تدمر.. المدينة الشهيدة

المؤرخ الفرنسي بول فين يصفها بـ«المدينة المعجزة» في كتابه الجديد

أطلال تدمر
أطلال تدمر
TT

تدمر.. المدينة الشهيدة

أطلال تدمر
أطلال تدمر

يعود تاريخ بناء تدمر إلى عام 2000 قبل الميلاد باسمها الحالي.. واحتلها الآراميون في عام 1000 قبل الميلاد.. في عام 32 تم بناء مدن سورية أخرى مثل بعلبك وبترا لكن لم تستطع إحداها منافسة تدمر
«تدمر: لا بديل لها»، بهذا العنوان طرح المؤرخ الفرنسي الشهير بول فين، كتابا موجزا عن هذه المدينة السورية «المعجزة» كما وصفها. ويأتي هذا الكتاب بمثابة «النعوة» بعد أن امتدت الأيادي الظلامية، الجاهلة، والأمية في تقييم هذه «المعجزة»، فدمرتها بعد أن كانت عروسا شامخة وإن شاخت في وسط الصحراء السورية.
دخلت عليها جحافل «داعش»، بعد أن سلمها النظام الأسدي لهم ليغتصبوا جمالها، ويضعوا أصابع المتفجرات في أحشائها وضلوعها، ويذبحوا خالد الأسعد، عالم الآثار ومدير آثار تدمر، ذبح النعاج، ووضعوا رأسه على مخلفات مهشماتها، فكانوا أشد لؤما وإيلاما لها من أورليان إمبراطور روما الذي دخلها منتصرا على ملكتها زنوبيا التي كادت تحتل عرش روما، وتجعل من مدينتها عاصمة لهذه الإمبراطورية التي امتدت أصابعها في كل جوانب الأرض السورية من أنطاكيا إلى سيناء ومنها إلى العمق العراقي.
في هذا الكتاب الشهادة على «المدينة الشهيدة» يبدأ بالقول: «تدمر ضحية الإرهاب البربري الأعمى، هذا الموقع الأثري الأروع في العالم، هذه المدينة التي كانت في عام 200 مدينة تابعة للإمبراطورية الرومانية في أوج عظمتها وغطرستها، كانت موئلا حضاريا وثقافيا رغم متاخمتها للقبائل البدوية، ولإمبراطورية فارس التي تعاديها وتكيد لها كيدا».
في هذا المحيط الأجدب، حيث لا زرع ولا ضرع، سوى حشائش وشويكات تجف مع أول ضربة شمس كسوط حارق، تبرز تدمر كواحة خضراء، وجنة فيحاء، يتمايل فيها النخيل، وتضاهيها الأعناب، والورود على كل باب. إنها المفاجأة السارة للعين عندما تطل من عل في الطريق الواصل إليها من حمص منعطفا قبل أن ينحدر إلى سهلها، مارا من وسطها، محاذيا قوس النصر، ثم متوغلا إلى ساحتها المسورة بسوار سندسي وسوقها الطويلة التي تعج بالحوانيت، ويحفها صفان من الأعمدة على جانبيها، وتكاد تسمع فيها نداءات الباعة، وجلبة المتسوقين.
«لقد توقف الزمن، وجمدت عقاربه في هذه المدينة».. ما يصدم الزائر اليوم، كما كان يصدمه بالأمس البعيد، ذاك المعبد، «معبد بل»، المحاط بغابة من الأعمدة الذي «يشبه إلى حد بعيد معبد سان مارك في مدينة البندقية، والذي جعل من هذه المدينة مرفأ صحراويا على أطراف أمواج الرمال يرسو فيه كل طالب علم وثقافة وتجارة».. يقول بول فين: «هذه السوق التي هندست بمقاييس هندسية غاية في الدقة والكمال، تشهد على حضارة متقدمة، فشوارعها متصالبة كأنها تحاكي هندسة المدن الأميركية اليوم، وتنافس علميا وثقافيا كبرى المدن المتقدمة، أيام عصرها، في أكثر من بقعة في العالم، وتنم عن رخاء ورغد عيش؛ إذ كانت تقوم ثرواتها على العمل التجاري بين بلاد الهند وفارس، وروما، ويصفها المؤرخ بـ(الجمهورية التجارية)».
يعود تاريخ بنائها إلى عام 2000 قبل الميلاد باسمها الحالي: تدمر. وقام الآراميون باحتلالها في عام 1000 قبل الميلاد. في عام 32 تم بناء مدن سورية أخرى مثل بعلبك وبترا، لكن لم تستطع إحداها منافسة تدمر.
خلال خمس عشرة سنة، وصلت تدمر إلى أوج عظمتها في عهد ملكها أذينة، زوج الملكة زنوبيا (بين عامي 259 و274)، ففي عام 260 عندما أسر ملك الملوك شابور الفارسي الإمبراطور الروماني فالنتان، كان أذينة هو الملك الوحيد، والفارس العنيد القادر على تحرير الإمبراطور بعد معركة ضارية ضد شابور وهزيمته على ضفاف نهر العاصي. وبات أذينة أشهر رجل في عصره، ولكن تم اغتياله غدرا على يد أحد ضباط الإمبراطور خشية على عرشه منه، فورثت زنوبيا العرش عن زوجها، واستمرت في حكم إمبراطورية شاسعة بعد أن استولت على مصر والجزيرة العربية، ووصفها البعض بأنها «كليوباترا الشرق» كونها امرأة تحكم إمبراطورية بأكملها وتقود جيوشها بنفسها.
ويذكر بول فين أن الإمبراطور الروماني السوري «فيليب العربي»، كما يدعونه، قد حكم الإمبراطورية الرومانية سنوات قليلة قبل توجه الجيش التدمري نحو روما لخوض المعركة الفاصلة مع الإمبراطور أورليان الذي تسلم العرش الروماني فيما بعد، كما فعل حنا بعل من قبل عندما توجه من مدينة قرطاجنة إلى روما.
لكن هذه المعركة لم تكن في صالح زنوبيا والتدمريين، وتم أسر الملكة وأخذها إلى روما، حيث، كما يقال، تم إعدامها وهي في سلاسلها. ودخول أورليان إلى المدينة المعجزة التي حافظ على معابدها التي كانت تحفة عصرها.
اليوم باتت المدينة مستباحة من قبل هؤلاء الظلاميين الذين لم يقدروا تاريخها المجيد، ولم يروا في معابدها سوى أماكن كانت في يوم ما وثنية.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