورك تايمز) - عناصر من الميليشيات المسلحة الذين ساهموا في إسقاط القذافي يتلقون رواتبهم (نيويورك تايمز) - وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تصافح جنديا تابعا للحكومة المؤقتة في زيارة إلى العاصمة طرابلس عام 2011
أطلال وبقايا من بنغازي عقب قصف مستمر بين كتائب الجيش وميليشيات «أنصار الشريعة» وآخرين موالين للعقيد الراحل (نيويورك تايمز) - عناصر من الميليشيات المسلحة الذين ساهموا في إسقاط القذافي يتلقون رواتبهم (نيويورك تايمز) - وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تصافح جنديا تابعا للحكومة المؤقتة في زيارة إلى العاصمة طرابلس عام 2011
TT

ليبيا الجديدة تصارع الفوضى

أطلال وبقايا من بنغازي عقب قصف مستمر بين كتائب الجيش وميليشيات «أنصار الشريعة» وآخرين موالين للعقيد الراحل (نيويورك تايمز) - عناصر من الميليشيات المسلحة الذين ساهموا في إسقاط القذافي يتلقون رواتبهم (نيويورك تايمز) - وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تصافح جنديا تابعا للحكومة المؤقتة في زيارة إلى العاصمة طرابلس عام 2011
أطلال وبقايا من بنغازي عقب قصف مستمر بين كتائب الجيش وميليشيات «أنصار الشريعة» وآخرين موالين للعقيد الراحل (نيويورك تايمز) - عناصر من الميليشيات المسلحة الذين ساهموا في إسقاط القذافي يتلقون رواتبهم (نيويورك تايمز) - وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تصافح جنديا تابعا للحكومة المؤقتة في زيارة إلى العاصمة طرابلس عام 2011

يبدو أن سقوط العقيد معمر القذافي أثبت صحة موقف هيلاري كلينتون، فبعد ذلك رفضت الميليشيات التخلي عن سلاحها، وعمدت الدول المجاورة على تأجيج نيران الحرب الأهلية، ثم وجد تنظيم داعش لنفسه ملاذا داخل البلاد.
وعليه، تدرس الولايات المتحدة التدخل مرة أخرى في ليبيا ـ هذه المرة، لقتال «داعش» ـ لكن يبقى التساؤل: هل الحل العسكري مناسب؟
الواضح أن الفوضى الحالية كانت نتيجة حتمية للتدخل العسكري في ليبيا. وفي تلك الفترة، وجدت كلينتون نفسها محصورة بين البريطانيين والفرنسيين وآخرين متشككين.
وجاء هذا التدخل ليدشن حقبة جديدة في التاريخ الليبي، وجرى سحب الديكتاتور السابق من داخل ماسورة صرف صحي كان يختبئ بها لتتقاذفه أيدي مسلحين غاضبين، ويكيلون إليه الضربات الوحشية.

يكشف فيديو مصور من خلال هاتف جوال الدماء تنهال من وجه «الزعيم» معمر القذافي الذي بث الرعب في صدور الليبيين على مدار أربعة عقود، بينما بدا مذعورًا ومتحيرًا لعلمه باقتراب ساعة قتله ـ ما حدث بالفعل.
وصلت أولى الأنباء عن إلقاء القبض وقتل القذافي إلى وزيرة الخارجية، في أكتوبر (تشرين الأول)، أثناء وجودها بالعاصمة الأفغانية كابل، حيث كانت تستعد لإجراء مقابلة تلفزيونية. وسرعان ما انطلقت منها صيحات الدهشة بمجرد أن وقعت عيناها على الخبر عبر جهاز «بلاكبيري» يخص أحد مساعديها، قبل أن تنبه بحذر إلى أن الخبر لم يتم التأكيد عليه بعد. ومع ذلك، بدت كلينتون تواقة لوضع نهاية للحملة العسكرية متعددة الأطراف داخل ليبيا، التي بذلت جهودًا مضنية لتنظيمها. وفي لحظة نادرة، تخلت عن تحفظها وصاحت قائلة: «لقد مات!»
قبل ذلك بيومين، كانت كلينتون قد توجهت لزيارة العاصمة الليبية، طرابلس. وعلى امتداد أسابيع، عمد مساعدوها على توزيع بيانات تصف دورها المحوري في الأحداث التي قادت لتلك اللحظة. وفي إحدى المذكرات، كتب كبير مساعديها، جسك سوليفان، متحدثًا عن «قيادتها وتوجيهها للسياسة الأميركية تجاه ليبيا من البداية حتى النهاية». وتحدثت هذه المذكرة عن كلينتون باعتبارها كانت الشخصية المحورية في كل ما جرى بخصوص ليبيا.
