من التاريخ : الرأسمالية والصراع الفكري

كارل ماركس
كارل ماركس
TT

من التاريخ : الرأسمالية والصراع الفكري

كارل ماركس
كارل ماركس

إذا كانت الثورة الصناعية الأولى والثانية قد خلقت حالة اقتصادية جديدة على المستوى العالمي، كما تابعنا على مدار الأسبوعين الماضيين، من خلال تغيير أنماط الإنتاج والتجارة ومفهوم رأس المال ما أثر مباشرة على مسيرة النظام الاقتصادي الدولي، فإن هذه المتغيرات كانت حتمًا ستولد صراعًا فكريًا على مستوى القارة الأوروبية. هذا الصراع الفكري أسس للكثير من الأفكار والنظريات التي سيطرت على النظام الدولي اقتصاديا وسياسيا في مرحلة بدأت مع الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية. وهو الصراع الذي اعتقد بعض المنظرين أنه حُسم لصالح مفهوم الرأسمالية المطلقة في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي وتغير النظام العالمي سياسيا على النحو الذي تابعناه في الكثير من المقالات السابقة.
لقد دفع تغيير أنماط الإنتاج وطريقة الحياة في القارة الأوروبية المفكرين الاقتصاديين، مثلهم مثل السياسيين، للتنظير حول المستقبل الاقتصادي وأفضل وسائل الإدارة الاقتصادية سواء داخل الدولة أو بين الدول. وخرج من رحم هذه المتغيرات الفكر الرأسمالي بشكله الحالي الذي ينسب بشكل أساسي إلى المفكر آدم سميث وكتابه الشهير «ثروات الأمم» وبعض المفكرين الذين تلوه. وكانت الفكرة الأساسية التي يعتمد عليها أرباب النظرية الرأسمالية الكلاسيكية مرتبطة بشكل كبير بالنظرية السياسية التي سبقتها والتي صاغها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك من خلال نظرية «العقد الاجتماعي» الذي يتمحور حول الدور المنظم للدولة على المستوى السياسي وحماية الملكية الفردية. ومن هذا المنطلق، وعلى الوتيرة نفسها فإن النظرية الرأسمالية دفعت كأساس لها بمفهوم الفردية الاقتصادية، أي حق كل مواطن وفقًا لقدراته ومصالحه الشخصية في تطوير ثروته بالشكل الذي لا يخالف القانون. ويرتبط مع هذا المبدأ الشهير Laissez Faire الذي يمكن التعبير عنه بمقولتنا الشهيرة «دع الأمور تسير من تلقاء ذاتها» أي خفض تدخل الدولة في المسائل الاقتصادية لأدنى الحدود على أن يبقى دورها كحكم عادل ومحصّل للضرائب ومنظم للمنظومة الاقتصادية الداخلية. وكان أهم ركن من أركان هذه المعادلة الاقتصادية مبدأ «الطبيعة الاقتصادية الحرّة» المبنية على العرض والطلب، فهذان العنصران هما المحددان للمسيرة الاقتصادية ولا يجوز التأثير على هذه المعادلة الطبيعية سواء من الدولة أو الأفراد، ولكن مع أن يُترك للحكومة دورها المهم في ضمان حرية المنافسة والتجارة الدولية. وكانت القناعة الأساسية لهذه النظرية الرأسمالية وجود ما سماه آدم سميث «الأيدي الخفية» التي من شأنها أن تتدخل لتنظم الاقتصاد طبيعيًا بلا أي تدخلات حكومية.
هكذا تطورت هذه النظرية على أساس النظام الاقتصادي الجديد داخل الدول الأوروبية. وهنا لا يجوز إغفال أن هذه الفكرة كانت تعمل لصالح الاقتصاديات السائدة في ذلك الوقت، واعتبار المستعمرات جزءًا من «الدولة الأوروبية الأم» إذ ما كان يُنظر إليها على اعتبارها كيانًا منفصلاً، فهذا أمر لم يحدث إلا بعد الحرب العالمية الثانية إثر ظهور حركات التحرر، ومن ثم ظهور موجة جديدة من النظريات المختلفة تعالج ظهور المستعمرات ككيانات سياسية منفصلة من خلال نظريات متعددة مثل «المدرسة الاعتمادية».
