10 سنوات على حكم حماس (2 - 4) : غزة: حياة مأساوية ومستقبل غامض يدفع الشباب إلى الانتحار

بلا كهرباء ولا ماء ولا وقود ولا معابر.. مع آفاق غامضة يصلون إلى طريق مسدود

غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
TT

10 سنوات على حكم حماس (2 - 4) : غزة: حياة مأساوية ومستقبل غامض يدفع الشباب إلى الانتحار

غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)

بعد تفكير طويل لم يتردد الشاب الغزي «محمد. ص» والذي يسكن في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، بتناول كمية من السم لإنهاء حياته التي وصفها بالبائسة ومن دون مستقبل، قبل أن تتدخل مجموعة من المارة الذين شاهدوه وهو يسقط على الأرض مغشيا عليه، لينقلوه على عجل إلى مستشفى الشفاء ما ساهم في إنقاذ حياته.
محاولة محمد البالغ من العمر 29 عاما، والتي تمت في الثالث عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، لم تكن المحاولة الأولى بل سبقه آخرون ونجحوا في الانتحار ولحقه آخرون كذلك، في تعبير صارخ عن ضنك الحياة التي يعيشها الناس في القطاع الصغير المحاصر.
استمر الأطباء نحو 4 ساعات حتى استطاعوا إنقاذ حياته بعد تناوله للمادة السامة، واستمر نحو 6 ساعات إضافية قابعا في غرفة العناية المركزة وسط مراقبة شديدة من قبل الأطباء لحالته الصحية حتى استطاع استعادة وعيه، فمكث يومين آخرين تحت الرعاية الطبية، ومن ثم عاد إلى حياته.
يقول محمد لـ«الشرق الأوسط» في جلسة «مصارحة»، إنه لن يفعل ذلك ثانية، لكنه حين فعلها كانت الحياة ضغطت عليه بما يكفي. مضيفا: «لم أكن قادرا على تحمل أعبائها الكبيرة والمتراكمة».
وتوفي والد محمد قبل 13 عاما وترك في رقبته عائلة مكونة من 5 أشقاء من الذكور هو أكبرهم، و3 شقيقات أكبرهن تدرس في جامعة الأقصى بغزة، من دون ميراث أو مهنة محددة.
ووسط ظروف حياتية صعبة يعمل محمد في بيع «الملابس الداخلية» و«الأحذية» على مفترقات الطرق بمدينة غزة، حين يتسنى له ذلك، ويحاول الآن مضاعفة ساعات العمل في محاولة منه لسد رمق أسرته، وانضم إليه شقيقه الأصغر ياسر، (26 عاما) في محاولة لكسب المزيد من المال.
وتعيش عائلة محمد في منزل متهالك لا يكاد يصلح للعيش الآدمي، حيث يتكون المنزل من مساحة تقل عن 80 مترا، غير محمي بشكل كامل من الأمطار والهواء والغبار والزواحف.
يختصر الشاب حكايته بالقول: «هذا قدري في الحياة.. ما في مستقبل، ما عندي شيء ممكن أعمله لنفسي، مش ممكن أتزوج وأكون عائلة مثل كثير ناس، كل همي الآن إني أجيب لقمة الأكل لعائلتي مشان يقدروا يعيشوا بس ولو بالقليل وما يحتاجوا أحد».
لكن لم نفهم كيف أن المبلغ الذي يجمعه محمد يوميا يمكن أن يسد رمق أسرة. وقال محمد إنه بعد عمل 12 ساعة يجمع ما مقداره 25 شيقلاً أي 7 دولارات. مضيفًا: «هل عرفتم لماذا حاولت الانتحار.. ليس لأسباب شخصية بل بسبب عجزي عن توفير احتياجات عائلتي وتراجع حالتنا الاقتصادية المزرية في ظل تدهور الأوضاع العامة في قطاع غزة».
