هابرماس ودور الفلسفة في عالمنا المعاصر

راهن على إمكانات العقل الأنواري لإصلاح أعطاب النظام الليبرالي

هابرماس ودور الفلسفة في عالمنا المعاصر
TT

هابرماس ودور الفلسفة في عالمنا المعاصر

هابرماس ودور الفلسفة في عالمنا المعاصر

تتأتى الحاجة إلى الحديث عن دور للفلسفة في الفضاء العمومي المعاصر، من الأزمة التي تعرفها المجتمعات المعاصرة. وهي أزمة مرتبطة، على المستوى الاجتماعي، بإشكاليات العنف والشرعية السياسية. وعلى المستوى الكوسموبولتيكي (أي الدولي)، بإشكالية العدالة وسوء التوزيع. ففي المستوى الأول، المرتبط بقضايا الشرعية السياسية، وتزامنا مع التفكك الذي تعرفه الدولة - الأمة، التي حددتها معاهدة وستفاليا، سيساهم ذلك بشكل مباشر وغير مباشر، في العودة إلى الخطاب الهوياتي. هذا الخطاب الذي يجد أسسه الصلبة في فلسفات التنوير. في هذا السياق، سينخرط الجيل الثالث والثاني من مدرسة فرانكفورت، في البحث عن بديل لهذا الانحراف أو المنعطف الكارثي، الذي تعرفه المجتمعات المعاصرة، وذلك بتفكيك الأنساق الفلسفية التي تحوي هذا النزوع الكارثي، وخصوصا في تركيزهما على العقل الأنواري وتفكيك الارتكاس الذي سقط فيه، وذلك بطرحهما لسؤال عميق نجده حاضرا في مقدمة تيدور أدورنو وماكس هوركهايمر، لكتابهما «جدلية العقل»: كيف سقطت الإنسانية في بربرية جديدة عوض أن ترتقي لوضع إنساني أصيل؟
في هذا السياق، ستعبر فلسفات ما بعد الحداثة، عن نوع من النزوع اليوتوبي، بعد أن وصلوا إلى أن الأفق - وظيفة الفلسفة بالنسبة إليهم - لم يعد يتسع لأكثر من التحليل والتفكيك، أو النقد الجذري، من دون تقديم بديل يمكن أن يجد مخرجا (الخروج بمعناه الكانطي)، ويطرح بديلا يعيد الفاعلية للذات وللعقل وللأخلاق والسياسة بالمعنى الكوني، شريطة تقويض النزوع الذاتي للفعل الأخلاقي، كما أصّل له كانط في ميتافيزيقا الأخلاق. ومن هذا المنطلق يستمد الحديث عن الحاجة إلى الفلسفة ضرورته، وخصوصا الفلسفة السياسية والاجتماعية، التي رأت في سياق حديث النهايات الذي تصاعد منذ فوكوياما، عن نهاية التاريخ ونهاية البدائل القادرة على تجاوز الإمكانات التي تتيحها الليبرالية، باعتبارها أقصى ما يمكن الوصول إليه، وصولا إلى أطروحة صامويل هنتغتون، حول الصراعات التي تغذيها الهويات الدينية والثقافية، في هذا السياق، سترى الفلسفة السياسية والاجتماعية مع روادها المعاصرين، أنه بالإمكان إعادة تأسيس المجتمع وتحقيق العدالة والمساواة، وذلك بالتفكيك النظري والعملي لفلسفات الوعي والشعور والنزعة العلموية - الأداتية، والتأسيس لفلسفة إجرائية يكون التواصل وأخلاقيات النقاش والنضال في سبيل العدالة الاجتماعية كأسس لها. وهو ما سيمكّن من تجديد الديمقراطية الليبرالية، التي يراها رواد النزعة التواصلية في الفلسفة السياسية، «ممكنا» بديلا عن الشموليات الماركسية والفاشية والنازية والرأسمالية في صيغتها البيروقراطية، باعتبار النزوع التواصلي من داخل الفلسفة، لا يزال مراهنا على إمكانية تجديد موارد الفضاء العمومي الذي تعرض للاستعمار اليوم من طرف السلطة والنسق، كما يسميهما هابرماس (ويقصد بالنسق الاقتصاد والإدارة)، من داخل النظام الليبرالي.
في هذا المنحى، نجد الفيلسوف يورغن هابرماس، الذي يعود إلى تراث القرن الثامن عشر ليستعيد أسس التنوير الفرنسي والألماني، مراهنا على الإمكانيات التي يتيحها التنوير، التي اعتبرها هابرمارس لم تستنفد، بعد قدرتها على تجديد المشروع الإنساني الذي راهنت عليه الحداثة، سيدافع هابرماس على العقل الأنواري، مع توجيه نقد شديد لأقطاب العقلانية سواء مع ديكارت الذي رأى فيه هابرماس مؤسسا لأنموذج الذاتية أو كانط الذي رأى هابرماس في ميتافيزيقاه الأخلاقية إقصاء للآخر، وذلك لأنها تتيح وتقوم على