غابت الطائرات عن صباحات الشام.. فعادت العصافير للزقزقة

ختام المكالمة الهاتفية السورية دعاء «الله يديم الهدنة» بدلاً من «الله يحميكم»

عامل سوري في مجال النحاس أمس يشتغل على إناء في العاصمة دمشق (أ.ف.ب)
عامل سوري في مجال النحاس أمس يشتغل على إناء في العاصمة دمشق (أ.ف.ب)
TT

غابت الطائرات عن صباحات الشام.. فعادت العصافير للزقزقة

عامل سوري في مجال النحاس أمس يشتغل على إناء في العاصمة دمشق (أ.ف.ب)
عامل سوري في مجال النحاس أمس يشتغل على إناء في العاصمة دمشق (أ.ف.ب)

خلال الأيام الثلاثة الأولى من الهدنة عاشت مدينتا دوما بريف دمشق الشرقي، وداريا في الريف الغربي، ساعات هادئة، وبث المدنيون المحاصرون هناك على مواقع التواصل الاجتماعي صورا لأطفالهم أحياء ينعمون بالهدوء للمرة الأولى منذ أربعة أعوام، وخلت صفحاتهم من صور ضحايا القصف من الأطفال.
وعلى الطرق القريب من الخطوط الأمامية للجبهات في محيط دمشق استرخى بعض الجنود عند الحواجز وقد جلس بعضهم ليأخذ قسطا من الراحة، بينما يتابع رفاقه تفتيش السيارات العابرة بشكل روتيني مع ابتسامة، فهؤلاء الجنود، يقول أبو أحمد وهو مهندس يعيش في دمشق، «لم يعرفوا الراحة والاسترخاء منذ أربع سنوات، إنهم يعيشون حالة ذعر دائم من هجوم مباغت أو كمين». ويضيف: «ثمة جندي أراه أسبوعيا منذ أكثر من عامين على حاجز قريبا من قطعته العسكرية بريف دمشق، لا أذكر أني رأيت شعر رأسه، فهو لم يخلع الخوذة يوما سوى أول من أمس الأحد، فقد رأيته ينحيها جانبا ويستلقي بعد العصر على كرسي إلى جانب رفاقه يراقب العابرين مستمتعا بالشمس الربيعية. بدا لي المشهد غريبا جدا وفكرت بأحوال من حمل السلاح مرغما من الذين تم سوقهم إلى الخدمة الإلزامية بشكل إجباري».
ومن المشاهدات ما رواه أبو أحمد عن الناس في الأيام الأولى من الهدنة مستغربا الطبيعة البشرية القابلة للبرمجة الفورية، إذ بعد أربعة سنوات من اعتياد أصوات القصف والطيران عادوا ليهتموا بإطلاق رصاص في تشييع أحد قتلى النظام. يوم أمس الاثنين كانت هناك جنازة لقتلى من الميلشيات الشيعية وجرى إطلاق نار عند مقبرة زين العابدين تعبيرا عن الحزن، كما جرت العادة منذ اندلاع القتال، فخرج أصحاب المحلات يسألون عن سبب إطلاق النار! جرى هذا في ثالث يوم الهدنة، علما بأنهم كانوا قبل أيام قليلة يسمعون صوت المدافع تطلق قذائفها من فوق سفح قاسيون وأصوات سقوط الهاون قريبا من محلاتهم ولا يسألون! ويضيف أبو أحمد: «إنهم سمعوا في دمشق أصوات قصف مدفعي خفيفة فجر الاثنين فخرج الجيران ليلا يتساءلون بقلق: هل تم خرق الهدنة؟».
في ضاحية غرب دمشق ما زال يسيطر عليها النظام، قالت غيداء، معلمة مدرسة ابتدائي تعيش مع عائلتها: «عدنا لنصحو على صوت العصافير»، وتابعت: «اليوم الأخير قبل الهدنة لم ننم من كثافة القصف على منطقتي المعضمية ودرايا، البيت كان يهتز بنا طوال يومي الخميس والجمعة، وآخر صاروخ كان قبيل بدء الهدنة بدقائق منتصف ليل يوم الجمعة / السبت، ولم نتخيل للحظة أن القصف قد يتوقف أو أن الهدنة جدية، إلى أن توقفت الغارات الجوية وبزغ الصباح بسماع أصوات العصافير التي غابت عن حياتنا منذ أربع سنوات، نتيجة القصف العنيف».
ومع انتهاء اليوم الثالث من الهدنة تتمنى غيداء أن تثمر الهدنة عن توقف الحرب والتوصل إلى حل، وتؤكد: «الهدنة لن تصمد إذا لم يواكبها خطوات ضرورية من أجل التوصل إلى حل نهائي. فماذا يعني وقف إطلاق النار إذا استمرت أجهزة النظام بالاعتقالات ومصادرة الحريات؟ نحن نريد قبل أي شيء إطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين، وعودة اللاجئين».
