الشاعر السعودي عبد الله الأسمري: شعراء الفصحى في عزلة

يرى أن الشعر النبطي هيمن على المشهد

الشاعر السعودي عبد الله الأسمري: شعراء الفصحى في عزلة
TT

الشاعر السعودي عبد الله الأسمري: شعراء الفصحى في عزلة

الشاعر السعودي عبد الله الأسمري: شعراء الفصحى في عزلة

من جبال السروات وسهول تهامة، يطل الشاعر السعودي عبد الله أحمد الأسمري، بقصائد مشبعة بنكهة المكان، ورائحة الريحان والكادي. وجاءت مجموعته الشعرية الأولى تحمل اسم «حوراء» لترمز لوادي حوراء بللسمر في عسير، لكن هذه المجموعة تعكس جانبًا من شعرية الأسمري، فلديه اهتمام خاصة بالقصيدة القصيرة «الومضة»، وبخلاف عشرات الشعراء الذين اجتذبهم الشعر الجماهيري الاستعراضي المعروف باسم «الشيلات» فهو يعتبر الشعر النبطي «منبرًا للنعرات القبلية».
عن مجموعته الشعرية «حوراء» التي صدرت عن نادي أبها الأدبي، يقول: «حوراء تعني لي المكان والرمز، المكان الساحر الراحل إدهاشًا في المقلتين، الذي أتكئ عليه وأعتصم بالقوافي حين يسكب الشعر لحنه الندي على أيكها، فكلما عاكستني صبابة، أو اعترتني كآبة، أترك مجاديف قاربي للشعر في حوراء، أما الرمز فهو الذكريات وأمواج الحنين والصوت المعتق بالجمال».
وكان الأسمري قد تأخر في إصدار مجموعته الشعرية الأولى التي حملت اسم «حوراء»، وهو يقول إنه كان مهتمًا أكثر بالنشر في الصحف والمجلات، قبل التوجه للإصدار الأول، لأن «حلم النشر هو حلم مترف الجنوح، ولا تثريب على المبتدئ أن يسافر خياله وحلمه كل هذا السفر بحثًا عن إطلالة على مساحات أرحب».
نشر عبد الله الأسمري قصائده في كثير من المجلات المحلية والعربية، بينها المجلة العربية، ودبي الثقافية، والرافد، وأحوال المعرفة، ومجلة بيادر الصادرة من نادي أبها الأدبي، وصحف: الجزيرة وعكاظ والحياة.
لم تقتصر المجموعة على الشعر، فقد جمع الأسمري فيها شتاته الأدبي، شعرًا ونثرًا وخاطرة، ويقول: «نعم سطرت بقلمي مراحل حياتي، شعرًا، ونثرًا، وخاطرة، ورسمت بقلمي كل أحلامي، وها هي غادرت دفاتر الأيام وحطت في ديواني الأول (حوراء)».
لكن هل ضمّ الكتاب كل ما يريد المؤلف؟ يجيب: «إن رواحلي لم تسترح بعد فهناك شعر آخر أكتبه للذين حملوني على جناح الغيم، وسقوني من دفء الريحان، إنهم أولادي وزوجتي، وسوف أجمع ما لم أقله للربيع في قصيدة».
للأسمري تجربة في القصيدة القصيرة، التي تشبه الومضة، وحين سألناه: إلى أي مدى يمكن لهذا النوع الفني أن يختزل طاقة القصيدة؟، أجاب: «صحيح يوجد لدي ما يقارب ثلاثين قصيدة قصيرة على موقعي في بوابة الشعراء، وسوف أجمعها في مجموعة سميتها (أقواس)، أما قصيدة الومضة فيعرفها الدكتور محمود جابر عباس بأنها أنموذج شعري جديد له تشكيله وصوره ولغته وإيقاعاته الداخلية والخارجية».
يضيف: «لقد أخذت قصيدة الومضة مع بدايات حركة الحداثة الشعرية العربية، تتجه إلى العالم الداخلي للإنسان متأثرة بفتوحات علم النفس، فاتجهت إلى العمق الإنساني، وأخذت في التكثيف العميق أكثر فأكثر، وبدأ حجمها بالانكماش التدريجي، حتى وصلت إلى حد تؤدي فيه الغرض بأقل عدد من المفردات، فاستخدمت اللغة بتركيز شديد وبكثافة عالية ورموز موحية، سماها الناقد الإنجليزي (هربرت ريد) بـ(القصيدة القصيرة)، وعرّفها بالقول: هي قصيدة الدفقة الشعورية الواحدة.. قصيدة الومضة هي خلاصة صافية لتراكمات كثيرة في النصوص الشعرية العربية منها قصيدة البيت الواحد في الشعر العربي».
ولد عبد الله الأسمري، وعاش بين تهامة وجبال السروات جنوبي السعودية، وهي منطقة حدودية لكنها تتمتع بسهول وهضاب وأودية تشبع خيال الشعراء، ويقول الأسمري إن ذاكرته مشبعة بروح المكان، حيث الغيم والمطر، «إنني أحاكي بالشعر الحياة والزهر والغيم والمطر والأرض والوطن، وخصوصا عندما يكون لألوان الطيف معنى آخر، وللوحة القمر المسافر بريق آخر، ولنسمة الصيف العابرة عليل ما للطفه، والنجم المُسجى على هدب خاطرة مبحرة عبر المدى، وعندما يضرب الظلام بأطنابه على الكون ويسكب البدر نوره في مجالس السمار، يكون للشعر بوح آخر في بللسمر».
يتحدث عبد الله الأسمري عن حال الشعراء، فيتذكر قول سعدي يوسف: إن الشعر الآن في درجة الصفر. ويضيف: لم يعد باستطاعة الشاعر استقطاب اهتمامات القارئ، فما بالك بمجتمعه وعشيرته الأقربين، ففي ظل ثورة المعلومات ووسائل التواصل سجل شعراء الفصحى حضورهم، لكن في ظل الحشد الجماهيري للشعر النبطي والشيلات زادت عزلة شعراء الفصحى، والبعض كوّن مملكته الخاصة في ظل قصيدة النثر الموغلة في الرمزية.
وعلى خلاف أغلب شعراء تهامة الذين كتبوا الشعر النبطي، والشيلات، فإن علاقة عبد الله الأسمري مع هذا النوع من الشعر لم تكن إيجابية، يقول: لم أكتب في الشعر الغنائي ولا الشيلات، أما الشعر النبطي فلي فيه خمس قصائد في مطلع العمر، ثم توقفت خشية أن يرهق لساني ولم أجد منه مغنمًا، أما تقييمي لهذا النتاج فلكل مشربه وجماهيره والبعض يبحث عن الشهرة والمكسب المادي».



تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين

أحلم بسوريا جديدة تُعاد صياغتها على أسس المواطنة الحقيقيّة، حيث ينتمي الفرد إلى الوطن لا إلى طائفة أو عرق أو حزب... أتوق إلى وطنٍ لا يُجرّم فيه الحلم، ولا يُقمع فيه الاختلاف، وطنٍ يكفل لكلّ فرد حقّه في التعلم بلغته الأم، وفي التعبير عن هويّته وثقافته من دون خوف أو وصاية أو إنكار.

أحلم بسوريا تصان فيها الحريات العامّة، حيث يصبح احترام حرّية الرأي والتعبير قانوناً لا شعاراً أجوفَ، وحيث يُحمى المواطن لا أن يُساق إلى السجون أو المنافي لمجرّد مطالبته بحقوقه. سوريا التي أتمنّاها هي التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، حيث لا تفضيلات ولا محسوبيات، لا فساد ينهش موارد البلاد ولا استبداد يدمّر مستقبلها.

أحلم ببلد يُدار بقوانين عادلة مستمدّة من حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، لا بقرارات فردية تُصادر الحياة برمّتها؛ حيث سيكون لكلّ فرد حقّه في التعلم والعمل والتعبير عن رأيه، وستُحترم لغات السوريّين وثقافاتهم كما تُحترم حياتهم. لن يُضطهد الكرديّ بسبب لغته، ولا أيّاً كان بسبب اختلافه أو رأيه أو معتقده، ولن يُنظر إلى الأقلّيات وكأنّها مُلاحقةٌ في وطنها، لن يكون هناك من فرق بين سوريّ وآخر. سوريا التي أنشدها ستُعيد الاعتبار إلى حقوق الجميع من دون تمييز، بحيث تُعتبر الحقوق واجبات تضمنها الدولة وتحميها.

أحلم أن تكون سوريا ما بعد الاستبداد دولة القانون والمؤسّسات، لا الفوضى والاستئثار بالسلطة. دولة تكفل لمواطنيها حرّية الاختيار وحرّية النقد، وتتيح لهم المشاركة الفاعلة في صنع مستقبلهم. لا أريد أن تُستبدل ديكتاتورية بأخرى، ولا أن يُعاد إنتاج التهميش تحت مسمّيات جديدة. أريد لوطني أن يتخلّص من إرث الديكتاتوريّة والعنف، وأن ينطلق نحو حياة كريمة يعلو فيها صوت الإنسان فوق أصوات السلاح والتناحر.