كشفت هذه المذكرة عن قدر بالغ من الغرور لدى وزيرة بالحكومة الأميركية تطمح لمنصب الرئاسة، وأثارت الرغبة المحمومة لفريق العمل المعاون لكلينتون في نسب كل الفضل إليها الدهشة داخل البيت الأبيض والبنتاغون، بل ولم يملك البعض أنفسهم من الضحك لدى استماعهم لمساعديها يدعون أنها من أصدر توجيهاته بشن ضربات جوية في ليبيا.
ومع ذلك، كانت هناك مؤشرات كثيرة توحي بأن هذا الانتصار قصير الأمد، وأن الفراغ الذي خلفه موت القذافي سيؤجج أعمال العنف والانقسامات.
في الواقع، في ذات اليوم من أغسطس (آب) الذي وضع فيه سوليفان مذكرته التي تنضح بالثناء والإشادة لكلينتون، بعث المسؤول الأول بوزارة الخارجية المعني بالشرق الأوسط، جيفري دي فيلتمان، رسالة عبر البريد الإلكتروني تحمل نبرة مغايرة تمامًا حيال انطباعه عن زيارته لليبيا.
كتب فيلتمان أن القيادات المؤقتة في ليبيا تبدو منعزلة بصورة خطيرة عن الواقع، مشيرًا إلى أن محمود جبريل، القائم بأعمال رئيس الوزراء والذي ساعد في إقناع كلينتون بدعم المعارضة،، ولم يظهر بليبيا سوى لفترات وجيزة. كما تعرض جنرال بارز في صفوف المسلحين للقتل، مما كشف خطر «أعمال القتل الانتقامية». في الوقت ذاته، كان المتطرفون يتحركون بقوة نحو الاستيلاء على السلطة، بتمويل من أعضاء التحالف المناهض للقذافي.
وفيما يخص مهمة اكتسبت حينها أهمية قصوى، وهي نزع تسليح الميليشيات التي نجحت في إسقاط القذافي لكنها الآن أصبحت تهدد وحدة البلاد، نبه فيلتمان إلى حالة من التراخي الخطير. وكتب يقول إن جبريل ومعاونيه «حاولوا غض أبصارهم» عن المشكلة التي قد تمثلها الميليشيات لما بعد حقبة القذافي.
موجز القول إن الرجال أصحاب النوايا الحسنة الذين تولوا، اسميًا، إدارة شؤون البلاد كانوا يعتمدون على «الحظ والانضباط القبلي والطبيعة اللطيفة للشعب الليبي» في ضمان مستقبل سلمي. وقال فيلتمان: «سنستمر في الضغط فيما يخص هذا الأمر».
وكشفت الشهور التالية أن المذكرة التي وضعها فيلتمان كانت تحمل قدرًا كبيرًا من بعد النظر. ومع ذلك، سرعان ما تركزت أنظار الحلفاء الغربيين الذين عملوا معًا في ليبيا على الأزمة السورية، لتتراجع ليبيا إلى مرتبة متأخرة في اهتماماتهم.
أما كلينتون فتراجع دورها إلى مجرد متفرج، مع سقوط البلاد في حالة من الفوضى أسفرت نهاية الأمر عن حرب أهلية تسببت في زعزعة استقرار المنطقة بأسرها، وأججت أزمة لاجئين داخل أوروبا وسمحت لـ«داعش» ببناء ملاذ آمن لها داخل ليبيا تحاول واشنطن الآن احتواءه قدر الإمكان.
وعن هذا قال محمد شمام، الذي عمل متحدثًا رسميًا باسم الحكومة المؤقتة: «لن يقول أحد إن الأوان قد فات، فلا أحد يرغب في التفوه بذلك، لكنني أخشى من أن الوقت يداهم ليبيا».
وأشارت تقارير إعلامية لزيارة واحدة سريعة لكلينتون إلى ليبيا في أكتوبر 2011 باعتبارها «زيارة الانتصار»، لكن هذا الإعلان جاء سابقًا لأوانه للغاية. خلال الزيارة، جرى اتخاذ إجراءات أمنية مشددة على نحو استثنائي، مع تمركز بوارج عسكرية قبالة السواحل الليبية استعدادًا لأي عملية إجلاء طارئة. ومرت الزيارة من دون أعمال عنف، لكن مشاهد الاحتفال العارمة في شوارع العاصمة الليبية ذلك اليوم سلطت الضوء على الانقسامات التي ضربت الحقبة الجديدة بالبلاد.
وخلال زيارتها، أعلنت كلينتون بينما كان يقف بجوارها جبريل وعلى وجهه ابتسامة مشرقة: «إنني فخورة بالوقوف هنا على أرض ليبيا الحرة. إنه شرف كبير معاينة مستقبل جديد لليبيا تجري صياغة ملامحه. ولا شك أن الفترة القادمة ستحمل تحديات كبيرة، لكن الشعب الليبي أظهر العزم والصلابة اللازمين لتحقيق أهدافهم».
