مثقفون مصريون يطلقون دعوة لإحراق أعمالهم الأدبية في القاهرة

بعد الحكم بحبس أديب شاب عامين وتغريم رئيس تحرير «أخبار الأدب»

أحمد ناجي
أحمد ناجي
TT

مثقفون مصريون يطلقون دعوة لإحراق أعمالهم الأدبية في القاهرة

أحمد ناجي
أحمد ناجي

الدعوة إلى حرق الأعمال الإبداعية الأدبية والفنية أمام مقر المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة تعكس تفاقم حدة الغضب في الوسط الثقافي المصري فيما يخص محاكمة الكتاب والمفكرين. تأتي الدعوة باعتبارها ردة فعل لتصاعد أزمة نشر فصل من رواية «استخدام الحياة» لأحمد ناجي بجريدة «أخبار الأدب» التي أخذت منحى جديدا بعد صدور حكم بالحبس لمدة عامين على الكاتب، وحكم بغرامة عشرة آلاف جنيه على رئيس تحرير الجريدة طارق الطاهر. وفي ردود فعل أخرى، شن عدد كبير من المثقفين والصحافيين حملة عبر إطلاق هاشتاج «ضد محاكمة الخيال»، تضامنا مع الكاتب. بينما تقدمت نقابة الصحافيين ومؤسسة حرية الفكر والتعبير، أول من أمس (الأحد)، بأربعة طلبات إلى النائب العام، اليوم (الثلاثاء)، لوقف تنفيذ عقوبة حبس الروائي أحمد ناجي الصادر السبت الماضي.
جاء الحكم بمنزلة الصدمة، خصوصًا بعد الحكم الابتدائي الذي أقر ببراءة ناجي من تهمة نشر مقال يخدش الحياء العام، وكانت محكمة مستأنف بولاق أبو العلا، المنعقدة بمحكمة شمال القاهرة بالعباسية، قد قضت بقبول الاستئناف المقدم من النيابة العامة على براءة أحمد ناجي، الصحافي بجريدة «أخبار الأدب» ورئيس تحرير الجريدة، لاتهامه بنشر مواد أدبية تخدش الحياء العام وتنال من قيم المجتمع، وذلك لنشر فصل من رواية ناجي (استخدام الحياة) في العدد رقم «1097» من جريدة «أخبار الأدب» التي تصدر عن مؤسسة «أخبار اليوم» في شهر أغسطس (آب) 2014.
ورأت النيابة أن النص الأدبي، وهو الفصل الخامس من الرواية، «مقال» يخدش الحياء العام، رغم أنه نشر بجريدة مطبوعة، كما أنها مجلة متخصصة في مجال الأدب ومعروفة بنشرها النصوص الأدبية. واعتبر المثقفون المصريون الحكم القضائي بمنزلة تعدٍّ على الدستور المصري الذي يمنع عقوبة الحبس في جرائم النشر.
وتلقت دعوة «احرق عملك الإبداعي» التي يتم الحشد لها، اليوم (الثلاثاء)، قبولا واسعا بين الأدباء والمثقفين، تلك الدعوة التي دشنها الكاتبان المصريان سامح قاسم وأحمد صوان والناشر زياد إبراهيم، مدير بيت الياسمين للنشر والتوزيع، على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، مناشدين المبدعين تجميع نسخ من أعمالهم الإبداعية، سواء كانت كتبا أو صورا فوتوغرافية أو لوحات فنية، وحرقها أمام مقر دار القضاء العالي بالقاهرة، بوصفها خطوة رمزية، احتجاجًا على الحكم ضد الكاتب أحمد ناجي.
وقال قاسم صاحب الفكرة: «لا اعتراض على أحكام القضاء، لكن في الوقت نفسه المهزلة تكمن في أن تتم إحالة المبدعين إلى القضاء، بينما يتم الإفراج عمن يدّمرون هذا البلد».
وأضاف صوان: «كثير يعترض على ناجي وأسلوبه، لكن الأمر يتعلق بالفكرة والخيال، حيث نصّب البعض أنفسهم حماة لما يدّعون أنه الفضيلة، بينما حياتهم الخاصة مليئة بما يبدو أمامه وصف ناجي أو غيره ضئيلاً. لا أحد يعترض على أفكار الآخرين إلا لو كان يريد غرس فكرة أخرى بعيدة عن الحرية. من قبل تم حبس إسلام بحيري والتهديد بحبس فاطمة ناعوت، لمجرد اختلاف أفكارهما عن السائد. المرة المقبلة قد يكون ضحية الحسبة المجتمعية التي لا أساس لها قتيلاً وليس سجينًا».
بينما أوضح الناشر زياد إبراهيم أن الحكم على أحمد ناجي بسبب كتاباته هو العبث ذاته، لأن محاكمة الخيال شيء واهٍ جدًا، واصفًا حبس المفكرين بـ«العار».
وأصدرت الدعوة بيانا جاء فيه: «دعونا نتذكر جيدًا أن هذه الدعوات نفسها هي ما أدت إلى اغتيال الكاتب الراحل فرج فودة، ومحاولة اغتيال الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ، وهي ما دفعت إلى الحكم بتفريق الكاتب الراحل نصر حامد أبو زيد عن زوجته، إضافة إلى إلقاء آخرين في السجون، بينما تكتفي الدولة برفع حاجبيها في دهشة بعد كل حادث أليم لواحد من المبدعين، أو حتى تجاهله تمامًا».
وأضاف البيان: «التمسك بفكرة حرق الكتب جاء بصورة رمزية، أي حرق نسخة من العمل وليس إفناء الأعمال كلها كما يدّعي البعض، هي فقط وسيلة لرفع الصوت حتى يسمعه الأصم، فجنحت إلى طريق صادم لإبراز الاعتراض».
وأكد أن «ما تمارسه الدولة بحق المثقفين والمفكرين والفنانين وأصحاب الرأي يُعّد خطرًا حقيقيًا على إعادة بناء هذا الوطن.. وأمام كل هذه الانتهاكات بات من الصعب الوقوف مكتوفي الأيدي، مكممي الأفواه. الغرض من حرق الكتب ليس إفناء هذه الأعمال، فهناك عشرات الشواهد التاريخية التي قامت فيها السلطات بحرق أعمال مبدعين أو منعها أو مصادرتها، وإلا ما كانت هذه الأعمال بقيت حتى الآن لنقرأها ونشاهدها. النار يا سادة لا تأكل فقط وإنما تنير الطريق أحيانا».



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