بيرني ساندرز.. ظاهرة أميركية «أقلياتية» بامتياز

الاشتراكي اليهودي العجوز الطامع بمفاتيح البيت الأبيض

بيرني ساندرز.. ظاهرة أميركية «أقلياتية» بامتياز
TT

بيرني ساندرز.. ظاهرة أميركية «أقلياتية» بامتياز

بيرني ساندرز.. ظاهرة أميركية «أقلياتية» بامتياز

يوم الثلاثاء قبل الماضي، في الانتخابات التمهيدية بولاية نيوهامبشير الأميركية، حقّق السناتور بيرني ساندرز فوزًا ساحقًا على وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون. وبدا أنه يهدد فرصتها للترشح باسم الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ومن ثم أن تكون، إذا فازت، أول امرأة ترأس الولايات المتحدة. غير أن الوقت ما زال مبكرًا للحسم، فحتى الآن، شهدت ولايتان فقط هما آيوا ونيوهامبشير اختبارات تمهيدية. وتبقى ولايات كثيرة. ثم أنه ما زالت هناك فترة تقارب العشرة أشهر تفصلنا عن يوم الاقتراع الموعود. وحتمًا من الآن، وحتى ذلك الوقت، يمكن أن يحدث أي شيء بالنسبة لأي من المرشحين.
مع هذا، يمثل السناتور ساندرز ظاهرة جديدة في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لجملة من الأسباب، أبرزها:
أولاً: أنه أكبر المرشحين - الديمقراطيين والجمهوريين - سنًا (75 سنة).
ثانيا: أنه وإن لم يكن أول سيناتور مستقل، لكنه أطولهم مدة في شغل المنصب (10 سنوات تقريبًا).
ثالثًا: أنه ليس شخصية وسيمة وأنيقة وذات جاذب تلفزيوني، والشيء نفسه ينطبق على زوجته.
رابعًا: أنه اشتراكي (العضو الوحيد في مجلسي الكونغرس الذي يعلن اشتراكيته صراحة).
خامسًا: أنه يهودي (المرشح الوحيد غير المسيحي بين جميع مرشحي الحزبين).
سادسًا: أنه من ولاية فيرمونت، ثاني أصغر الولايات الأميركية من حيث عدد السكان (بعد ولاية وايومينغ)، وبالتالي ثاني أقلها وزنًا في الانتخابات.
طبعًا، لا يثار كثيرًا في الحملة الانتخابية موضوع يهوديته. وحتمًا ما كان سيترشح للرئاسة كاشتراكي حتى في ولايته الليبرالية التقدمية. وللعلم، لا يوجد في الولايات المتحدة راهنًا حزب اشتراكي (بعدما حل الحزب نفسه عام 1972). ومع أنه يوجد حزب شيوعي صغير، يُقال إن نصف أعضائه عملاء سرّيون في مكتب التحقيقات الفيدرالية (إف بي آي)، أو جواسيس من اليمين المتطرف.