إلا أنه في كل مكان ذهبت إليه كلينتون، كان هناك دومًا الوجه الآخر للثورة، متمثلاً في حشود من المقاتلين يحملون «الكلاشينكوف». وانطلقت منهم الهتافات والصيحات، بينما ظلت كلينتون محتفظة برباطة جأشها، لكن المكلفين بحمايتها ظلوا يراقبون المشهد بتوتر بالغ.
وبالطبع، كانت كلينتون مدركة لمدى صعوبة الفترة الانتقالية نحو ليبيا ما بعد القذافي. في فبراير (شباط) ، قبل أن تبدأ أعمال القصف من جانب التحالف، أشارت كلينتون إلى أن التغيير السياسي بمصر جاء مضطربًا وصاخبًا رغم قوة مؤسسات الدولة.
وأضافت: «إذن لكم أن تتخيلوا مدى الصعوبة التي سيكون عليها ذلك في بلد مثل ليبيا حكمها القذافي طيلة 42 عامًا من خلال تدمير جميع المؤسسات والحرص على عدم بناء جيش، بحيث لا يمكن لأحد استخدامه ضده».
في وقت سابق، كان مستشار الأمن القومي للرئيس، توم دونيلون، قد شكل مجموعة تخطيط باسم «ما بعد القذافي». وقد عاونت كلينتون في تنظيم «مجموعة الاتصال الليبية»، وهي مجموعة من الدول التي تعهدت بالعمل نحو بناء مستقبل مستقر وزاهر لليبيا. بحلول مطلع عام 2012. كانت قد شاركت في عدة اجتماعات دولية حول ليبيا.
من جانبه، دعا ديني بي. روس، الخبير المخضرم بشؤون الشرق الأوسط داخل مجلس الأمن الوطني، لإرسال قوة حفظ سلام خارجية إلى ليبيا ـ لكن من دون جدوى. إلا أنه مع بدء تدفق النفط مجددًا من الآبار الليبية، شعر بالدهشة والسعادة حيال أن الأمور بدت تسير على نحو طيب داخل ليبيا.
وعن ذلك، قال: «كان لدي قلق من أنه لا يجري بذل جهود كافية وسريعة لخلق قوات أمنية متناغمة، لكن الشهور الستة الأخيرة من 2011 حملت قدرًا كبيرًا من التفاؤل».
ومع ذلك، ازدادت الفجوة ما بين مسؤولي الحكومة المؤقتة أصحاب التعليم الرفيع والقادرين على الحديث بالإنجليزية بطلاقة من ناحية، والثوار من ناحية أخرى. وبعد عقود في المنفى، اتضح أن بعض القيادات أصبحت أكثر معرفة بالجامعات الأميركية والبريطانية عن القبائل الليبية والميليشيات التي انبثقت منها. إضافة لذلك، أحاطت مشاعر الريبة آخرين داخل بعض الدوائر، مثل جبريل، بسبب أدوارهم السابقة داخل نظام القذافي. وبدا واضحًا على نحو متزايد أن الجيش الشعبوي الذي نجح بالفعل في إسقاط القذافي لا يتلقى أوامره من الرجال المرتدين البزات الرسمية والذين ظنوا أنفسهم قادة ليبيا الجدد.
من جهته، قال جيرمي شابيرو، الذي تولى مسؤولية الملف الليبي من بين معاوني كلينتون، إن الإدارة كانت تبحث عن «الشخص القادر على توحيد الصفوف ـ نيلسون مانديلا الليبي»، مستطردًا أنه: «لهذا بدا جبريل شخصية جذابة للغاية. وقد قلنا فيما بيننا دومًا: هذا هو الشخص القادر على التواصل مع جميع الفرق. إلا أن الأمر الذي كان ينبغي أن نبحث عنه حقًا ـ ولم نكن قط بارعين في العثور عليه ـ فهو توازن القوى».
في ظل هذه الظروف، رأى البعض في الدفع نحو إجراء انتخابات في يوليو (تموز) 2012. أي بعد تسعة شهور فقط من مقتل القذافي، أمرًا سابقا لأوانه، لكن هذا الموعد جاء متوافقًا مع الجدول الذي تعهدت به المعارضة أمام الغرب، وحاز تأييد الفرق المتنافسة.
من جانيه، قال عبد الرزاق مختار، عضو الحكومة المؤقتة الذي عاش سنوات كثيرة في كاليفورنيا ويعمل حاليًا سفيرًا لليبيا لدى تركيا: «فجأة، وجدت أمامك أفرادا منتمين لأحزاب سياسية مختلفة والإخوان المسلمين وكذلك جبريل، يعلنون أن الوقت قد حان لعقد انتخابات. إلا أننا في الحقيقة لم نكن مستعدين لذلك، وإنما كنا بحاجة لخارطة طريق تضع الأمن أولاً».