ويأمل «محمد» كما الآلاف من سكان قطاع غزة الذين يعيشون في ظروف حياتية قاسية في تحسن الأوضاع وفتح آفاق أمامهم للعمل وتحسين حياتهم أملا في بناء مستقبل واعد. إلا أن ذلك يبدو بعيد المنال في ظل الظروف السياسية التي تنعكس بشكل مباشر على الواقع الاقتصادي والحياتي بغزة، وهو الواقع الذي دفع آخرين إلى محاولة الانتحار.
وتشير إحصائيات حصلت عليها الشرق الأوسط من مراكز حقوقية، إلى أنه سجل منذ بداية العام الحالي 35 محاولة انتحار بطرق متعددة، منها استخدام السلاح الناري وأخرى باستخدام مواد سامة أو الانتحار شنقا.
الجهات الأمنية الفلسطينية في غزة كثيرا ما تقول: إن معدلات الجريمة وحتى محاولات الانتحار طبيعية وليست «ظاهرة» باعتبار أن الدول الأخرى تسجل حالات أكثر، لكن المراكز الحقوقية ترى أن ما يجري خطير للغاية ومؤشر على واقع صعب في القطاع.
وقال الناطق باسم الشرطة أيمن البطنيجي في حديث مع «الشرق الأوسط»: «ليست ظاهرة، في دول أخرى المعدلات مرتفعة للغاية».
وبحسب متابعات الشرطة، فإن غالبية من يقدمون على الانتحار أو المحاولة، يعانون من مشاكل عائلية وضغوط اقتصادية وظروف خاصة مختلفة.
وعلى الرغم من أن القانون يجرم محاولات الانتحار ويعاقب عليها، فإن الأجهزة الأمنية في غزة تعمل بروح القانون، وفق البطنيجي، بسبب ما وصفه بـ«ظروف الناس» مضيفا: «نفضل تقديم العلاج لهم ولقضاياهم بدلا من معاقبتهم قانونيا».
ويرى البطنيجي أن الصدى الذي تحدثه محاولات الانتحار بغزة: «نابع من أننا نعيش في مجتمع محافظ تزعجه مثل هذه القضايا ويتألم لما وقع به قاتل نفسه». مشيرا إلى أهمية تحرك المؤسسات غير الحكومية في ضرورة توفير العلاج النفسي وتنفيذ جلسات إرشادية لتوعية الناس، والاطلاع على ظروفهم ومحاولة علاجها بكافة الطرق الممكنة.
ولكن مع كل هذا الجهد المبذول، تبقى الأرقام مقلقة. ففي يناير (كانون الثاني) الماضي، سجلت حالتا انتحار إحداهما لفتاة، في حين سجل منذ بداية فبراير (شباط) 6 حالات انتحار منها واحدة لفتاة ألقت بنفسها من مكان مرتفع في مدينة غزة، ومن بينها 4 حالات وقعت في غضون 3 أيام، إحداها لشخص أحرق نفسه واثنان أقدما على شنق نفسيهما ورابع ألقى بنفسه من مكان مرتفع، والحالات الثلاث وقعت في أيام (10 - 11 - 12) من الشهر نفسه، في منطقة خانيونس، والرابعة في رفح جنوب قطاع غزة.
وقال المختص النفسي والاجتماعي الدكتور فضل أبو هين، لـ«الشرق الأوسط» «إن حالات الانتحار تنم عن حالة اكتئاب يُصاب بها الفرد نتيجة ظروف حياتية قاسية يمر بها تدفعه إلى إنهاء حياته بطريقة يحرمها الدين ويجرمها المجتمع والقانون فيما يرى المنتحر نفسه بأنه أقدم على الفعل للتخلص مما لا يتحمله من أعباء كبيرة».
وأشار أبو هين إلى أن معدلات الانتحار في الأراضي الفلسطينية ليست بجديدة ولا يمكن مقارنتها بما يحصل في المجتمعات العربية والغربية، لكنه يركز على الأسباب؛ «ومعظمها يعود لأسباب اقتصادية في ظل انغلاق الأفق السياسي وإغلاق المعابر وما خلفته الحروب من آثار نفسية واجتماعية واقتصادية على حياة الفلسطينيين في قطاع غزة».