ولد برنارد «بيرني» ساندرز في عائلة يهودية في مدينة نيويورك عام 1941. كان والداه يهوديين متدينين بولنديين، هاجرا من بولندا إلى أميركا مع بداية الحرب العالمية الثانية، قبل أن يحتل الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر بولندا، ويرسل يهودها إلى أفران الغاز. ووفق التقارير أرسل النازيون إلى أفران الغاز بعض أعمام ساندرز وعماته الذين رفضوا نصائح أخيهم بالهجرة مثله إلى أميركا.
عندما كان ساندرز صغيرًا أرسله والداه إلى مدرسة يهودية مسائية في نيويورك (بالإضافة إلى المدرسة الابتدائية الحكومية). وبعدما أكمل دراسته الثانوية في نيويورك، التحق بكلية بروكلن التابعة لجامعة مدينة نيويورك، ولكنه انتقل منها بعد سنة واحدة إلى جامعة شيكاغو المرموقة، حيث تخرج حاملاً درجة بكالوريوس في العلوم السياسية. وفيها التقى بزوجته الأولى ديبورا شيلينغ التي تزوجها عام 1964 وتطلقا عام 1966 ولم ينجب منها. لكنه أنجب ابنه الوحيد ليفي عام 1969 من صديقته سوزان كامبل موت. وفي عام 1988 تزوّج ثانية، من جين أومارا دريسكول، التي غدت لاحقًا رئيسة كلية بيرلينغتون.
جامعة شيكاغو، لم تعرّف ساندرز على زوجته الأولى فحسب، بل حدثت له هناك ثلاثة أشياء مهمة حددت مسار حياته: أولها، أنه صار زعيمًا طلابيًا إذ فاز برئاسة اتحاد الطلبة. وثانيها، أنه صار صهيونيًا، ومن ثم انتخب رئيسًا لاتحاد الطلبة الصهاينة في الجامعة، وأمضى سنة واحدة متطوعًا في مزرعة جماعية (كيبوتز) في إسرائيل. وثالثها، أنه اعتنق الفكر الاشتراكي. ثم اختير رئيسًا لاتحاد الطلبة الاشتراكيين في الجامعة. ولاحقًا، انضم إلى الحزب الاشتراكي الأميركي (قبل أن يحل نفسه عام 1972). وأيضًا، إبان فترة الجامعة، نشط في صفوف حركة الحقوق المدنية، وسافر إلى ولايات الجنوب للدفاع عن حقوق الزنوج، مع وفود طلابية (كانت غالبيتهم من اليهود).
وعام 1962، قاد ساندرز مظاهرة طالبت باستقالة جورج بيدل، رئيس جامعة شيكاغو، وذلك بسبب سياسة الجامعة العنصرية التي كانت تفصل داخلية الطلاب السود عن داخليات الطلاب البيض. ثم قاد ثلاثين طالبًا احتلوا مكتب مدير الجامعة.
وفي عام 1963، اعتقلته شرطة شيكاغو لقيادته مظاهرة ضد التفرقة العنصرية في مدارس المدينة. وأمضى في السجن يومًا واحدًا، لكن، بعد ذلك، صارت الشرطة تتجسس عليه، وتتابع نشاطاته.
واستمر ساندرز بنشاطاته في هذا الاتجاه، ففي عام 1964، قاد وفدًا طلابيًا من الجامعة توجه إلى العاصمة واشنطن، حيث شاركوا في مظاهرة الحقوق المدنية الشهيرة في واشنطن. وهي التظاهرة التي ألقى فيها مارتن لوثر كينغ، زعيم حركة الزنوج، خطبته المشهورة «لدي حلم».
بعد ذلك، عام 1968، قاد مظاهرة طلابية ضد التدخل العسكري الأميركي في فيتنام، وذلك أمام قاعة المؤتمر العام للحزب الديمقراطي (الذي رشّح السناتور جورج ماكغفرن لرئاسة الجمهورية ضد ريتشارد نيكسون) في شيكاغو.
* الناشط المزمن
بعد التخرّج في جامعة شيكاغو، عمل «بيرني» ساندرز في مهن كثيرة، بينها التعليم والنجارة. لكنه قرر عام 1968 مغادرة نيويورك والانتقال للعيش في ولاية فيرمونت الريفية الصغيرة لانجذابه (كما قال ذات يوم) لجمال الريف وسكينته. وبالفعل انتقل إلى مدينة بيرلينغتون الصغيرة التي تعد المدينة الوحيدة من حيث الحجم السكاني في ولاية فيرمونت. وهناك في فيرمونت، امتهن النجارة والكتابة وإنتاج الأفلام والمواد التعليمية وبيعها للمدارس. وواصل كذلك العمل السياسي، ولا سيما قيادة المظاهرات ضد التدخل العسكري الأميركي في فيتنام. وبعد حل الحزب الاشتراكي الأميركي نفسه (عام 1972)، أسّس ساندرز مع آخرين حزب «ليبرتي يونيون» (اتحاد الحرية). وتعاون مع حزب اشتراكي صغير آخر هو «بيبولز بارتي» (حزب الشعب).