بحلول يناير (كانون الثاني) 2012، أصبحت المؤشرات على وجود مشكلات ظاهرة على نحو لا تخطئه عين. ومع تراجع شعبيته، استقال جبريل من منصبه كرئيس وزراء مؤقت، بعد اتهام عالم مسلم بارز بأنه يقود البلاد نحو «حقبة جديدة من الطغيان والاستبداد». وفي إطار اتفاق عقد بين اثنتين من الميليشيات القوية البارزة، حل محله عبد الرحيم الكيب، بروفسور الهندسة الذي تولى التدريس لسنوات بجامعة ألاباما.
في 5 يناير، بعثت صديقة كلينتون المقربة ومستشارتها سيدني بلومنثال إليها برسالة تحمل أحدث سلسلة تقارير من خلف الكواليس حول ليبيا، والتي وضعها في معظمها ضابط متقاعد من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، يدعى تيلر درميلير، والذي توفي العام الماضي.
وتناولت الرسالة التوترات المشتعلة بين المتطرفين والعلمانيين حول دور الشريعة، والقتال الدائر بين الميليشيات المتناحرة المنتمية لمدينتين مختلفتين، والزيارات الأربع لـ«رجال ميليشيات غاضبين» لمكتب الكيب طالبوه خلالها بامتيازات.
وأوضحت الرسالة أن الكيب «يعتقد أنه حال عدم نزعه تسليح الميليشيات وتلبيته مطالبهم خلال الشهور الستة التالية، فإن هناك احتمالا كبيرا لأن تتفاقم أعمال القتال بين المجموعات المتناحرة، ما قد يسفر عن اشتعال حرب أهلية». من جهتها، نقلت كلينتون الرسالة لمساعدها سوليفان، مذيلة بتعليق موجز: «مثير للقلق».
كان من المفترض أن تدفع هذه التقارير المثيرة للقلق واشنطن نحو اتخاذ إجراءات فعلية ـ لكن هذا لم يحدث. بعد سقوط القذافي، ومع وجود قدر ضئيل من أعمال العنف وقيادة مؤقتة صديقة، سرعان ما تراجعت أولوية ليبيا بأجندة البيت الأبيض. وتوقفت الاجتماعات المستمرة داخل البيت الأبيض بحضور الرئيس. واحتلت الثورة التي اشتعلت في سوريا، بقلب الشرق الأوسط، والتي يبلغ عدد سكانها أربعة أضعاف سكان ليبيا، الأولوية الأولى. ولم يكن تحول الاهتمام بعيدًا عن ليبيا مجرد إهمال، وإنما تحول إلى سياسة مقررة.
عن هذا، قال ديريك كوليت، الذي تولى حينها مسؤولية الملف الليبي داخل مجلس الأمن الوطني: «بدا أن الرئيس يعمد لتجنب خلق عراق جديد. وفي تلك الأثناء، ظل الأوروبيون يؤكدون أنهم يقومون بما يلزم وأنهم يدركون تمامًا ما يدور في ليبيا باعتبار أنها تقع داخل نطاقهم بصورة ما».
وعليه، أقر الرئيس ومجلس الأمن الوطني ما وصفه كوليت بـ«قيود شديدة» على الدور الأميركي، حيث شددا على أن واشنطن ستقدم العون فقط عندما لا يكون باستطاعة غيرها تقديم مثل هذا العون، وبناءً على طلب صريح من ليبيا، وعندما تدفع ليبيا مقابل هذا العون من عائداتها النفطية. عمليًا، كان معنى هذه الشروط أن الولايات المتحدة لن تفعل سوى القليل للغاية.
من ناحية أخرى، رغم زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لليبيا معًا، فإن اهتمامها سرعان ما تشتت بعيدًا عنها بسبب حملة ساركوزي لإعادة انتخابه والمخاوف الاقتصادية فيما يخص كاميرون.
من جانبهم، زاد الليبيون أنفسهم من سهولة إهمال الغرب لهم، حيث أبدى القادة المؤقتون للبلاد قدرًا من الوطنية الممزوجة بسذاجة واضحة من خلال إصرارهم، علانية على الأقل، عن رغبتهم في عدم تدخل أي أطراف خارجية ببلادهم. وقد أبدوا قلقًا حيال وجود أي قوات أجنبية على الأراضي الليبية لدرجة أنهم رفضوا السماح للأمم المتحدة بالإبقاء على قوة أمنية أساسية لحماية مقرها.
ومع مرور الشهور، تفاقم التقاتل بين مختلف الفرق، ما دفع كلينتون للضغط على الإدارة لبذل مزيد من الجهود بالملف الليبي، حيث طلبت من البنتاغون، على سبيل المثال، المعاونة في تدريب قوات أمنية ليبية. إلا أنها وجدت نفسها محصورة بين القيود التي فرضها الرئيس ورفض الليبيين أنفسهم.