تصور للفاعل الأخلاقي الذاتي الذي بإمكانه أن يشرع ما هو خير في غياب الذوات الأخرى، من منطلق أن الذات عند كانط، قبل إقدامها على الفعل، تتمثل نفسها في الوضع نفسه الذي يمكن أن توجد فيه الذوات الأخرى، لذلك يتيح لها هذا التمثل القدرة على التمييز بين ما هو خير وماهو شر، على أساس مبدأ الألم والضرر الذي يمكن أن يلحقه الفعل الذاتي بالغير، فتمتنع الذات عنه أو تقدم عليه. لكن هابرماس بوعي استراتيجي، يرى أن هذا النوع من الأخلاق في أقصى مداه، والذي يمكن أن يتجسد في العلاقات الدولية، يجعلنا أمام ذوات جماعية (دول)، تتصرف وتشرّع لأفعال أخلاقية في غياب تام للذوات الأخرى (دول أخرى). لذلك سيدافع عن ضرورة التأسيس لأخلاقيات للنقاش تقصي كل الاعتبارات والخلفيات والتمثلات التي تدعيها الذات، وتحتكم فقط، للقدرة على التبرير العقلاني والحجاجي لجميع الأفعال الأخلاقية أو السياسية. وفي هذا المنطلق، تكون مشروعية الفعل أو السلوك أو نظام سياسي معين، مستمدة من قدرته على تبرير نفسه أمام جموع المواطنين والأفراد، بناء على العقل وليس على القوة والإكراه والتأثير. وهو ما يجعل الفلسفة ضرورة ملحة، لأنها نشاط وفعالية معرفية قادرة على تمكين الفاعلين والذوات داخل العالم المعيش، من المعرفة النقدية القادرة على تنوير الرأي العام، وتفكيك الأساطير التي يمكن للنظام الإعلامي أو السياسي أو الاقتصادي أن يبرر، من خلالها دعواه وأهدافه. وما يجب الإشارة إليه، هو أن الفلسفة في هذا السياق، لن تكون نسقا كليا أو نظريات في المعرفة والمنطق والأخلاق، بل أداة وفعالية معرفية ونقدية محايثة للواقع ولتحولاته. ولا غرابة في ذلك، إن عرفنا أن الفيلسوف هابرماس، لم يكن متمذهبا بقدر ما كان رجلا جمّاعا - بلغة الأستاذ مصطفى الحداد - استوعب كل المتون الفلسفية القديمة والحديثة والمعاصرة، منتقيا منها ما يخدم مشروعه الفلسفي الذي كان، في عمقه، دفاعا عن الحداثة التي لم تستنفد كل مهامها بالنسبة إليه. وهو ما جعل منه مقاوما صلبا لفلاسفة ما بعد الحداثة الداعين إلى التخلي عن العقل والحداثة، باعتبارهما مؤسسين لكل أشكال السيطرة والسلب والتشيؤ التي يعاني منها الإنسان الحديث.
بخلاف براديغم الصراع الذي مثلته كل الاتجاهات الفلسفية الداعية إلى تغيير أسس العالم المعاصر، بناء على العنف الثوري والجذري الذي يتيح تجاوز التناقضات التي تخلفها الرأسمالية في صيغتها النيوليبرالية المعولمة، ينظر هابرماس إلى مشكلات المجتمع الحديث من منظور تواصلي، لا يهدف إلى القضاء على هذه المشكلات بالعنف الثوري، كما تصورت الماركسية، أو عن طريق ملء مكان السلطة بالقائد الذي تتجسد فيه جميع الصفات التيولوجية والسياسية، كما رأى كارل شميت. بالنسبة لهابرماس، كان يحاول أن يجد لمشكلات العالم المعاصر حلا «عقلانيا»، لا يكون ثابتا (قواعد ثابتة تضعها الذات)، كما رأت فلسفة الأنوار. بل حلولا تساهم الذوات في طرحها بصفتها ذوات عاقلة ومسؤولة، تفكر من منطلق العقلانية التواصلية، واستنادا للإجراءات التي تضعها أخلاقيات المناقشة، تكون ذواتا تجيد استخدام اللغة بنوع من الحياد حسب هابرماس! وفي هذا السياق، يبين الباحث عبد السلام الأشهب، أن أخلاقيات المناقشة لهابرماس، تختلف عن الفلسفة «الكانطية» في استراتيجيتها الحجاجية فقط، وليس في الأهداف والغايات؛ لأن براديغم الفلسفة الذاتية، يجعل من الذات مركزا لصياغة المعايير الأخلاقية التي تراها ملائمة للإنسانية، بينما المقاربة الهابرماسية، تنطلق من براديغم التذاوت. فهابرماس يعتبر أن الذات طرف فاعل مثل باقي الفاعلين الآخرين المعنيين بالأوامر الأخلاقية والمعايير الاجتماعية. ولهذا فصياغتها يجب أن تتم في إطار حواري تتشارك فيه جميع الأطراف المعنية. إن رهان هابرماس على العودة