وفي عام 1972، عندما كان عمره 31 سنة، ترشح ساندرز لمنصب حاكم فيرمونت، وكان أول مرشح اشتراكي لحكم ولاية في تاريخ الولايات المتحدة، لكنه خسر. ثم ترشح لشغل معقد فيرمونت الوحيد في مجلس النواب الأميركي، ومجددًا خسر. ثم ترشح لعضوية مجلس الشيوخ الأميركي، وخسر للمرة الثالثة.
وفي عام 1980، وبسبب هزائمه المتواصلة، ترك حزب «اتحاد الحرية»، وتخلّى عن الحديث الكثير عن «الاشتراكية الأميركية». ومن ثم، ترشح لمنصب عمدة مدينة بيرلينغتون، وهذه المرة فاز بالمنصب، ثم فاز بثلاث دورات متتالية.
طوال هذه الفترة لم يتخلّ ساندرز عن قناعاته الاشتراكية. ومع أنه كان يترشح ويفوز كمستقل كان يكرر أنه اشتراكي. بل إنه خلال تلك السنوات، أسهم في تأسيس تنظيمات اشتراكية صغيرة ظلت هامشية، منها «سيتيزن بارتي» (حزب المواطنين)، و«بروغريسيف كوأوليشن» (التحالف التقدمي).
كذلك، فإنه تحالف مع يساري يهودي آخر يعد من ألمع المثقفين الأميركيين التقدميين، وربما أهمهم في نقد السياسة الخارجية الأميركية هو ناعوم تشومسكي بروفسور الألسنية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) وحتى اليوم. ومثلما انتقد الرجلان معًا بشدة التدخل العسكري الأميركي في فيتنام، يقودان حاليًا ما يعتبرانه التدخل العسكري الأميركي في الدول العربية والإسلامية.
بعد دخول ساندرز الكونغرس، نائبًا في مجلس النواب عام 1991، فإنه لم يتحدث داخل الكونغرس عن نفسه كاشتراكي، بل كمستقل. غير أنه مع ذلك أسس تحالف «النواب التقدميين» (حسب القاموس السياسي الأميركي، «التقدمي» يميل إلى اليسار أكثر من «الليبرالي»). وخلال ذلك العام عارض ساندرز مشروع قانون الكونغرس الذي منح الرئيس السابق جورج بوش الأب حق إعلان الحرب على العراق (حرب تحرير الكويت). وعام 2003، عارض مشروع قانون الكونغرس الذي منح ابنه الرئيس جورج بوش الابن حق غزو العراق، مع أنه كان قبل ذلك بسنتين، قد أيد بوش الابن في مسألة غزو أفغانستان، وبرّر موقفه بأنه يفعل ذلك للرد على هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية.
وبالإضافة إلى ما سبق، صوّت ساندرز في الكونغرس ضد قوانين أخرى، من بينها: قانون «باتريوت» الذي منح الرئيس الأميركي حق الحرب العالمية ضد الإرهاب، وقانون «حماية الولايات المتحدة من الإرهاب» الذي عرقل محاولات الرئيس باراك أوباما لإغلاق سجن غوانتانامو العسكري الأميركي في كوبا، وقانون «حماية النظام الاقتصادي الأميركي» الذي وضعه الكونغرس بعد الكارثة الاقتصادية عام 2008، واعتبر ساندرز أنه يحمي الشركات الرأسمالية.
* محاكمة بوش
في عام 2006، مع تورّط القوات الأميركية في العراق، بدأت حملة أميركية لمحاكمة الرئيس بوش الابن. وانطلقت الحملة من فيرمونت، ولاية ساندرز. ولقد تحالف عُمد ومشرّعون في مدن صغيرة وريفية هناك، ووقّعوا على عريضة تطلب من الكونغرس محاكمة بوش، وخططوا لـ«حملات ريفية» مماثلة في ولايات أخرى. وأيّد ساندرز محاكمة بوش، لكنه قال إنها «مستحيلة» بسبب سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس. ولم تقتصر معارضات ساندرز على المسائل السياسية، بل ركز أكثر على مواضيع اقتصادية. فحتى قبل الكارثة الاقتصادية عام 2008، قاد من داخل الكونغرس حملات متواصلة ضد سيطرة الشركات العملاقة على الاقتصاد الأميركي. ووقف ضد تبرّعات الشركات للمرشحين السياسيين. وضد نقل الشركات مصانعها ومقراتها الرئيسة إلى خارج الولايات المتحدة. وضد ما اعتبره «حرب» الغرفة التجارية الأميركية (من رئاستها في واشنطن) على نقابات العمال.