أحلم بسوريا تتجاوز «ثأراتها» التاريخية، سوريا التي تتصالح مع ماضيها بدل أن تعيد إنتاجه، فلا يكون فيها مَن يتسلّط على قومية أو لغة أو مذهب، سوريا التي تُبنى بالشراكة لا بالإقصاء.

سوريا التي أنشدها هي تلك التي لا تُعامل فيها لغة على أنّها تهديد للدولة، ولا يُعتبر فيها الكردي أو الأرمني أو الآشوري أو أي أحد آخر ضيفاً في أرضه.

لقد حُرمنا لعقود طويلة من التعلّم بلغتنا الكردية، ومن كتابة أحلامنا وهواجسنا بتلك اللغة التي نحملها بصفتها جزءاً من كينونتنا. لا أريد أن يُحرم طفل سوري - أياً كان انتماؤه - من لغته، لا أريد أن يُضطرّ أحد إلى الانكماش على ذاته خوفاً من رقابة السلطة أو وصاية المجتمع.

لا أريد أن تُلغى الذاكرة الكردية أو تُهمّش، بل أن تُعاد إليها قيمتها من دون مِنّةٍ أو مساومة، أن تُعاد اللغة إلى أصحابها الحقيقيِّين، أن تُدرَّس الكردية والعربية والآشورية وغيرها من اللغات في سوريا، وأن تكون كلّ لغة جسراً للمحبّة لا سلاحاً للتمييز.

أحلم بوطن تُرفع فيه المظالم عن كواهل السوريّين، فلا أرى مشرَّدين بين الأنقاض، ولا أسمع أنين أمّهات يبحثن عن جثامين أبنائهنّ المفقودين في كلّ مكان.

أحلم بوطن يتنفّس أبناؤه جميعاً بحرّيَّة، وطن يضمّد جراحه التي خلّفتها أنظمة الاستبداد، ويُفسح مكاناً للكرامة والحرية لتكونا أساسَين صلبَين لعقد اجتماعيّ جديد.

آمل أن تكون سوريا الناهضة من ركام نظام الأسد - الذي أعتبره تنظيماً مافيوياً لا غير - فضاءً يتّسع لاختلافنا. أن نستطيع العيش بوصفنا مواطنين كاملين، لا غرباء في أرضنا.

ولا يخفى على أحد أنّه لا يمكن بناء سوريا جديدة دون مواجهة الماضي بشجاعة وشفافية. العدالة الانتقالية ستكون الخطوة الأولى نحو تضميد جراح السوريين، لا بدّ من محاسبة عادلة لكلّ من ارتكب انتهاكات في حقّ الإنسان والوطن.

في سوريا التي أحلم بها، ستكون الثقافة حرّةً ومستقلة، مسرحاً للحوار والاختلاف، وفسحة لتجسيد التنوع السوريّ بجماله وثرائه. أحلم بروايات ومسلسلات تُحكى بكلّ لغات سوريا، ومعارض فنية تعبّر عن هموم السوريين وأحلامهم، ومسرح يضيء بصدق على المآسي والأمل معاً. الثقافة ستصبح أداة بناءٍ لا هدم، وحافزاً لإعادة اكتشاف الهوية المشتركة.

أحلم بوطن يحترم يحترم المرأة كإنسان وكشريك فعّال في بناء الحاضر والمستقبل، حيث تكون القوانين الضامنة لحقوقها جزءاً أصيلاً من بنية الدولة الجديدة. المرأة السورية التي واجهت الحرب بصبرها وشجاعتها تستحقّ أن تكون في مقدمة صفوف التغيير والنهضة.

أحلم بدولة تُوظّف مواردها لخدمة المواطنين، وتعتمد على طاقات الشباب والكفاءات السورية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية تعيد الأمل وتكفل حياة كريمة للجميع. أحلم بوطن يعيد احتضان أبنائه المهاجرين المتناثرين في الشتات، ويفتح لهم أبواب المشاركة الفاعلة في إعادة البناء.

سوريا التي أحلم بها هي وطن يليق بتضحيات شعبها، وطن تتجلّى فيه القيم الإنسانية العليا، ويُعاد فيه الاعتبار إلى العدل والحرية والسلام.

كروائيّ تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه، وحُرم معي ملايين من السوريين من أبسط حقوقهم في الوجود، من حرية اللغة، والهوية، والانتماء الذي لم يكن يوماً خياراً، بل قيداً مفروضاً.

قد تبدو أحلامي رومانسيّة وبعيدة المنال، لكنّ الأحلام هي بذور المستقبل، وهي الأسس التي سنبني عليها غدنا المنشود.

هل سيظلّ هذا كلّه حلماً مؤجّلاً؟ ربّما. لكن، على الأقلّ، صار بإمكاننا كسوريّين أن نحلم!

* روائي سوري