وعلى الرغم من أن النظرية الرأسمالية التي صاغها سميث ومفكّرون بعده، فإن مسيرة الاقتصاد المحلي والدولي لم تتبعها بالشكل المتوقع. إذ تباينت التطبيقات في أوروبا ومستعمراتها بتطبيق النظريات ما بين مؤيد لدور الدولة وبين مؤيد لسياسة Laissez Faire. وظلت الدولة، خاصة في فرنسا وغيرها، تطبق نظيرات حمائية كبيرة، لا سيما في مجال التجارة وحماية الصناعة المحلية من المنافسة الدولية. وحتى مع ضعف تطبيقات النظرية «الميركانتيلية» التي كانت سائدة في ذلك الوقت فإن النظام الاقتصادي الدولي ظل يعاني بشدة من مفهوم «القومية الاقتصادية» Economic Nationalism للحفاظ على ثروات الدول أمام المنافسة الدولية.
أيضًا، على الرغم من تطوّر فرضيات النظرية الرأسمالية الكلاسيكية، جاء رد الفعل الفكري والنظري في الأساس من خلال محورين رئيسيين: الأول مثّلته النظرية الماركسية الاشتراكية. والثاني كان المنظّرون الغربيون أنفسهم، الذين رأوا في التطبيقات الكاملة للنظرية الكلاسيكية قصورًا كبيرًا، خاصة ما يتعلق بدور الدولة والمسائل الاجتماعية على رأسها تنظيم العمالة والصحة والتدخل الحكومي لضبط الأسواق والعلاقة بين الرأسماليين والعمال. وكان على رأس هذا الفكر أمثال جون ستيوارت ميل الذي دعا إلى أول فكرة لإقامة التجمّعات الإنتاجية Syndicates، أو ما هو معروف بمشاركة العمال في رأس مال المصانع كوسيلة لتنظيم الأداء الاقتصادي دون الدعوى لفكرة الاشتراكية، فضلاً عن دور الدولة في تنظيم ساعات العمل لصالح العمال والتي اعتقد بعض المفكرين غيره أنها كفيلة بتدمير أسس هامة من أساسيات الفكر الرأسمالي، وهي الأساس لما تطوّر فيما بعد في فرضية «الدولة العاملة على رفاهية المواطن Welfare State، أي بتوسيع دور الدولة لحماية المواطن من بطش الرأسمالية وتبعاتها من خلال الضمان الاجتماعي والصحة والتعليم الخ....
أما المنافس الأساسي للنظرية الرأسمالية فكان فكر الفيلسوف الألماني كارل ماركس وصديقه ومواطنه فريديريش إنجلز من خلال طرح رؤيتهما لحركة التاريخ وسبل التغيير في المجتمعات الرأسمالية. ولقد تبنّت النظرية الماركسية مفهوم «الجدلية المادية» الذي طرحه الفيلسوف الألماني غيورغ فيلهلم هيغل، فرأت النظرية أن حركة التاريخ تسير من خلال حركة طبيعية للمجتمعات مبنية على إفراز كل متغير نقيضه فيقوم الصراع بينهما إلى أن يفرز شيئا جديدة وتتكرّر الحلقة المادية لتخلق التطور الطبيعي. وطبّق ماركس هذه الفلسفة على حركة التاريخ فقال بأن العالم بدأ بتطبيق ما سماه بـ«الرأسمالية البدائية» – أو المشاعية – منذ عرف الإنسان التوافق الاجتماعي ولقد تطورت بدورها في مراحل مختلفة إلى أن ولدت في مراحل تالية النظم الإقطاعية، ومن بعدها مرحلة ما قبل الرأسمالية، ثم الرأسمالية ذاتها. ولكنه استشف المستقبل على نفس نحو مسيرة الماضي فرأى أن هذا ليس نهاية المطاف لأن عوامل التغيير – وفق نظريته – تشمل أيضًا الدفع نحو النظم الاشتراكية ومن بعدها الشيوعية.
