التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزق العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى

خلال حلقة حوار لـ«المجلس الأطلسي» بواشنطن

التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزق العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى
TT

التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزق العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى

التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزق العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى

باتت التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزِّق العراق اليوم أعظم من أي وقت مضى. هذا ما اتفق عليه ثلاثة من كبار المسؤولين الدبلوماسيين والعسكريين السابقين في الحكومة الأميركية، خلال حلقة حوار نظمها «مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط» في «المجلس الأطلسي» بالعاصمة الأميركية واشنطن، رافضين في الوقت عينه الحديث عن تلاقي مصالح طهران وواشنطن في المنطقة. الخبراء الثلاثة، وهم الجنرال مايكل باربيرو نائب رئيس الأركان السابق للعمليات الاستراتيجية في القوة المتعددة الجنسيات والعضو الحالي في فرقة العمل مجلس (council task force)، وجيمس جيفري الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى العراق بين 2010 - 2012 وريان كروكر سفير الولايات المتحدة لدى العراق خلال عهد الرئيس جورج بوش الابن، استعرضوا خلال الحلقة التجاذبات التي تتخبط فيها البلاد فضلا عن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في العراق.
خلال حلقة الحوار التي نظمها مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي بالعاصمة الأميركية واشنطن، وتناولت واقع التجاذبات الطائفية والفئوية وعليه، اعتبر مايكل باربيرو، نائب رئيس الأركان السابق للعمليات الاستراتيجية في القوة المتعددة الجنسيات والعضو الحالي في فرقة العمل مجلس (council task force) أنه «في عام 2007، كان ثمة شعور بأن التجاذبات التي توحِّد العراق كانت أكبر بكثير من تلك التي تشتِّته» غير أن الوضع اختلف كثيرًا اليوم نظرا للانشقاقات الطائفية العميقة جدًا المهيمنة في بلاد الرافدين.
أما السفير جيمس جيفري، سفير الولايات المتحدة في بغداد بين 2010 – 2012، فرأى من جهته «إننا نواجه اليوم مشكلة تتمثل في التحالف الإيراني - السوري الروسي في الشرق الأوسط»، فاقمها وجود تنظيم داعش المتطرّف. وأوضح جيفري أن إيران تسعى إلى توحيد الشيعة في المنطقة وترسيخ نفسها في موضع قوة، مضيفا أن العراق يحظى بأهمية كبرى بالنسبة إلى إيران بسبب قربه منها، وباعتباره مركزًا دينيًا (شيعيًا) منافسًا لها وكونه أيضا دولة عربية مستقلة.
ومن ثم، أشار الدبلوماسي الأميركي إلى أن القيادة الإيرانية تسعى إلى تكرار نموذج لبنان من خلال خلق حالة غير مستقرة ودولة ضعيفة تستطيع بكل سهولة السيطرة عليها عبر أذرعها الخارجية، منها ميليشيا الحشد الشعبي. وأردف «إن ما ترونه حاليًا في العراق هو نفس قواعد اللعبة القديمة التي بدأت إيران باعتمادها منذ أوائل الثمانينات، عندما تمكنت إيران بمساعدة سوريا، من تأسيس حزب الله في لبنان».
وفي ضوء حقيقة أن إيران والعراق كانا في «حالة حرب» استمرت من عام 1980 حتى عام 1988 إلى أن وافق آية الله روح الله الخميني، المرشد الأعلى الإيراني السابق الراحل، على شروط اتفاق وقف إطلاق النار، اعتبر ريان كروكر، سفير الولايات المتحدة لدى العراق خلال عهد الرئيس جورج بوش الابن، أن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني «يسعى اليوم إلى تحقيق ما لم تتمكن إيران من إنجازه في الثمانينات، أي تحقيق نصر على العراق عن طريق تفتيته». وأضاف كروكر أن هذا الهدف الذي ستساهم في تحقيقه شخصيات شيعية عراقية نافذة مثل هادي العامري رئيس «فيلق بدر». وهنا، وفق باربيرو، فإن كلاّ من العامري وقاسم سليماني، قائد «فيلق القدس»، أي النخبة الإيرانية، تربطهما علاقة وثيقة منذ سنوات طويلة، في سياق دحضه - حسب قوله - مقولة «تلاقي المصالح الإيرانية والأميركية في العراق»، مشككا في «أي تعاون بين الدولتين من أجل توحيد المصالح» تلك.