ويرى أبو هين أن الحصار يولد حالات انتحار، مشيرا إلى حجم ظاهرة هجرة الشبان قبل أحكام إغلاق المنافذ، باعتبار ذلك بديلا محتملا للانتحار كإحدى المشاكل الاجتماعية التي يخلفها الواقع الحالي.
وقال أبو هين مجددا: «الأسباب هي المختلفة». وأضاف: «الانتحار هنا يأتي لأسباب مختلفة عنها في المجتمعات الأخرى، المعاناة والإحباط الشديد وغياب الأفق لمستقبل واضح، مع استمرار انغلاق الأفق السياسي الذي يؤثر على حالة المجتمع بشكل عام، أسباب رئيسية في حالات الانتحار في فلسطين».
ويفسر بالقول: «الأسرة الفلسطينية تنتظر من ابنها أن يبحث عن مستقبله ويبدأ بتأسيس عائلته الخاصة ويعمل على إعالة عائلته الجديدة وكذلك أسرته المكونة من والديه وأشقائه، ولكن كثيرا ما يصطدم الشبان بواقع اقتصادي وسياسي مأساوي يجعله عاجزا عن تقديم الحلول لأسرته فيصبح إرهاقا إضافيا لتلك الأسرة المرهقة بالأساس ويصبح مطالبا بالخروج للبحث عن عمل ويُنظر إليه في الكثير من الأحيان بنظرة التبخيس به وبقدرته والتقليل من شأنه وكل ذلك يؤدي إلى تراكم الوضع النفسي على الشاب ويغلق أمامه أفق الحياة فيفكر بالانتحار ويفعلها».
ويعيش المواطن في غزة إضافة إلى الظروف الاقتصادية الصعبة، ظروفا حياتية صعبه كذلك.
ويمكن القول إن أهل غزة جربوا كل أشكال الحياة البدائية، تحت «الحصار»، بلا كهرباء ولا وقود ولا ماء.
وتغط غزة طيلة 18 ساعة في اليوم في ظلام دامس بسبب انقطاع الكهرباء، وهو ما أدى إلى كوارث «ارتدادية»، مثل توقف المضخات عن ضخ كميات المياه اللازمة للسكان، والمعاناة التي تلاقيها غرف عمليات المستشفيات، ناهيك على انقطاعات متكررة في الغاز والوقود.
كما يعاني الغزيون من ضغط متعلق بالحريات العامة.
ووضعت الحركة الإسلامية في أوقات مختلفة قوانين صارمة تتعلق بالتنزه على شاطئ البحر والسماح للنساء بتعاطي النرجيلة في المطاعم العامة، وطريقة عرض البضائع في المحلات، وتدخلوا في أحيان مختلفة بطريقة قصة الشعر وارتداء الملابس، وهو ما أثار الجدل داخل حماس نفسها.
ويربط الكثير من المراقبين حالات الانتحار بالواقعين السياسي والحياتي، بما في ذلك القوانين الصارمة وتراجع الوضع الاقتصادي، وانتشار البطالة وارتفاع نسبة الفقر.
وشهدت نسب البطالة وحدها ارتفاعا كبيرا وصل إلى نحو 80 في المائة. وفق إحصائيات الهيئة الشعبية لمواجهة الحصار.
وقال المواطن أبو خميس نصر الدين، من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، لـ«الشرق الأوسط»: «الحياة هنا صعبة».
ويملك نصر الدين، ورشة صغيرة لأعمال «النجارة» ولكن انقطاع الكهرباء لأكثر من 10 ساعات يوميا يضاعف من الأزمات له في عمله ومواعيده.
وقال نصر الدين «يكفيك أزمة الكهرباء، وهذه تترافق مع أزمات كثيرة بالأساس منها عدم توفر الخشب اللازم لتفصيل غرف النوم أو غيره من الأثاث إلا بأسعار عالية».