حتى المقترحات المتواضعة انهارت، فعندما اقترحت كلينتون إرسال سفينة تحمل على متنها مستشفى لعلاج المقاتلين الليبيين المصابين، رفض مجلس الأمن الوطني الفكرة، وذلك حسبما أفاد مساعدون لها.
ومع ذلك، حرصت كلينتون على الحفاظ على علاقتها بالرئيس واحترمت سلطته في إقرار السياسات، ما أجبرها على المضي قدمًا في الالتزام بالسياسة المقررة.
من جانبه، حاول أندرو شابيرو بذل قصارى جهده لتحسين هذا الموقف الحرج، حيث اضطر لشرح ما تقوم به واشنطن من جهود لتأمين الترسانة العسكرية الضخمة التي خلفها القذافي وراءه ـ في استثناء لافت لسياسة النأي عن التدخل التي انتهجتها بلاده.
وخلال كلمة ألقاها في واشنطن في فبراير (شباط) 2012، استعرض شابيرو، مساعد وزيرة الخارجية للشؤون السياسية ـ العسكرية، الجهود الأميركية «لاستثارة استجابة دولية» للعثور على وتدمير مخازن الأسلحة. إلا أنه اعترف بأن البرنامج المخصص لهذا الأمر والذي أعلنته كلينتون بقيمة 40 مليون دولار، لا يسير على النحو المأمول، حتى فيما يخص أكثر أنماط الأسلحة المثيرة للقلق ـ الصواريخ المحمولة كتفًا القادرة على إسقاط طائرات.
وخلال كلمته، قال: «كم عدد الصواريخ المفقودة؟ الإجابة الصريحة هنا أننا لا ندري ـ وربما لن نعرف قط. ولا يمكننا استبعاد احتمالية تسرب بعض الأسلحة إلى خارج ليبيا».
وفي حين أن الاستخبارات المركزية الأميركية تحركت سريعا لتأمين أسلحة العقيد القذافي الكيميائية، فإن الجهود الأخرى كانت قاصرة. يتذكر روبرت غيتس، وزير الدفاع الأميركي آنذاك قائلا: «كانت هناك ترسانة يعتقد بأنها تضم 20 ألف صاروخ، ما بين تلك المحمولة كتفا وقذائف سطح طجو، وإس-إيه7. والتي كانت اختفت للتو خلال الفوضى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا».
وكان من بين العراقيل أن إدارة أوباما كانت تتفاوض مع الوزراء الليبيين المؤقتين كما لو كانوا يمثلون حكومة موحدة. وواقع الأمر أنهم كانوا في كثير من الأحيان خصوما، يتصارعون على السلطة قبل الانتخابات.
وقال: أنتوني بلينكن، الذي كان وقتذاك كبير مستشاري نائب الرئيس جوزيف بايدن: «أعرف أن هذا يبدو غير معقول، لكننا على مدار شهور وشهور لم نكن قادرين على الوصول إلى أي شخص يتمتع بالسلطة في الحكومة لمجرد التوقيع على اتفاق على أي شيء، بما في ذلك عروضنا التفصيلية بتقديم مساعدات أمنية».
وقال الكثير من المسؤولين الليبيين: «عندما كان الأمر يتعلق بتأمين الأسلحة، فإن الفكرة الأولية الأميركية – وهي إعطاء الحكومة المؤقتة مساعدات لشراء هذه الأسلحة من جديد بنفسها – انهارت عندما أخفق الوزراء الليبيون في تنفيذ البرنامج.
ومن ثم فإن وزارة الخارجية الأميركية، التي كانت تعمل مع «سي آي إيه»، لم تجد إلا محاولة التوصل لاتفاقات بمعرفتها مع الميليشيات. لكن لم يكن هناك حوافز تذكر لكي تبيع الميليشيات الأسلحة. وبحسب السيد شمام، المتحدث السابق باسم الحكومة المؤقتة: «كيف تشتري كلاشينكوف بـ1000 دولار؟ يمكن لشخص من خلال كلاشينكوف أن يكسب 1000 دولار يوميا عن طريق خطف الناس».
والأسوأ من هذا أن البرنامج خلق حوافز للميليشيات لاستيراد الأسلحة لبيعها للأميركيين، بحسب ما يقول علي زيدان، مستشار الحكومة المؤقتة، والذي انتقلت إليه مسؤولية البرنامج في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، عندما أصبح رئيسا للوزراء.
قال زيدان: «إذا كنت تريد أن تشتري الأسلحة، فعليك أن تسيطر على الحدود»، مضيفا أن الإخفاق في هذا دفع المقاتلين إلى «بيعها، والحصول على المزيد من الأموال، وبيعها مجددا».