أنباء الخروقات ترفع منسوب القلق لدى السوريين من انهيار الهدنة والعودة إلى المربع الأول، فالأيام الثلاثة الأولى التي عاشتها العاصمة دون أصوات طيران حربي وانفجارات، عززت التمنيات بوقف القتل، فقد شهدت شوارع وأسواق المدينة اكتظاظا غير مسبوق مقارنة مع الأيام التي سبقت الهدنة، مما تسبب باختناقات مرورية وازدحام عند الحواجز داخل المدينة التي بدت مستنفرة خلال الهدنة على عكس الحواجز في محيط المدينة وقريبا من الجبهات. ومع تدفق حركة السير إلى داخل المدينة زادت إجراءات التفتيش الدقيق في هويات المارة وفي السيارات لا سيما في أحياء شرق دمشق القريبة من جبهات جوبر والغوطة الشرقية.
يشار إلى أن السوريين، لا سيما سكان العاصمة، اعتادوا الازدحام عند الحواجز والتفتيش الدقيق وأصوات الانفجارات وإطلاق القذائف الصاروخية والمدفعية والغارات الجوية والبراميل المتفجرة وهي تتساقط على مناطق المعارضة بريف دمشق، كما اعتادوا تساقط قذائف الهاون بشكل عشوائي على أحيائهم، ومهما بلغ ارتفاع الأصوات وتحليق الطيران كانوا يتابعون سير حياتهم بشكل اعتيادي ولا يلتفتون إلى مصدر الصوت. وتقول ميسة. ن، وهي موظفة تسكن في حي التجارة شرق دمشق في بناء يطل على جبهة جوبر: «نسمع صوت إطلاق صاروخ أرض - أرض ترتج له الأبنية، فيقول أحدنا في البيت، صاروخ فيل.. عدّ للرقم 15 لتسمع دوي سقوطه، ثم يحدد المنطقة التي استهدفها بحسب الصوت. كما اعتدنا القول عند سماع أصوات سقوط قذائف الهاون: لا شي مهم، قذيفة هاون». وتشير ميسة بسخرية مريرة إلى أن سكان دمشق اكتسبوا مهارات في التحليل العسكري تؤهلهم لنيل درجة بروفسور، حتى إنهم باتوا يحددون إذا كان الضحايا مدنيين أو عسكريين من اتجاه سيارات الإسعاف، فإذا كانت تتجه إلى مشفى وسط المدينة فالضحايا مدنيون. أما إذا اتجهت نحو منطقة المزة حيث المشفى العسكري فعلى الأغلب تقل ضحايا عسكريين، وإذا رافق الإسعاف سيارات عسكرية وتم قطع الطرق لمرورها بإطلاق النار بالهواء فالضحية ذات رتبة عسكرية مهمة أو شبيح كبير.
«وبعد انقضاء ثلاثة أيام على الهدنة تفيد ميسة بأن تلك الظواهر شبه متوقفة: «لم يرتج البناء ولم نصحُ على تحطم زجاج النوافذ أو تحليق طيران حربي. ولأول مرة منذ أربع سنوات عندما تهاتفني أختي اللاجئة في ألمانيا لا يكون سؤالها الأول كيف الوضع عندكن بالحارة؟ فيه ضرب؟ لأول مرة يكون سؤالها الأول عن نزول اللوز الأخضر (العوجة) إلى السوق وماذا سنطبخ لوجبة الغداء! ولأول مرة تنتهي المكالمة بدعاء: الله يديم الهدنة، بدل دعاء: الله يحميكم».



الحوثيون يواجهون مخاوفهم من مصير الأسد بالقمع والتحشيد

طلاب في جامعة البيضاء أجبرتهم الجماعة الحوثية على المشاركة في فعاليات تعبوية (إعلام حوثي)
طلاب في جامعة البيضاء أجبرتهم الجماعة الحوثية على المشاركة في فعاليات تعبوية (إعلام حوثي)
TT

الحوثيون يواجهون مخاوفهم من مصير الأسد بالقمع والتحشيد

طلاب في جامعة البيضاء أجبرتهم الجماعة الحوثية على المشاركة في فعاليات تعبوية (إعلام حوثي)
طلاب في جامعة البيضاء أجبرتهم الجماعة الحوثية على المشاركة في فعاليات تعبوية (إعلام حوثي)

ضمن مخاوف الجماعة الحوثية من ارتدادات تطورات الأوضاع في سوريا على قوتها وتراجع نفوذ محور إيران في منطقة الشرق الأوسط؛ صعّدت الجماعة من ممارساتها بغرض تطييف المجتمع واستقطاب أتباع جدد ومنع اليمنيين من الاحتفال بسقوط نظام بشار الأسد.