ولفت إلى أنه يضطر لشراء الوقود لتشغيل مولد الكهرباء بأسعار عالية كذلك. وقال: «نضطر لأن ندفع أكثر في الخشب، ونحو 30 شيقلا كل يومين، أي ما يعادل نحو (8 دولارات) ثمن وقود بدل كهرباء، ولا يبقى لنا إلا القليل».
وتابع: «نحن نعيش حياة مأساوية جدا، لا كهرباء جيدة ولا مياه صالحة، والحروب تلاحقنا والحصار والانقسام يدمران حياتنا الاجتماعية قبل الاقتصادية، السياسة تنخر في عظام كل منزل بغزة وتنهكه كثيرا».
وبفعل الحصار الموجود على غزة تعاني المصانع وورش العمل بسبب فرض إسرائيل رقابة عالية على البضائع التي تدخل إلى القطاع خشية أن يستفيد منها عناصر حماس المسلحون.
وبعض البضائع ممنوعة أصلا من الدخول كونها تدخل في صناعة السلاح أو بناء الأنفاق.
ولا يأمل الكثير من الغزيين في حل سريع لهذه الأزمات رغم الحديث عن حوارات جادة حصلت مؤخرا بالدوحة لإنهاء الانقسام. والتشاؤم هو السائد بين سكان القطاع، ما يعني بالنسبة لهم مزيدا من تدهور الأوضاع الحياتية.
والمصالحة التي يتطلع لها الغزيون تعني بالنسبة لهم فك الحصار وفتح المعابر (أي التغيير الجذري في الحياة) التي قالت إحصائية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إنها تتسم بإضرابات نفسية واجتماعية.
وبحسب تقرير إحصائي لـ«الأونروا» فإن نحو ثلث اللاجئين الفلسطينيين في غزة، والبالغ عددهم 1.2 مليون نسمة، ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية. مشيرة إلى أن الحصار المفروض على القطاع، لا يؤثر فقط في النواحي البدنية والاقتصادية والاجتماعية للسكان، لكن يعرضهم أيضا لمستويات عالية من الضغط النفسي والاجتماعي.
وفعلت «الأونروا» 21 مركزا تابعا للوكالة، لاستقبال اللاجئين الذين ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية في القطاع، وبدأت بتشغيل 31 مشروعا تجريبيا من أجل دمج الرعاية الصحية النفسية والدعم النفسي الاجتماعي ضمن خدمات الرعاية الصحية.
وحول تلك الحلول المبتكرة التي يمكن أن تسهم في التقليل من محاولات انتحار الشبان (وهم الفئة الأكبر من المقدمين على الانتحار بغزة)، يرى المختص النفسي والاجتماعي أبو هين أن المشاكل الحالية في قطاع غزة والتي تسهم بتفكير الشبان بالخلاص من الأعباء الملقاة عليهم بالانتحار أكبر بكثير من قدرة المؤسسات الدولية أو المحلية ومؤسسات الصحة النفسية لإيجاد حلول عامة لها. مضيفا: «قدرة المؤسسات تكمن في إيجاد حلول لمشاكل محددة وليس مشاكل عامة يتأثر بها غالبية الفلسطينيين في غزة».
ورأى أبو هين أن «الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الأولى عن واقع الحال في الأراضي الفلسطينية وأنه يعمل منذ زمن طويل على خلخلة المجتمع، لكنه استدرك أهمية تحميل المسؤولية للساسة في فلسطين وأصحاب الانقسام. كما وصفهم. مشددا على أنهم هم من أوجدوا الحالة القائمة.
وأضاف: «لو أن الحياة سهلة كما قبل والمعابر مفتوحة وفرص العمل متوفرة، فلماذا ينتحر الشبان؟».
ويبقى هذا السؤل معلقا برسم إجابة الحكام في القطاع والضفة.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.