وردا على أسئلة أحد الصحافيين في ذلك الربيع عن السبب الذي جعل من الصعب على الولايات المتحدة أن «تتدخل بالشكل المناسب» عندما تدخلت في الشرق الأوسط، كانت السيدة كلينتون لا تزال تعتبر ليبيا نموذجا للنجاح. قالت السيدة كلينتون التي رفضت إجراء مقابلة من أجل هذا المقال: «أختلف مع ما يفترضه هذا السؤال». لكنها كانت مدركة كذلك لتدهور الوضع الأمني.
في تقرير في فبراير (شباط) 2012، وصفت منظمة العفو الدولية الميليشيات الليبية بأنها «خارجة عن السيطرة». وفي نفس الشهر، حذر السيد كريتز، السفير الأميركي، في رسالة بريد إلكتروني من أن انتخابات يوليو (تموز) قد تحدث في «سياق سيطرة الميليشيات».
في الدائرة الداخلية المحيطة بالسيدة كلينتون، كان التفاخر بإنجازها في ليبيا قد مهد الطريق لـ«حالة من القلق من أن هذا الإنجاز سينهار»، بحسب أحد كبار المساعدين. ويتذكر هذا المساعد تلقيه توجيها مازحا من السيد سوليفان بـ«التأكد من عدم حدوث هذا» قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني).
ومن ثم فعندما ذهب الليبيون إلى الانتخابات في السابع من يوليو (تموز) فيما وصفه المراقبون الدوليون بانتخابات نزيهة شهدت مشاركة كبيرة ونسبة قليلة من العنف، شعرت السيدة كلينتون وغيرها من أنصار التدخل بالارتياح. في أعقاب الربيع العربي في مصر وتونس، كان الناخبون اختاروا حكومات يقودها متشددون. لكن في ليبيا، كان الائتلاف الفائز يضم أحزابا صديقة للغرب يقودها السيد جبريل.
في الشهر التالي، ومع هتاف الحشود في طرابلس بأن «دم الشهداء لن يذهب هباء»، انتقلت السلطة إلى المؤتمر الوطني العام المنتخب، أول انتقال سلمي للسلطة في تاريخ ليبيا.
كانت السيدة كلينتون تسر إلى المحيطين بها بتخوف من أن البلاد ليست مستعدة للانتخابات، بحسب أحد مساعديها، ومع هذا فقد هنأت الليبيين على «هذه الخطوة التاريخية».
قالت: «الآن يبدأ العمل الشاق فعليا لبناء حكومة شفافة وفعالة توحد البلاد».
لكن الوحدة كانت مستحيلة بالفعل.
قال السيد جيرارد أرود، السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة في رسالة تأييد مبكرة للتدخل: «كانت قضية خاسرة منذ البداية.. كان نفس الخطأ الذي ارتكبته في العراق. تقوم بتنظيم انتخابات في بلد ليس لديه خبرة في تكوين الأحزاب السياسية. ومن ثم يكون لديك انتخابات، وتعتقد أن كل الأمور قد تم حلها. لكن في النهاية يعود الواقع القبلي ليسيطر على البلاد».
وفي حين ناضل الأميركيون ضد انتشار الأسلحة وكانوا يأملون في أن يحدث ما هو أفضل، تصدى ضابط متمرد سابق للمشكلة التي تقف في القلب من المعضلة الليبية: تفكيك القوى المتقلبة التي أطاحت بالعقيد القذافي، ومساعدة المقاتلين على أن يجدوا لهم مكانا في ليبيا الجديدة. لم يلتق الضابط، السيد مصطفى الساقزلي، السيدة كلينتون على الإطلاق. لكن نتيجة حملته الفردية كانت لتقرر إلى درجة معقولة مكان ليبيا في سجلها كوزيرة للخارجية.
وكنائب لقائد كتيبة شهداء 17 فبراير، إحدى أكبر الميليشيات وأكثرها قوة، حاول السيد الساقزلي بأقصى ما لديه أن يعتني بجنوده. شعر بأن ذلك كان التزاما لم ينته بنهاية الثورة.
سأل المقاتلين: «ما الذي تحتاجونه؟ ما هي أحلامكم؟»
بعد وقت قريب شكلت الحكومة الانتقالية هيئة شؤون المحاربين، برئاسة السيد الساقزلي. كان الكثير من بين 162 ألف مقاتل سابق قامت بتسجيلهم، أميين يحتاجون للتعليم. وكان بعضهم يريد الالتحاق بقوة الشرطة أو الجيش الجديد، لكن نصفهم تقريبا كانوا يأملون ببدء مشروعات تجارية صغيرة. قال السيد الساقزلي إنه نقل مقترحا إلى الحكومة الانتقالية: يمكن أن تساعد وزارة العمل رجال الأعمال المحتملين، بينما يمكن أن تساعد وزارة الداخلية في تدريب ضباط الشرطة والجمارك، في حين تساعد وزارة الدفاع على استيعاب الآخرين في الجيش الوطني وهكذا.