إلى كانط من منظور حواري، هو تجاوز للتحدي الذي تطرحه مسألة التعددية في إطار من الإجماع الذي يحفظ حق الجميع في النقاش داخل مجتمع متماسك ومنسجم. وهكذا فالمناقشة تمثل سبيلا ملائما لحل الصراعات المطروحة، مادامت المناقشة هي مسعى يضمن تضمّن كل الأشخاص المعنيين واتخاذ مصالح الكل بعين الاعتبار وبشكل متساوٍ. فمثلا حينما تأتي الولايات المتحدة الأميركية إلى العراق، بدعوى القضاء على الديكتاتورية وتكريس الديمقراطية، ولو كان ذلك عن طريق الحرب، كما وقع في اجتياح العراق مثلا، فإننا هنا نكون أمام «فاعل ذاتي» شرع لمجموعة من القيم والأفعال والقرارات بشكل ذاتي، رأى فيها القيم الأفضل. ثم سعى إلى فرضها على الذوات الأخرى (دولة العراق) بالقوة. وهو ما يتنافى مع ما تدعو إليه العقلانية التواصلية التي تفترض نقاشا قبليا لا سلطة فيه إلا لسلطة العقل وقوة الحجة. ولا تكون معايير أو قيمًا ما مشروعة إلا إذا كانت مبررة عقلانيا. وهكذا يمكن الامتناع عن اجتياح بلد كالعراق مادامت الحجج التي تقدمها (الذات الأميركية) غير قابلة للتبرير عقلانيا ومعياريا. وبغاية تحقيق ذلك، حاول هابرماس أن يستبدل الديمقراطية الليبرالية التي تعطي القيمة للأغلبية العددية بتصور معياري للديمقراطية، والتي سماها بالديمقراطية التشاورية، وهي ديمقراطية حسب هابرماس، تتأسس على أشكال التواصل غير المهيكلة رسميًا من طرف السلطة، والتي يجب أن ترتكز على التواصل الدائم بين الفاعلين، من أجل تحقيق تسوية عادلة بين الجهات المنخرطة في العملية التشاورية - الفاعلين التواصليين المنخرطين في المجتمع المدني والفاعلين الخصوصيين.
هكذا لم تعد الفلسفة ترفا فكريا أو مادة تعليمية أو أنساقا نظرية كلية ومتعالية، بل أصبحت أداة للتغيير والتأثير في الواقع وتوجيهه. ولم يعد الفيلسوف حكيما، بل سياسيًا أيضًا، ليس بالمعنى الآيديولوجي لمفهوم -السياسة - لكن بالمعنى الفلسفي والأخلاقي للمفهوم. وهو ما يجعل منه موجها ومرشدا للمجتمع ولقضاياه الأساسية. لكن ما يمكن ملاحظته، هو أن الفيلسوف التواصلي الذي يمكن أن يذهب مع هابرماس مذهب القائل إن العنف لم يعد ضروريا للتغيير، يفترض وجود إرادة سياسية وأخلاقية لدى السلطة يمكن أن تعمل بمقتضاها على إتاحة الفرصة لجميع الأفراد بأن يحققوا العدالة والاعتراف. وهو ما يتنافى مع جوهر النظام الليبرالي الذي يقوم، في عمقه، على التناقض الأساسي الذي لخصه ماركس في بيانه الشيوعي بين من يملكون ومن لا يملكون. ومادام النظام الليبرالي يتغذى على الرغبات اللامحدودة التي يخلقها لدى أفراده والمتناقضة في الآن نفسه، فإن إمكانية الاعتراف والمساواة والعدالة المؤسسة على التواصل والحوار، تظل ضربا من المستحيل، لأنها تتنافى في العمق، مع ماهية هذا النظام. لذلك، فالتفكير مع هابرماس من داخل النظام الليبرالي، في إمكانية إصلاح أعطابه وتناقضاته، هو نوع من الارتكاس في حد ذاته. فإذا كان هابرماس يصنف كل الاتجاهات السياسية والفلسفية التي ترى في العنف حلا بديلا وجذريا لأزمات الليبرالية، بكونها شموليات جديدة، فهذا يعود في العمق، إلى اختيارات آيديولوجية وسياسية وسيكولوجية ذاتية بالأساس. فهابرماس الذي عايش صعود النازية والفاشية والديكتاتورية، لا يزال يعتقد أن أي حل أو بديل من خارج الليبرالية، لن ينتج إلا نازية أو فاشية أو ديكتاتورية أخرى. وهو ما يسقطه عن وعي أو بدونه، في أطروحة فوكوياما القائلة بنهاية البدائل التاريخية من خارج الليبرالية. لذلك، إذا كان هو نفسه كتب مقالة حول «التفكير مع هيدغر ضد هيدغر»، فنحن أيضًا، مطالبون، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف كارل اتو آبل، بالتفكير مع هابرماس ضد هابرماس.

* أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.