من التاريخ : الرأسمالية والصراع الفكري

كارل ماركس
كارل ماركس
TT

من التاريخ : الرأسمالية والصراع الفكري

كارل ماركس
كارل ماركس

إذا كانت الثورة الصناعية الأولى والثانية قد خلقت حالة اقتصادية جديدة على المستوى العالمي، كما تابعنا على مدار الأسبوعين الماضيين، من خلال تغيير أنماط الإنتاج والتجارة ومفهوم رأس المال ما أثر مباشرة على مسيرة النظام الاقتصادي الدولي، فإن هذه المتغيرات كانت حتمًا ستولد صراعًا فكريًا على مستوى القارة الأوروبية. هذا الصراع الفكري أسس للكثير من الأفكار والنظريات التي سيطرت على النظام الدولي اقتصاديا وسياسيا في مرحلة بدأت مع الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية. وهو الصراع الذي اعتقد بعض المنظرين أنه حُسم لصالح مفهوم الرأسمالية المطلقة في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي وتغير النظام العالمي سياسيا على النحو الذي تابعناه في الكثير من المقالات السابقة.
لقد دفع تغيير أنماط الإنتاج وطريقة الحياة في القارة الأوروبية المفكرين الاقتصاديين، مثلهم مثل السياسيين، للتنظير حول المستقبل الاقتصادي وأفضل وسائل الإدارة الاقتصادية سواء داخل الدولة أو بين الدول. وخرج من رحم هذه المتغيرات الفكر الرأسمالي بشكله الحالي الذي ينسب بشكل أساسي إلى المفكر آدم سميث وكتابه الشهير «ثروات الأمم» وبعض المفكرين الذين تلوه. وكانت الفكرة الأساسية التي يعتمد عليها أرباب النظرية الرأسمالية الكلاسيكية مرتبطة بشكل كبير بالنظرية السياسية التي سبقتها والتي صاغها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك من خلال نظرية «العقد الاجتماعي» الذي يتمحور حول الدور المنظم للدولة على المستوى السياسي وحماية الملكية الفردية. ومن هذا المنطلق، وعلى الوتيرة نفسها فإن النظرية الرأسمالية دفعت كأساس لها بمفهوم الفردية الاقتصادية، أي حق كل مواطن وفقًا لقدراته ومصالحه الشخصية في تطوير ثروته بالشكل الذي لا يخالف القانون. ويرتبط مع هذا المبدأ الشهير Laissez Faire الذي يمكن التعبير عنه بمقولتنا الشهيرة «دع الأمور تسير من تلقاء ذاتها» أي خفض تدخل الدولة في المسائل الاقتصادية لأدنى الحدود على أن يبقى دورها كحكم عادل ومحصّل للضرائب ومنظم للمنظومة الاقتصادية الداخلية. وكان أهم ركن من أركان هذه المعادلة الاقتصادية مبدأ «الطبيعة الاقتصادية الحرّة» المبنية على العرض والطلب، فهذان العنصران هما المحددان للمسيرة الاقتصادية ولا يجوز التأثير على هذه المعادلة الطبيعية سواء من الدولة أو الأفراد، ولكن مع أن يُترك للحكومة دورها المهم في ضمان حرية المنافسة والتجارة الدولية. وكانت القناعة الأساسية لهذه النظرية الرأسمالية وجود ما سماه آدم سميث «الأيدي الخفية» التي من شأنها أن تتدخل لتنظم الاقتصاد طبيعيًا بلا أي تدخلات حكومية.
هكذا تطورت هذه النظرية على أساس النظام الاقتصادي الجديد داخل الدول الأوروبية. وهنا لا يجوز إغفال أن هذه الفكرة كانت تعمل لصالح الاقتصاديات السائدة في ذلك الوقت، واعتبار المستعمرات جزءًا من «الدولة الأوروبية الأم» إذ ما كان يُنظر إليها على اعتبارها كيانًا منفصلاً، فهذا أمر لم يحدث إلا بعد الحرب العالمية الثانية إثر ظهور حركات التحرر، ومن ثم ظهور موجة جديدة من النظريات المختلفة تعالج ظهور المستعمرات ككيانات سياسية منفصلة من خلال نظريات متعددة مثل «المدرسة الاعتمادية».