كان مقترحا طموحا، ولكن الحكومة كانت تتوفر على الكثير من الأموال؛ حيث كانت السيدة كلينتون عملت بجد على تحرير مليارات الدولارات من الأصول الليبية التي كان جرى تجميدها بفعل العقوبات على القذافي. وكانت وجهة نظرها، بحسب ما يقول أحد كبار مساعديها، هي أنه إذا لم تتمكن الحكومة الانتقالية من «الحكم بالقوة، فلتحكم بقوة المال».
في 8 أغسطس (آب) 2012، بعد الانتخابات بشهر واحد، وقع السفير الأميركي ستيفنز على برقية أرسلها إلى واشنطن تحت عنوان «بنادق أغسطس» في عنوان يحاكي قصة من تاريخ الحرب العالمية الأولى. وصفت البرقية بنغازي كمدينة تنتقل «من حالة الخوف إلى النشوة ثم العودة للخوف مجددا في ضوء سلسلة من أحداث العنف التي باتت تسيطر على المناخ السياسي»، محذرا من الفراغ الأمني.
لم يعرف أي مسؤول أميركي ليبيا كما عرفها، فكان دوما على استعداد لدفع حياته ثمنا لتصميمه على رؤية الواقع الصاخب لليبيا عن كثب. وبعد إرسال البرقية بشهر، هاجم مسلحون إسلاميون مقر القنصلية الأميركية في بنغازي، وكان ستيفنز أحد أربعة أميركيين لقوا حتفهم.
وفي الهجمات التي استهدفت المجمع الدبلوماسي وملحق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه» المجاور، شهدت ليبيا أحداثا مروعة في وقت متزامن: سقطت الحكومة المركزية الضعيفة، انهارت دولة النظام والقانون، ظهرت الجماعات المسلحة وابتعدت ليبيا عن دائرة الضوء الأميركية. أسرع أعضاء الحزب الجمهوري باستغلال الموقف للبدء في طرح الاستجوابات وجلسات الاستماع لسنوات طويلة، وجمع التبرعات لهيلاري كلينتون. وفي الشهور الأخيرة لوجودها كوزيرة للخارجية، ركبت كلينتون الموجة الشعبية مدعومة بحملة على الإنترنت بعنوان «نصوص من أقوال هيلاري»، وكان شعار الحملة صورة لوزيرة الخارجية تحملق من خلال نظارتها السوداء في هاتفها المحمول «بلاكبيري». أدرك القليلون أن الصورة التقطت لهيلاري على متن طائرة عسكرية أقلتها إلى ليبيا في تلك الأيام العصيبة بعد سقوط الديكتاتور.
لو أن محاولة لوم هيلاري وتحميلها مسؤولية الهجوم الإرهابي على القنصلية ببنغازي فشلت لكانت نغمة التدخل في ليبيا باتت مبتذلة وسط كل النجاحات التي حققتها، فليبيا لن تتوافق مع السياسات الأميركية، سواء كان هدف أميركا استخدام ليبيا كهراوة تخيف بها الآخرين أو كان غرضها مجرد التباهي.
ومع خروجها من وزارة الخارجية في فبراير 2013. ازدادت وتيرة العنف الطائفي بدرجة جعلت نشوب حرب أهلية أمرا وارد الحدوث، وتزايدت أعداد اللاجئين الذين يدفعون المال للمهربين لمساعدتهم في رحلة الخطر عبر البحر المتوسط. كان من الممكن أن تؤدي الفوضى في ليبيا إلى ظهور حكومتين متنافستين؛ واحدة تدعمها مصر والإمارات، والأخرى تدعمها قطر وتركيا والسودان، وتوفر الأخيرة الملاذ للمتطرفين الذين سينضم إليهم مبعوثو «داعش».
الأسلحة التي صعبت من عملية تحقيق الاستقرار في ليبيا ظهرت في سوريا، وتونس، والجزائر، ومالي، والنيجر، وتشاد، ونيجيريا، والصومال، والسودان، ومصر، وغزة، وغالبا في أيدي إرهابيين أو متمردين أو مجرمين.
وفي خريف عام 2012، أعدت الاستخبارات الأميركية تقريرا عن زيادة كميات الأسلحة الواردة من ليبيا «فكان الأمر صادما جعلنا نقول يا إلهي»، وفق مايكل فلين، مدير جهاز الاستخبارات الحربية الأميركية آنذاك. أضاف: «لم نر كل تلك الكميات من الأسلحة منذ الحرب في فيتنام».