في الاشتراكية تكون طبقة العمال (أو الشغيلة) «البروليتاريا» هي التي تمتلك أدوات الإنتاج لتفرز ما سماه «بديكتاتورية البروليتاريا»، أي سيطرتها على أدوات الإنتاج من خلال الدولة ذاتها. أما مرحلة الشيوعية التالية التي تنبأ بها ماركس بأن العالم سيدخلها فمبنية على أساس مجتمع بلا طبقات يعيش فيها كل إنسان حسب احتياجاته، وهنا ستختفي فيها الحاجة إلى الدولة، وستنظم المجتمعات نفسها بنفسها.
واقع الأمر أن نظريات ماركس تبنّت الكثير من المبادئ الأساسية في إطار الجدلية المادية للحركة الإنسانية وعلى رأسها الصراع بين طبقة العمال والرأسماليين التي ستحسم لصالح الطبقة الأولى. وقامت هذه النظرية على أساس مهم للغاية، هو الأطروحة التي سماها ماركس «القيمة الفائضة» التي اعتقد فيها أن رأس المال يولد من دور العمال في الأساس، ذلك أن العامل يحصل على جزء بسيط من استحقاقه عن السلعة التي ينتجها بينما يبيعها صاحب رأس المال بأسعارها في الأسواق، وبالتالي، فإن الفارق الذي سماه «القيمة الفائضة» إنما هو قيمة عمل العامل المنهوبة.
وعلى الرغم من وضوح نظرية ماركس ورسمه الدقيق لاعتقاده بمسيرة البشرية، فإن التطبيقات النظرية التي جرّبها مؤيدو فكرته تضمّنت الكثير من الاختلافات الأساسية على رأسها من رأى ضرورة انتظار الانحلال الطبيعي للنظم الرأسمالية إيذانًا بتطبيق الاشتراكية. وثمة تيار آخر رأى ضرورة تحريك ثورة العمال للقضاء على طبقة الرأسمالية وفرض «ديكتاتورية البروليتاريا». ولعل أفضل مثال على هذا التوجه كان الفكر «البلشفي» الذي تزعّمه الزعيم الروسي فلاديمير أوليانوف «لينين» الذي رأى ضرورة التدخل الثوري المسلح لتغيير المسار لا انتظار حركة التاريخ لتأخذ مجراها وذلك على الرغم من أن روسيا آنذاك كانت دولة زراعية وليست صناعية، ومن ثم فلم يتولد لديها بعد عوامل التغيير الماركسي. وكان من أهم الأعمال الفكرية لهذا الزعيم كتيّبه الشهير «الإمبريالية... آخر مراحل الرأسمالية» الذي أكد من خلاله على أن العالم الرأسمالي قد بدأ يتراجع تدريجيًا لآخر مراحله من خلال الاستعمار الذي دفع هذه الدول للحروب فيما بينها كالخلايا السرطانية إيذانًا بنهاية قدرة الرأسمالية على الاستمرار بسبب تشبّع المستعمرات وعدم وجود مساحة جديدة لتطويرها. ومن هذه المنطلقات الفكرية نبتت الثورة البلشفية في الأساس.
وهكذا تأرجحت الأبعاد النظرية لكيفية مسيرة وإدارة الاقتصاد على المستوى الدولي والمحلي وسعت لمواكبتها، إما من خلال تأكيد استمرارية الرأسمالية أو اندثارها التدريجي أو المفتعل. ولقد شهدت الساحة أيضًا أطروحات ونظريات متعددة مثل الفكر الفوضوي Anarchism الذي كثيرًا ما يُعتقد أنه محاولة لتفكيك الدولة، لكنه توجه كان يؤمن بدور الدولة ولكن في أضيق الحدود لتكون مجرد مراقب وحكم بسلطات محدودة للغاية في خطوة هي أبعد بكثير عن المفهوم الليبرالي للعقد الاجتماعي. وكان المفكرون الروس على رأس قائمة الفوضويين – إن جاز لنا استخدام هذا التعبير لتعريف آرائهم – على رأسهم ليو تولستوي وبيتر كروبوتكين. كما ظهرت أيضًا تيارات أخرى في هذا التوجه، وهي جميعًا تعكس حقيقة أساسية أن تقدم البشرية إما تسبقه النظرية أو أنها تلحق به أو تتواكب معه في محاولة إنسانية طبيعية للتعرف على التغيير وأسبابه كما سنرى.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.