وعلى الرغم من أن النظرية الرأسمالية التي صاغها سميث ومفكّرون بعده، فإن مسيرة الاقتصاد المحلي والدولي لم تتبعها بالشكل المتوقع. إذ تباينت التطبيقات في أوروبا ومستعمراتها بتطبيق النظريات ما بين مؤيد لدور الدولة وبين مؤيد لسياسة Laissez Faire. وظلت الدولة، خاصة في فرنسا وغيرها، تطبق نظيرات حمائية كبيرة، لا سيما في مجال التجارة وحماية الصناعة المحلية من المنافسة الدولية. وحتى مع ضعف تطبيقات النظرية «الميركانتيلية» التي كانت سائدة في ذلك الوقت فإن النظام الاقتصادي الدولي ظل يعاني بشدة من مفهوم «القومية الاقتصادية» Economic Nationalism للحفاظ على ثروات الدول أمام المنافسة الدولية.
أيضًا، على الرغم من تطوّر فرضيات النظرية الرأسمالية الكلاسيكية، جاء رد الفعل الفكري والنظري في الأساس من خلال محورين رئيسيين: الأول مثّلته النظرية الماركسية الاشتراكية. والثاني كان المنظّرون الغربيون أنفسهم، الذين رأوا في التطبيقات الكاملة للنظرية الكلاسيكية قصورًا كبيرًا، خاصة ما يتعلق بدور الدولة والمسائل الاجتماعية على رأسها تنظيم العمالة والصحة والتدخل الحكومي لضبط الأسواق والعلاقة بين الرأسماليين والعمال. وكان على رأس هذا الفكر أمثال جون ستيوارت ميل الذي دعا إلى أول فكرة لإقامة التجمّعات الإنتاجية Syndicates، أو ما هو معروف بمشاركة العمال في رأس مال المصانع كوسيلة لتنظيم الأداء الاقتصادي دون الدعوى لفكرة الاشتراكية، فضلاً عن دور الدولة في تنظيم ساعات العمل لصالح العمال والتي اعتقد بعض المفكرين غيره أنها كفيلة بتدمير أسس هامة من أساسيات الفكر الرأسمالي، وهي الأساس لما تطوّر فيما بعد في فرضية «الدولة العاملة على رفاهية المواطن Welfare State، أي بتوسيع دور الدولة لحماية المواطن من بطش الرأسمالية وتبعاتها من خلال الضمان الاجتماعي والصحة والتعليم الخ....
أما المنافس الأساسي للنظرية الرأسمالية فكان فكر الفيلسوف الألماني كارل ماركس وصديقه ومواطنه فريديريش إنجلز من خلال طرح رؤيتهما لحركة التاريخ وسبل التغيير في المجتمعات الرأسمالية. ولقد تبنّت النظرية الماركسية مفهوم «الجدلية المادية» الذي طرحه الفيلسوف الألماني غيورغ فيلهلم هيغل، فرأت النظرية أن حركة التاريخ تسير من خلال حركة طبيعية للمجتمعات مبنية على إفراز كل متغير نقيضه فيقوم الصراع بينهما إلى أن يفرز شيئا جديدة وتتكرّر الحلقة المادية لتخلق التطور الطبيعي. وطبّق ماركس هذه الفلسفة على حركة التاريخ فقال بأن العالم بدأ بتطبيق ما سماه بـ«الرأسمالية البدائية» – أو المشاعية – منذ عرف الإنسان التوافق الاجتماعي ولقد تطورت بدورها في مراحل مختلفة إلى أن ولدت في مراحل تالية النظم الإقطاعية، ومن بعدها مرحلة ما قبل الرأسمالية، ثم الرأسمالية ذاتها. ولكنه استشف المستقبل على نفس نحو مسيرة الماضي فرأى أن هذا ليس نهاية المطاف لأن عوامل التغيير – وفق نظريته – تشمل أيضًا الدفع نحو النظم الاشتراكية ومن بعدها الشيوعية.