في ضوء تلك الخلفية، تعتقد وايتسون، المسؤولة عن رصد الأوضاع في ليبيا بمنظمة هيومان رايتس ووتش، أن فشل الولايات المتحدة في أن تتبعنا يعتبر خطأ لا يغتفر، مضيفة «إذا كنت ستقوم بتدخل عسكري لخلع الحكومة، فإنك تشارك في زعزعة استقرار تلك الدولة على المدى البعيد».
وقالت وايتسون إن التاريخ الذي اقتبسته هيلاري كلينتون كان من المفترض أن يكون مرشدا، مضيفة «في البوسنة، صحيح أننا تدخلنا لكن قوات حفظ السلام كانت هناك منذ 20 عاما».
لكن المدهش في الأمر أن الرئيس أوباما قال عام 2014 إن مثل هذا النقد كان عادلا وإن ليبيا قد علمته أكبر دروس حياته في السياسة الخارجية.
بيد أن أوباما لم يندم على التدخل، وفق حديثه إلى توماس فريدمان، الكاتب بصحيفة «نيويورك تايمز»، لأنه من دون الإطاحة بالديكتاتور القذافي «لكانت ليبيا مثل سوريا. أليس كذلك؟ لأن القذافي لم يكن بمقدوره احتواء ما حدث هناك».
لكن أوباما صرح بأن الولايات المتحدة وحلفاءها «قللوا من الحاجة إلى إرسال قوة عسكرية كاملة» بعد سقوط الديكتاتور. التجربة الليبية، وفق أوباما، هي «درس أطبقه الآن كل مرة أسأل فيها السؤال: هل نتدخل عسكريا؟ هل لدينا إجابة بشأن ما سيحدث في اليوم التالي للتدخل؟»
عززت ليبيا، وفق مساعدي الرئيس، من كراهيته للتحرك بجرأة أكبر في سوريا. «بشكل أكثر موضوعية، جعلت التجربة الليبية أوباما يتوقف ويفكر فيما سيحدث لو أنه أزال الدولة السورية»، وفق مستشار رفيع المستوي.
على النقيض، دفعت هيلاري كلينتون باتجاه المزيد من التدخل الأميركي في بداية الحرب الأهلية في سوريا، ودعت مرارا إلى فرض منطقة حظر طيران فوق سوريا، وهي الخطوة التي ما زال أوباما يرفضها حتى الآن. فيبدو أن التجربة الليبية لم تهدئ من حماستها الشديدة في معالجة الأزمات الدولية.
ورغم أنهما استمرا حلفاء سياسيين، نطق الرئيس ووزيرة خارجيته السابقة ببعض التعبيرات التي تنم عن المصارحة، إذ سخرت كلينتون من مبدأ طبقه أوباما كثيرا في سياسته الخارجية عبر عنه بقوله «لا تفعل تلك الأمور الغبية». وفي مقابلة شخصية مع صحيفة «ذا أتلانتك»، علقت كلينتون بقولها «تحتاج الدول الكبرى لمبادئ تنظيمية، وعبارة لا تفعل الأمور الغبية ليست مبدأ تنظيمًا».
في الربيع الماضي، وبعد ما أزعجه النداء بمزيد من التدخل الأميركي في سوريا، رفض أوباما الأمر واعتبره كلاما «غير ناضج» و«هراء»، وعند سؤاله ما إذا كان يعني بذلك مقترحات كلينتون، أنكر الرئيس ذلك، وإن لم تبد إجابته مقنعة. وعندما طلب منها الدفاع عن تاريخها في ليبيا، أخذت كلينتون منحى مناقضا لمساعديها الذين أصروا قبل ذلك على ضرورة لعبها لدور محوري في التدخل. «ومع نهاية اليوم، كان هذا هو قرار الرئيس»، وفق تصريحها أمام لجنة من مجلس النواب في أكتوبر (تشرين الأول).
أفادت كلينتون بأن التحالف العسكري الذي أطاح بالقذافي عكس «القوة الذكية في أفضل حالاتها»، غير أنها اعتبرت ليبيا «حالة كلاسيكية للخيارات الصعبة». وفي أغلب الحالات، أصرت هيلاري على أن حكم التاريخ على التدخل وعلى دورها فيه ليس نهائيا بعد.
وكانت كلينتون قد صرحت عام 2014. بقولها «أعتقد أن التاريخ أحيانا يظهر عدم صبر الولايات المتحدة»، مضيفة «حسنا، لقد تخلصت من هذا الديكتاتور الذي هدم المؤسسات، لماذا لا تتصرف كديمقراطية ناضجة إذن؟ هذا لا يحدث بين عشية وضحاها».
غير أنه بالنسبة لأوباما، إذا كانت التجربة الليبية قد عززت الشكوك في قدرة الولايات المتحدة في تحديد شكل النتائج في الدول الأخرى، فقد أظهرت التجربة أيضا لهيلاري كلينتون أهمية الوجود الأميركي.
* خدمة «نيويورك تايمز»



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.