وعام 2007، قبل الكارثة الاقتصادية بسنة واحدة، تنبأ بأن «الرأسمالية القبيحة» ستقود الولايات المتحدة والعالم إلى «الخراب»، حسب كلامه. ثم عارض منح قروض حكومية (بلغ إجماليها قرابة مليار دولار) للبنوك الأميركية التي أفلست أو كادت تفلس. وتساءل: «لماذا ينقذ دافع الضرائب الأميركي المسكين هذه البنوك العملاقة التي لا تخاف الله؟». كذلك صوّت ساندرز ضد تجديد فترة الآن غرينسبان، رئيس البنك المركزي الأميركي (الاحتياطي الفيدرالي)، كما صوّت ضد تعيين تيموثي غايتنر وزيرًا للخزانة، بحجة أنهما على حد قوله يمثلان «الرأسمالية القبيحة». وهنا نشير إلى أنه خطب ذات مرة لثماني ساعات متواصلة في مجلس الشيوخ ضد «الرأسمالية القبيحة»، وظل يفرق بين «الرأسمالية الإنسانية» و«الرأسمالية القبيحة».
* ساندرز الاشتراكي
وفي العام الماضي، في خطاب أمام طلاب جامعة جورجتاون، في العاصمة واشنطن، وصف ساندرز نفسه بأنه «اشتراكي ديمقراطي»، وأشاد بالأنظمة الاشتراكية الديمقراطية في الدول الإسكندنافية كالسويد والنرويج والدنمارك. وعندما سأله طالب: «عرّف لنا اشتراكيتك»، أجاب: «لا أريد أن تسيطر الحكومة على كل متجر وشركة، بل أريد أن أنصف الطبقة الوسطى التي تخوض، كل يوم، العمل الجاد والشاق، الذي هو سبب تطورنا وتقدمنا. أنا لا أريد إعلان حرب على الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات. لكنني أريد منها أن تنصف الأميركيين. إنها تواصل تصدير المصانع إلى خارج أميركا، وتواصل التهرب من دفع الضرائب المستحقة إلى الخزانة الأميركية». ومن هذه المنطلقات صوّت ضد اتفاقيات «نافتا» (التجارة الحرة مع دول أميركا اللاتينية) و«كافتا» (مع الصين)، و«بانتا» (مع دول حوض المحيط الهادي). وقال إن الكونغرس فعل ذلك بسبب «ضغوط ورشى» قدمتها هذه الشركات. وتابع أن هذه الشركات تريد «استغلال شعوب العالم الثالث» و«تحويل المواطن الأميركي إلى مستهلك، بدلاً من أن يكون منتجًا».
وخلال سنواته في مجلس الشيوخ، قاد سن قوانين ليبرالية، منها «أوباما كير» (التأمين الصحي الشامل) و«ستيودنتز كير» (تخفيض عبء المصاريف الجامعية) و«ماريدج ديفنس» (الدفاع عن الزواج)، وفي المقابل، دافع عن حقوق المثليين والمثليات. وفي العام الماضي، عندما أعلنت المحكمة العليا دستورية زواج المثليين والمثليات، أيدها.
* ... واليهودي
على صعيد آخر، كما يسعى ساندرز لإقناع أميركا بفضائل الاشتراكية من دون أن يقول إنه اشتراكي، فإنه يؤيد إسرائيل تأييدًا قويًا من دون أن يقول إنه صهيوني، أو يركز على يهوديته.
وخلال الشهر الماضي، كتبت صحيفة «واشنطن بوست» تقريرًا قالت فيه إن ساندرز «لا يؤمن بالمؤسسات الدينية»، ويقول إنه «يهودي علماني»، وإنه «يؤمن بالله، لكن من دون واجبات دينية». ولاحقًا، قال في مقابلة على تلفزيون «إن بي سي»، ردًا على سؤال طرح عليه بهذا الشأن: «أنا هو ما أنا. لست متدينًا لكنني روحاني. روحانيتي هي أننا كلنا روحانيون. لكن، لا يكفي هذا، يجب أن نكون، أيضًا، روحانيين إنسانيين». وفي العام الماضي، عندما زار البابا فرانسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، الولايات المتحدة رحّب به ساندرز، وقابله واشترك في مناقشات دينية. ومما قاله: «مشكلة الأديان المؤسسة هي أنها تدعو من دون أن تفعل، ولهذا تحولت إلى الروحانية الإنسانية التي لا تدعو لكنها تفعل».
وهكذا، يظل الموضوع الديني يواجه ساندرز في هذه الحملة الانتخابية. ويتوقع أن يقلل التأييد له في ولايات الجنوب (الأكثر تدينًا من ولايته التي اكتسحها في الأسبوع الماضي).
حتى الآن، لم يُثر موضوع يهوديته، وأنه، إذا فاز، سيكون أول رئيس أميركي يهودي. لكن، لا بد أن يثار الموضوع.