وبالإضافة إلى ما تقدّم، أكد المتحدثون أن الميليشيات الشيعية العراقية لعبت دورًا أساسيا في مساعدة قوات الأمن العراقية على استعادة السيطرة على الأراضي التي كان تنظيم داعش قد احتلها لبعض الوقت. غير أن المتحدثين شددوا في الوقت عينه على وجود «تباين بين الميليشيات ذات الطابع الوطني وتلك التي تدين بولاء مطلق لإيران». وقال الجنرال باربيرو «إن التعاون يمكن أن يجري مع الفئة الوطنية أو القومية من الميليشيات.. غير أن القلق الأكبر يمكن في كيفية إعادة وضع المارد (أو الجنّي) في القمقم»، في إشارة مباشرة إلى الميليشيات الطائفية المدعومة من إيران.
من ناحية أخرى، تطرّق السفير كروكر إلى تحد آخر هو «ضعف حكومة بغداد»، فشرح كيف أن مدينة البصرة أصبحت مدينة تهيمن عليها الميليشيات بعدما فشلت القوات الحكومية العراقية في فرض سلطتها أو إعادة الأمن إليها. وحسب السفير السابق فإن «هذا الفشل لم تستغله الميليشيات الشيعية فحسب وإنما أيضا «داعش»، الذي شكل عاملاً أساسيا آخر في التجاذبات (الفئوية) في العراق. إذ اعتبر كروكر أن «داعش» يحاول تغيير الحدود القديمة (التي أقرت في أعقاب اتفاقية سايكس - بيكو)، مضيفا أن «داعش هو مجرد عارض وليس سببا، ولقد أنتجه الحكم الفاشل وتهميش العرب السنة جرّاء سياسات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بشكل أساسي. وبدوره قال جيفري «إن داعش ظاهرة فريدة من حيث درجة الإجرام التي بلغها، وهو الرغم من ضمه في صفوفه كثرة من قدامى الضباط البعثيين العراقيين - من عهد الرئيس السابق الراحل صدّام حسين – فإنه يظل إلى حد ما، قوة غريبة عن العراق».
وفي اتجاه ثانٍ، سلّط المتحاورون خلال الندوة الضوء على الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها إدارة الرئيس باراك أوباما في تعاطيها مع شؤون العراق، وكانت أولها التعجل في سحب القوات الأميركية من العراق والسماح بالتوسّع الإيراني داخل البلاد. وفي هذا السياق، اعتبر كروكر أنه «عندما انسحبت الولايات المتحدة، لم تنته الحرب، بل سُلمت البلاد إلى أعدائنا»، في إشارة إلى كل من إيران و«داعش». أما السفير جيفري فشدد على أهمية «وجود قوات عسكرية على الأرض، التي من دونها ستصعب كثيرًا مهمة واشنطن في معالجة المواضيع الحساسة».
وخير مثال على ما سبق، حسب المتحاورين، النجاحات التي تحقّقت في العراق في فترة 2007 حين تمكنت الولايات المتحدة من كسب ثقة السكان، لا سيما الثقة عند المكوِّن العربي السنّي، كما نجحت بحرمان تنظيم القاعدة من التمتع بدعم الحاضنة العربية السنّية. ومن ثم، أوضح السفير كروكر أن «إعادة إرساء الأمن هي أحد الحلول لإطلاق العملية السياسية، وهي قضية تقع في صلب الهواجس الأميركية اليوم». بينما قال باربيرو إن «السؤال الأهم الذي يُطرح هو كيف يمكن دفع السكان السنة إلى رفض القبول بداعش والقبول بدعم الحكومة العراقية». وهذا الرأي حظي بموافقة السفير جيفري الذي قال في مداخلته إن الاستعاضة عن داعش بالميليشيات (الشيعية) الموالية لإيران لن ينجح إلا بمفاقمة المشكلة عوضًا عن الإسهام في حلها».
ومن ثم قال كروكر إن التغيرات الحالية في الشرق الأوسط حاليًا تشير أكثر فأكثر إلى ضرورة التوجه إلى حل سياسي في العراق، «فالشعور السائد هو وجود محور إيراني سوري روسي تقف الولايات المتحدة صامتة بوجهه»، الذي ذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن «هذا التحليل يبقى متسامحًا أو متعاطفًا (مع الموقف الرسمي الأميركي) إلى حد ما، أما التحليل الأقل تسامحًا فيتحدث عن وجود حلف إيراني - سوري نظامي - روسي - أميركي، وبالتالي، فإن الولايات المتحدة إذا بقيت في موقف المتفرج، تعتبر متواطئة وجزءًا من هذا المحور».
وتطرّق البحث من ثم إلى توصل إيران والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وفرنسا والصين وألمانيا إلى اتفاق في يوليو (تموز) عام 2015 رفعت بموجبه العقوبات عن إيران مقابل كبح الطموحات النووية لقادة طهران. وهنا شكك السفير كروكر في «نيات إيران الحسنة»، معتبرا أن «أي شخص يظن أن الاتفاق النووي الإيراني سيولد حقبة جديدة نشهد فيها إيران متسامحة في المنطقة سيكون مخطئ الظن». وأردف أن تنظيم داعش المتطرف يشكل «طعمًا جيدًا» تستعمله إيران لتعبئة الشعب العراقي، مواصلاً كلامه محذّرًا من «أن السم القاتل الذي تحدث عنه الخميني عندما قال إنه أجبر على شربه في عام 1988 قد يعود ليتحول إلى كأس الانتصار على يد قاسم سليماني».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.