واستهدفت الجماعة، حديثاً، موظفي مؤسسات عمومية وأخرى خاصة وأولياء أمور الطلاب بالأنشطة والفعاليات ضمن حملات التعبئة التي تنفذها لاستقطاب أتباع جدد، واختبار ولاء منتسبي مختلف القطاعات الخاضعة لها، كما أجبرت أعياناً قبليين على الالتزام برفد جبهاتها بالمقاتلين، ولجأت إلى تصعيد عسكري في محافظة تعز.

وكانت قوات الحكومة اليمنية أكدت، الخميس، إحباطها ثلاث محاولات تسلل لمقاتلي الجماعة الحوثية في جبهات محافظة تعز (جنوب غربي)، قتل خلالها اثنان من مسلحي الجماعة، وتزامنت مع قصف مواقع للجيش ومناطق سكنية بالطيران المسير، ورد الجيش على تلك الهجمات باستهداف مواقع مدفعية الجماعة في مختلف الجبهات، وفق ما نقله الإعلام الرسمي.

الجيش اليمني في تعز يتصدى لأعمال تصعيد حوثية متكررة خلال الأسابيع الماضية (الجيش اليمني)

وخلال الأيام الماضية اختطفت الجماعة الحوثية في عدد من المحافظات الخاضعة لسيطرتها ناشطين وشباناً على خلفية احتفالهم بسقوط نظام الأسد في سوريا، وبلغ عدد المختطفين في صنعاء 17 شخصاً، قالت شبكة حقوقية يمنية إنهم اقتيدوا إلى سجون سرية، في حين تم اختطاف آخرين في محافظتي إب وتعز للأسباب نفسها.

وأدانت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات حملة الاختطافات التي رصدتها في العاصمة المختطفة صنعاء، مشيرة إلى أنها تعكس قلق الجماعة الحوثية من انعكاسات الوضع في سوريا على سيطرتها في صنعاء، وخوفها من اندلاع انتفاضة شعبية مماثلة تنهي وجودها، ما اضطرها إلى تكثيف انتشار عناصرها الأمنية والعسكرية في شوارع وأحياء المدينة خلال الأيام الماضية.

وطالبت الشبكة في بيان لها المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية بإدانة هذه الممارسات بشكل واضح، بوصفها خطوة أساسية نحو محاسبة مرتكبيها، والضغط على الجماعة الحوثية للإفراج عن جميع المختطفين والمخفيين قسراً في معتقلاتها، والتحرك الفوري لتصنيفها منظمة إرهابية بسبب تهديدها للأمن والسلم الإقليميين والدوليين.

تطييف القطاع الطبي

في محافظة تعز، كشفت مصادر محلية لـ«الشرق الأوسط» عن أن الجماعة الحوثية اختطفت عدداً من الشبان في منطقة الحوبان على خلفية إبداء آرائهم بسقوط نظام الأسد، ولم يعرف عدد من جرى اختطافهم.

تكدس في نقطة تفتيش حوثية في تعز حيث اختطفت الجماعة ناشطين بتهمة الاحتفال بسقوط الأسد (إكس)

وأوقفت الجماعة، بحسب المصادر، عدداً كبيراً من الشبان والناشطين القادمين من مناطق سيطرة الحكومة اليمنية، وأخضعتهم للاستجواب وتفتيش متعلقاتهم الشخصية وجوالاتهم بحثاً عمّا يدل على احتفالهم بتطورات الأحداث في سوريا، أو ربط ما يجري هناك بالوضع في اليمن.

وشهدت محافظة إب (193 كيلومتراً جنوب صنعاء) اختطاف عدد من السكان للأسباب نفسها في عدد من المديريات، مترافقاً مع إجراءات أمنية مشددة في مركز المحافظة ومدنها الأخرى، وتكثيف أعمال التحري في الطرقات ونقاط التفتيش.

إلى ذلك، أجبرت الجماعة عاملين في القطاع الطبي، بشقيه العام والخاص، على حضور فعاليات تعبوية تتضمن محاضرات واستماع لخطابات زعيمها عبد الملك الحوثي، وشروحات لملازم المؤسس حسين الحوثي، وأتبعت ذلك بإجبارهم على المشاركة في تدريبات عسكرية على استخدام مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقنابل اليدوية وزراعة الألغام والتعامل مع المتفجرات.