«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
TT

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)

منذ اندلاع «حرب مساندة» غزة التي أطلقها «حزب الله» قبل نحو سنة، كانت المؤشرات كلها توحي بأن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل رداً على «هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)»، ستنتقل عاجلاً أو آجلاً إلى لبنان، في ظل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه يخوض «حرباً ستكون طويلة لتغيير خريطة الشرق الأوسط». ومع ذلك، كانت معظم التحليلات تتكلّم عن «مأزق» إسرائيل «المأزومة»، وعن خلافاتها في الداخل ومع الخارج، ولا سيما الولايات المتحدة، ما سمح للبعض بالترويج أن أهداف هذه الحرب لم تتحقق، وقد لا تتحقق، سواء في غزة والأراضي الفلسطينية، أو في لبنان. لكن على أرض الواقع، كان من الواضح أن ما حقّقته إسرائيل حتى الآن من حربها على غزة يتجاوز كثيراً الردّ على «هجوم أكتوبر».

بعدما نجحت إسرائيل في تعزيز «صورة» ربط حربها التهجيرية في غزة بأنها «صراع وجود» مع إيران وأذرعها الساعين إلى تدميرها، وفّرت تلك الحرب للإسرائيليين أيضاً غطاءً دولياً واسعاً، ليس لإطالة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين فقط، بل الانتقال أيضاً إلى حرب إبادة أخرى ضد لبنان.

هذا الأمر طرح تساؤلات عن حقيقة الموقف الأميركي تجاه أهداف إسرائيل، وعمّا إذا كانت حربها لتغيير «المشهد الإقليمي» ممكنة من دون موافقة أميركية. بيد أن الوقوف على المتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على سياسة واشنطن يظهر تغييراً كبيراً في مقاربتها ونظرتها تجاه إيران، مع التغييرات التي طرأت على المشهد الدولي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.

«فرصة استراتيجية» لأميركا

قبل الدخول في ما عدّه البعض «تجاهلاً» من تل أبيب للمساعي الأميركية لفرض وقف لإطلاق النار في حربها المتصاعدة ضد «حزب الله»، روّجت تحليلات العديد من الصحف الأميركية ولا تزال لـ«خلافات» بين واشنطن وتل أبيب. إلا أن دينيس روس، المبعوث الرئاسي السابق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، رأى أن ما جرى حتى الآن «يُعد فرصة استراتيجية لأميركا، ليس لتغيير المنطقة فقط، بل تغيير الوضع في لبنان أيضاً بعد اغتيال حسن نصر الله وإضعاف (حزب الله)». وخلال ندوة في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، حضرتها «الشرق الأوسط»، يوم الأربعاء، وشاركت فيها دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع السابقة لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، وديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترمب، أضاف روس: «بات بمقدور أميركا اتخاذ إجراءات رادعة مباشرة، ليس ضد إيران فقط، بل المشاركة قبل ذلك في ضرب أذرعها مباشرة وملاحقتهم».

وبحسب روس، فإنه بعدما تمكّنت إسرائيل من ضرب و«تحييد» الخطر الذي يمثله «حزب الله» و«حماس»، يمكن لواشنطن الآن «ضرب وملاحقة الحوثيين، كإشارة إلى أننا قادرون على تعريض ما نعتقده نحن مصالح مهمة لها، وخصوصاً برنامجها النووي، وليس المصالح التي تعتقد إيران أنها مهمة بالنسبة لها فقط».