في الاشتراكية تكون طبقة العمال (أو الشغيلة) «البروليتاريا» هي التي تمتلك أدوات الإنتاج لتفرز ما سماه «بديكتاتورية البروليتاريا»، أي سيطرتها على أدوات الإنتاج من خلال الدولة ذاتها. أما مرحلة الشيوعية التالية التي تنبأ بها ماركس بأن العالم سيدخلها فمبنية على أساس مجتمع بلا طبقات يعيش فيها كل إنسان حسب احتياجاته، وهنا ستختفي فيها الحاجة إلى الدولة، وستنظم المجتمعات نفسها بنفسها.
واقع الأمر أن نظريات ماركس تبنّت الكثير من المبادئ الأساسية في إطار الجدلية المادية للحركة الإنسانية وعلى رأسها الصراع بين طبقة العمال والرأسماليين التي ستحسم لصالح الطبقة الأولى. وقامت هذه النظرية على أساس مهم للغاية، هو الأطروحة التي سماها ماركس «القيمة الفائضة» التي اعتقد فيها أن رأس المال يولد من دور العمال في الأساس، ذلك أن العامل يحصل على جزء بسيط من استحقاقه عن السلعة التي ينتجها بينما يبيعها صاحب رأس المال بأسعارها في الأسواق، وبالتالي، فإن الفارق الذي سماه «القيمة الفائضة» إنما هو قيمة عمل العامل المنهوبة.
وعلى الرغم من وضوح نظرية ماركس ورسمه الدقيق لاعتقاده بمسيرة البشرية، فإن التطبيقات النظرية التي جرّبها مؤيدو فكرته تضمّنت الكثير من الاختلافات الأساسية على رأسها من رأى ضرورة انتظار الانحلال الطبيعي للنظم الرأسمالية إيذانًا بتطبيق الاشتراكية. وثمة تيار آخر رأى ضرورة تحريك ثورة العمال للقضاء على طبقة الرأسمالية وفرض «ديكتاتورية البروليتاريا». ولعل أفضل مثال على هذا التوجه كان الفكر «البلشفي» الذي تزعّمه الزعيم الروسي فلاديمير أوليانوف «لينين» الذي رأى ضرورة التدخل الثوري المسلح لتغيير المسار لا انتظار حركة التاريخ لتأخذ مجراها وذلك على الرغم من أن روسيا آنذاك كانت دولة زراعية وليست صناعية، ومن ثم فلم يتولد لديها بعد عوامل التغيير الماركسي. وكان من أهم الأعمال الفكرية لهذا الزعيم كتيّبه الشهير «الإمبريالية... آخر مراحل الرأسمالية» الذي أكد من خلاله على أن العالم الرأسمالي قد بدأ يتراجع تدريجيًا لآخر مراحله من خلال الاستعمار الذي دفع هذه الدول للحروب فيما بينها كالخلايا السرطانية إيذانًا بنهاية قدرة الرأسمالية على الاستمرار بسبب تشبّع المستعمرات وعدم وجود مساحة جديدة لتطويرها. ومن هذه المنطلقات الفكرية نبتت الثورة البلشفية في الأساس.
وهكذا تأرجحت الأبعاد النظرية لكيفية مسيرة وإدارة الاقتصاد على المستوى الدولي والمحلي وسعت لمواكبتها، إما من خلال تأكيد استمرارية الرأسمالية أو اندثارها التدريجي أو المفتعل. ولقد شهدت الساحة أيضًا أطروحات ونظريات متعددة مثل الفكر الفوضوي Anarchism الذي كثيرًا ما يُعتقد أنه محاولة لتفكيك الدولة، لكنه توجه كان يؤمن بدور الدولة ولكن في أضيق الحدود لتكون مجرد مراقب وحكم بسلطات محدودة للغاية في خطوة هي أبعد بكثير عن المفهوم الليبرالي للعقد الاجتماعي. وكان المفكرون الروس على رأس قائمة الفوضويين – إن جاز لنا استخدام هذا التعبير لتعريف آرائهم – على رأسهم ليو تولستوي وبيتر كروبوتكين. كما ظهرت أيضًا تيارات أخرى في هذا التوجه، وهي جميعًا تعكس حقيقة أساسية أن تقدم البشرية إما تسبقه النظرية أو أنها تلحق به أو تتواكب معه في محاولة إنسانية طبيعية للتعرف على التغيير وأسبابه كما سنرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.