وذكرت مصادر طبية في صنعاء أن هذه الإجراءات استهدفت العاملين في المستشفيات الخاصعة لسيطرة الجماعة بشكل مباشر، سواء العمومية منها، أو المستشفيات الخاصة التي استولت عليها الجماعة بواسطة ما يعرف بالحارس القضائي المكلف بالاستحواذ على أموال وممتلكات معارضيها ومناهضي نفوذها من الأحزاب والأفراد.

زيارات إجبارية للموظفين العموميين إلى معارض صور قتلى الجماعة الحوثية ومقابرهم (إعلام حوثي)

وتتزامن هذه الأنشطة مع أنشطة أخرى شبيهة تستهدف منتسبي الجامعات الخاصة من المدرسين والأكاديميين والموظفين، يضاف إليها إجبارهم على زيارة مقابر قتلى الجماعة في الحرب، وأضرحة عدد من قادتها، بما فيها ضريح حسين الحوثي في محافظة صعدة (233 كيلومتراً شمال صنعاء)، وفق ما كانت أوردته «الشرق الأوسط» في وقت سابق.

وكانت الجماعة أخضعت أكثر من 250 من العاملين في الهيئة العليا للأدوية خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، وأخضعت قبلهم مدرسي وأكاديميي جامعة صنعاء (أغلبهم تجاوزوا الستين من العمر) في مايو (أيار) الماضي، لتدريبات عسكرية مكثفة، ضمن ما تعلن الجماعة أنه استعداد لمواجهة الغرب وإسرائيل.

استهداف أولياء الأمور

في ضوء المخاوف الحوثية، ألزمت الجماعة المدعومة من إيران أعياناً قبليين في محافظة الضالع (243 كيلومتراً جنوب صنعاء) بتوقيع اتفاقية لجمع الأموال وحشد المقاتلين إلى الجبهات.

موظفون في القطاع الطبي يخضعون لدورات قتالية إجبارية في صنعاء (إعلام حوثي)

وبينما أعلنت الجماعة ما وصفته بالنفير العام في المناطق الخاضعة لسيطرتها من المحافظة، برعاية أسماء «السلطة المحلية» و«جهاز التعبئة العامة» و«مكتب هيئة شؤون القبائل» التابعة لها، أبدت أوساط اجتماعية استياءها من إجبار الأعيان والمشايخ في تلك المناطق على التوقيع على وثيقة لإلزام السكان بدفع إتاوات مالية لصالح المجهود الحربي وتجنيد أبنائهم للقتال خلال الأشهر المقبلة.

في السياق نفسه، أقدمت الجماعة الانقلابية على خصم 10 درجات من طلاب المرحلة الأساسية في عدد من مدارس صنعاء، بحة عدم حضور أولياء الأمور محاضرات زعيمها المسجلة داخل المدارس.

ونقلت المصادر عن عدد من الطلاب وأولياء أمورهم أن المشرفين الحوثيين على تلك المدارس هددوا الطلاب بعواقب مضاعفة في حال استمرار تغيب آبائهم عن حضور تلك المحاضرات، ومن ذلك طردهم من المدارس أو إسقاطهم في عدد من المواد الدراسية.

وأوضح مصدر تربوي في صنعاء لـ«الشرق الأوسط» أن تعميماً صدر من قيادات عليا في الجماعة إلى القادة الحوثيين المشرفين على قطاع التربية والتعليم باتباع جميع الوسائل للتعبئة العامة في أوساط أولياء الأمور.

مقاتلون حوثيون جدد جرى تدريبهم وإعدادهم أخيراً بمزاعم مناصرة قطاع غزة (إعلام حوثي)

ونبه المصدر إلى أن طلب أولياء الأمور للحضور إلى المدارس بشكل أسبوعي للاستماع إلى محاضرات مسجلة لزعيم الجماعة هو أول إجراء لتنفيذ هذه التعبئة، متوقعاً إجراءات أخرى قد تصل إلى إلزامهم بحضور فعاليات تعبوية أخرى تستمر لأيام، وزيارة المقابر والأضرحة والمشاركة في تدريبات قتالية.

وبحسب المصدر؛ فإن الجماعة لا تقبل أي أعذار لتغيب أولياء الأمور، كالسفر أو الانشغال بالعمل، بل إنها تأمر كل طالب يتحجج بعدم قدرة والده على حضور المحاضرات بإقناع أي فرد آخر في العائلة بالحضور نيابة عن ولي الأمر المتغيب.