تغيير مسار المنطقة

من جهتها، قالت سترول، إن إرسال الأصول العسكرية الأميركية، منذ اندلاع الحرب قبل نحو سنة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة «لا يُعبّر عن تصميم إدارة بايدن على مواجهة التهديدات الإقليمية، والدفاع عن إسرائيل، ومنع توسّع الحرب فقط، بل تغيير المسار في المنطقة أيضاً». وأضافت: «كل الأحداث التي وقعت منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) حتى الآن، بما فيها تصفية قوة (حماس) وضرب (حزب الله) وتوجيه ضربات لإيران، لم يكن بالضرورة مخطط لها. لكن اليوم، بعد كل الذي جرى، ينبغي أن نستغل ما حصل لنمضي في مسار مختلف، بما يعيد الاستقرار والسلام إلى المنطقة، وإعادة مسار العلاقات الإسرائيلية العربية إلى مسارها الذي انقطع بعد 7 أكتوبر».

من ناحيته، قال شينكر: «ثمة فهم خاطئ لتفسير ما تعنيه المطالبة بوقف إطلاق النار، سواء في غزة أو لبنان، وذلك لأن الأهداف التي وضعت لا يمكن تحقيقها من دون تغيير الديناميات السابقة». وأردف أنه بمعزل عن الإدارة الجديدة التي ستأتي بعد الانتخابات الأميركية، وسواء أكان الفائز فيها كامالا هاريس أم دونالد ترمب، لا شك أنه «سيكون من الصعب العودة إلى السياسات الأميركية السابقة تجاه إيران وأذرعها وبرنامجها النووي». وأكد أن أميركا «ستلعب دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل وترتيب الأوضاع بعد حرب غزة، التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وكذلك في لبنان».

وهكذا، أمام هذه «الرؤية» التي تعكس حقيقة الموقف الأميركي للصراع الجاري، إن إصرار البعض على اعتباره إذعاناً وارتباكاً أميركياً أمام رغبات إسرائيل، قد يكون من الضروري قراءة «التحولات» التي طرأت على موقف إدارة الرئيس جو بايدن، منذ اندلاع الحرب.

تقديرات مختلفة للحرب في لبنان

كانت هناك تقديرات مختلفة داخل إدارة بايدن عن طبيعة الأخطار التي يمكن أن تواجهها «العملية» العسكرية التي أطلقتها إسرائيل ضد «حزب الله»، وعن قدراته العسكرية الحقيقية التي جرى تضخيمها. ولكن، بدلاً من تبيّن صحة تلك التقديرات، انتهى الأمر بتبنّي العديد من المسؤولين الأميركيين النجاح الذي حقّقته إسرائيل في سعيها - بزخم مذهل - إلى إضعاف «حزب الله». وهو ما بدا أنه يتناسب مع نمط إدارة بايدن، التي لطالما تدرّجت في التعبير عن مواقفها من الأحداث السياسية الخارجية.

إذ بعدما تحثّ إسرائيل على لجم اندفاعاتها، كانت لا تلبث أن تتراجع لاحقاً. وبعدما أوضح بايدن رغبته في «الوقف الفوري» للقتال في لبنان، وتحفّظه عن التوغّل البرّي، ظهر انقسام بين المسؤولين الأميركيين حول «الحكمة» من الحملة الإسرائيلية ضد «حزب الله»، خاصة منذ مقتل زعيمه حسن نصر الله، في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي. ففي حين ركّز البعض كثيراً على المخاطر، قال آخرون إنه إذا أمكن توجيه ضربة قوية للحزب من دون إثارة صراع إقليمي أوسع يجذب إيران فإن ذلك قد يُعدّ نجاحاً.

واليوم، يذهب كثيرون إلى القول إن وجهة النظر الأخيرة هي التي تغلبت في النهاية، وعبّرت عنها تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، «غير المعهودة» من كبير الدبلوماسيين، حين تكلّم عن «العدالة» التي نفّذت بحق نصر الله.

الضغط العسكري يدعم الدبلوماسية

يوم الاثنين الماضي، قال ماثيو ميللر، الناطق باسم الخارجية للصحافيين: «نحن بالطبع نواصل دعم وقف إطلاق النار، ولكن في الوقت نفسه، هناك أمران آخران صحيحان أيضاً: الضغط العسكري يمكن في بعض الأحيان أن يمكّن الدبلوماسية. وطبعاً، قد يؤدي أيضاً إلى سوء التقدير... يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير مقصودة، ونحن نتحادث مع إسرائيل حول كل هذه العوامل الآن».

وحقاً، حتى الاتفاق الذي قيل إنه حصل بين أميركا وفرنسا وإسرائيل ودول عدة توصُّلاً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، لمدة 3 أسابيع، بدا أن واشنطن قد تخلت عنه.

هذا ما بدا بعدما رأى مسؤولون في إدارة بايدن أن إسرائيل تحاول توجيه ضربة حاسمة لـ«حزب الله» عبر اغتيال زعيمه، بعد الضربات الساحقة التي نفّذتها على امتداد الأشهر الماضية، وتوجّت بما سُمي بهجوم «البيجر»، وبتصفية العديد من قياداته العليا والوسطى.

ورغم اتهام بنيامين نتنياهو بأنه هو الذي عاد عن الاتفاق الذي وافق عليه، فإن «الصمت» الأميركي الذي تلا اغتيال نصر الله، كاد يؤدي إلى تأجيل حتى إلغاء زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان، التي أصرّ قصر الإليزيه عليها في نهاية المطاف، تعبيراً عن «غضب» فرنسا، الذي قابلته إسرائيل بقصف هدف في العاصمة بيروت، للمرة الأولى يوم الأحد الماضي.

الحسم في تفكيك بنية «حزب الله»

بعدها، يوم الاثنين، في إشارة واضحة لحسم التردد ودعم العملية الإسرائيلية، قال «البنتاغون» إن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اتفق مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت «على ضرورة تفكيك البنية التحتية الهجومية على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، لضمان عجز (حزب الله) عن شنّ هجمات على غرار هجمات 7 أكتوبر على المجتمعات الإسرائيلية في تلك المنطقة». وأردف «البنتاغون» أن أوستن «راجع التطورات الأمنية والعمليات الإسرائيلية» مع غالانت، وأكد مجدداً «دعم الولايات المتحدة لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد إيران و(حزب الله) و(حماس) والحوثيين وغيرها من المنظمات الإرهابية المدعومة من إيران».

ورغم تأكيد أوستن على أهمية «التحول في نهاية المطاف من العمليات العسكرية إلى المسار الدبلوماسي لتوفير الأمن والاستقرار في أقرب وقت ممكن»، فإنه أوضح أن واشنطن في وضع جيد للدفاع عن أفرادها وشركائها وحلفائها في مواجهة تهديدات إيران والمنظمات الإرهابية المدعومة منها، وأنها عازمة على منع أي جهة فاعلة من استغلال التوترات أو توسيع الصراع. كذلك ناقش أوستن مع غالانت ما سمّاه «العواقب الوخيمة» التي ستتحمّلها إيران في حال اختارت شنّ هجوم عسكري مباشر ضد إسرائيل.

ومقابل تركيز إدارة بايدن كثيراً من مساعيها منذ ما يقرب من سنة على منع التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»، أعجب بعض المسؤولين بالإنجازات الإسرائيلية. ومع شلل الحزب وتراجع قدراته «الإقليمية»، بات هؤلاء يعتقدون أن الوضع بات الآن مختلفاً تماماً، مشيرين إلى أن إسرائيل في أقوى موقف لها منذ بدأ الجانبان تبادل إطلاق النار منذ 8 أكتوبر بعد فتح «جبهة الإسناد» لغزة.

ولكن، مع ذلك، قال مسؤولون كبار إنهم كانوا ينصحون إسرائيل بألّا تشنّ غزواً برّياً للبنان، ويحذرون من أن خطوة كهذه يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، تتمثّل ببناء الدعم السياسي لـ«حزب الله» داخل لبنان وإطلاق العنان لعواقب غير متوقعة على المدنيين والتدخل الإيراني.

لا كلام عن وقف التصعيد

من جهة ثانية، مع الهجمات الصاروخية الإيرانية «المحسوبة» ضد إسرائيل، رداً على قتل إسماعيل هنية وحسن نصر الله، بدا لافتاً أن الرئيس بايدن لم يتكلّم - للمرة الأولى - عن ضرورة «وقف التصعيد» و«ضبط النفس». بل العكس، أكّد أن واشنطن «تدعم بالكامل» إسرائيل بعد الهجوم الذي جرى صدّه بدعم أميركي و«أثبت انعدام فاعليته»، وأن المناقشات مستمرة مع إسرائيل بشأن الردّ، مضيفاً أن «العواقب على إيران لم تُحدد بعد».

موقف بايدن لم يكن وحيداً، إذ اندفع المشرّعون الأميركيون من الحزبين مؤيدين مواقف أكثر حزماً من إيران، وداعين إلى تبني سلسلة من التدابير المحددة والمصمّمة لشلّ القوى العسكرية لطهران ووكلائها، وإلى تمرير تمويل إضافي لإسرائيل في أعقاب هجوم إيران.

وبالفعل، يرى كثرة من المسؤولين الأميركيين اليوم، أن إدارة بايدن تحوّلت من محاولة منع اتساع حرب غزة إلى إدارة «الحرب الشاملة»، في ظل رؤية غدت موحّدة مع إسرائيل تجاه الأهداف المأمول تنفيذها. وتساءلت صحيفة «النيويورك تايمز» عن المدى الذي يمكن أن تبلغه الحرب، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستنخرط فيها بشكل مباشر، في ظل مخاوف من احتمال أن ترد إسرائيل على صواريخ إيران باستهداف منشآتها النووية، ما قد يؤدي إلى خروج الحرب عن السيطرة.

لكن بايدن عاد وأوضح، يوم الأربعاء، أنه لا يدعم أي استهداف إسرائيلي للبرنامج النووي الإيراني، فاتحاً المجال أمام تكهنات عن بدء مفاوضات للتوصل إلى تسوية بين الطرفين. وهذا، بالتوازي مع تقديم مزيد من المساعدات لإسرائيل لإنهاء الحرب ضد «حماس» في غزة، والتصدّي للهجمات التي تنفذها جماعة الحوثي في اليمن ضد إسرائيل والملاحة في البحر الأحمر والمضائق الدولية القريبة، ودعم غزوها البرّي للبنان «لتفكيك البنية التحتية» لـ«حزب الله».

تساؤلات مع تغيير أميركا نبرتها واستراتيجيتها

> وسط تحذيرات من أن يكون لبنان هو ساحة «الحرب الشاملة» بين إسرائيل وإيران، أشار مسؤول أميركي كبير إلى المشاورات الواسعة النطاق مع إسرائيل، بما في ذلك مع مكتب بنيامين نتنياهو لصوغ الاستجابة المناسبة، من دون أن يشير إلى «الخلافات» القديمة بين الرئيس جو بايدن ونتنياهو على طريقة تعامل إسرائيل مع حرب غزة، وانتقال المعركة إلى لبنان. وأضاف المسؤول: «لكن بعد دخول إيران المعركة بشكل مباشر، التي تشكل (تهديداً مدمراً) لإسرائيل، تغيّرت نبرة أميركا واستراتيجيتها». أما «النيويورك تايمز» فنقلت عن جوناثان بانيكوف، مدير «مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي»، قوله إن «الحرب الشاملة حتى الحرب الأكثر محدودية، يمكن أن تكون مدمّرة للبنان وإسرائيل والمنطقة. ولكن من خلالها ستأتي فرص غير متوقعة أيضاً لتقويض النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة، من خلال عرقلة جهودها لإعادة تشكيل (حزب الله)، مثلاً. وبالتالي، ينبغي للإدارة الجديدة أن تكون جاهزة للاستفادة من هذه الفرص». لكن مع المفاجأة التي تعرّضت لها إسرائيل أخيراً خلال «توغّلاتها» البرّية، وسقوط العديد من جنودها بين قتيل وجريح من قبل مقاتلي (حزب الله)، طرح العديد من التساؤلات... منها عمّا إذا كانت ستعيد النظر بخططها العسكرية وبحساباتها فيما يتعلق بكيفية إقامتها «المنطقة العازلة» في جنوب لبنان، تطبيقاً للقرار 1701؟ وأيضاً، هل ستكثّف قصفها الوحشي والتدميري، بما يؤدي بتلك التوغّلات إلى احتلال جديد، أو تحويل المنطقة إلى «أرض محروقة»؟ وهل سيكون متاحاً مرة أخرى أمام الحزب واللبنانيين عموماً، إعادة تنظيم «مقاومة» ما، على قاعدة توافق سياسي ينهي سلطة «حزب الله» لمصلحة الدولة... أم أن المقوّمات مستعصية في ظل الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان؟