ميليشيات إيران في الشرق الأوسط بانتظار انتخابات 26 فبراير

بعد رفع العقوبات المالية بنتيجة الاتفاق النووي

عناصر من الباسيج الإيراني هلى دراجاتهم النارية يستعرضون حضورهم في طهران (غيتي)
عناصر من الباسيج الإيراني هلى دراجاتهم النارية يستعرضون حضورهم في طهران (غيتي)
TT

ميليشيات إيران في الشرق الأوسط بانتظار انتخابات 26 فبراير

عناصر من الباسيج الإيراني هلى دراجاتهم النارية يستعرضون حضورهم في طهران (غيتي)
عناصر من الباسيج الإيراني هلى دراجاتهم النارية يستعرضون حضورهم في طهران (غيتي)

مع التوترات الإقليمية التي بلغت أوجها في الشرق الأوسط، كيف سيكون تأثير الاتفاق النووي على السياسة الخارجية الإيرانية بعدما رُفعت العقوبات المالية عنها؟ وهل يتوقع من القيادة الإيرانية في طهران تبنّي مواقف أكثر عدوانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن مع تدفق الأموال عليها، أم أنها على العكس ستفضِّل اتخاذ مواقف أكثر اعتدالا؟ والأهم من ذلك، كيف سينعكس ذلك كله على أذرع إيران المقاتلة في الخارج، لا سيما حزب الله في لبنان والميليشيات العراقية مثل «الحشد الشعبي»؟

ترافق رفع العقوبات المالية عن إيران مع تحرير نحو 100 مليار دولار أميركي ذهبت إلى خزينة القيادة في طهران. فوفقًا لدراسة نشرت أخيرًا من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» تملك إيران نحو ملياري دولار أميركي مجمّدة في الولايات المتحدة، ونحو 50 مليار دولار في بلدان مثل الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، ما يجعل مجموع هذه الأصول ما لا يقل عن 60 مليار دولار أميركي، فضلا عن مليارات الدولارات المستحقة على شركات النفط إلى الحكومة الإيرانية.
وهنا السؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي ستفعله إيران بهذه الأموال؟ ترتبط الإجابة عن هذا السؤال، وفق الخبراء، بالصراع القائم بين التيار المتطرف المؤيد لـ«المرشد الأعلى» آية الله علي خامنئي والحرس الثوري الإيراني من جهة وما يوصف في الغرب بتيار «المعتدلين» أو «الإصلاحيين» من أنصار الرئيس حسن روحاني من جهة ثانية.
أليكس فاتانكا، وهو باحث في «معهد الشرق الأوسط» بالولايات المتحدة، تحدّث خلال مقابلة مع «الشرق الأوسط» عن «توافق بشأن الاتفاق النووي من كلا الجانبين» إلا أنه حين يتعلق الأمر بالتطبيق والمتابعة العملية نلاحظ أن روحاني يسعى إلى مزيد من التكامل مع الولايات المتحدة مع تخفيف حدة التوتر على المستوى الإقليمي. وأردف الباحث المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط وإيران بالتحديد، موضحًا أن «روحاني يعمل على تطبيع العلاقات كونه يعلم، أنه في حال الممانعة، قد تفرض العقوبات من جديد، أما خامنئي فيريد تخطي الاتفاقية وهو يتجنّب التقارب الكامل مع الولايات المتحدة». ولقد كان لهذا الصراع بين التيار المعتدل والتيار المتطرف في إيران انعكاساته على مجرى الترشح لانتخابات «مجلس الشورى» الإيراني – أي مجلس النواب ومجلس الخبراء، الذي يتألف من مجموعة نافذة من رجال الدين التي تراقب عن كثب عمل «المرشد الأعلى»، وهي المسؤولة عن اختيار خلف له.
جدير بالذكر أن عشرات من المرشحين المعتدلين كانوا قد أقصوا عن الانتخابات التي ستجري في السادس والعشرين من فبراير (شباط) على غرار حسن الخميني (البالغ من العمر 43 سنة) حفيد آية الله روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو من الملالي الذين تربطهم علاقات وثيقة بالتيار الموصوف بـ«الإصلاحي».
التيار «الإصلاحي» هذا يرى أنه من الضروري أن تلجأ إيران إلى استغلال الاتفاق النووي كخطوة أولى لتحقيق تقارب أكبر مع الولايات المتحدة وللانفتاح على المجتمع الدولي. ووفق فاتانكا «على سبيل المثال، لا يرغب روحاني في التواجد في اليمن»، بينما لا يزال التيار المتطرف أو «المحافظ» من ناحيته يؤمن بأن الهدف الأول لإيران يجب أن يتمثل في تصدير الثورة الخمينية، ومن ثم دفع الولايات المتحدة وحلفائها خارج الشرق الأوسط.
«يركز خامنئي والحرس الثوري الإيراني أولا على العراق، ومن ثم على لبنان وسوريا، وأخيرًا على اليمن» وفق الباحث فاتانكا. وهو يشرح أنه «على مر السنوات الماضية، عمدت إيران إلى ضخ الموارد في العراق بحيث أصبح البلدان (إيران والعراق) مرتبطين بعلاقات وثيقة اجتماعيًا واقتصاديا وسياسيا»، ويستطرد «كما أن إيران تركّز بشكل أساسي على معاقل الشيعة في العراق، من دون الاكتراث كثيرًا لمناطق السنة كالأنبار أو الموصل، إلى أن بات اليوم من الصعب التفريق أين يبدأ العراق وأين تنتهي إيران».
ومن خلال دعم حكّام طهران للميليشيات العراقية الشيعية المتعدّدة مثل «كتائب حزب الله» و«عصائب أهل ألحق» و«كتائب أبو الفضل العباس»، فرضت إيران سيطرتها على المشهد السياسي في العراق عبر تمويل هذه الميليشيات وتسليحها وتدريبها حتى باتت أكثر ولاءً لجارتها الفارسية من ولائها للحكومة العراقية، ونجحت إيران من جديد بتطبيق النهج الذي سبق أن استخدمته في لبنان. وهنا يقول الباحث شارحًا ومقارنا «حزب الله اللبناني هو أكبر نجاح حققته السياسة الخارجية الإيرانية».
وحقًّا، فإن العلاقة العضوية لإيران مع الحزب الشيعي اللبناني أعطتها دورا لطالما سعت وراءه في أحداث بلاد الشام: «والأهم من ذلك، يجب أن نتذكر أن الخميني كان يدعو عناصر حزب الله أولاده الأعزاء، ذلك أن هناك ارتباطًا عاطفيًا بين الحرس الثوري وحزب الله»، حسب فاتانكا.
أما فيما يتعلق بالمشهد السوري، فنجد أن «حصة إيران» تنامت بشكل كبير في سوريا، حيث يُعتقَد أن حزب الله اللبناني نشر وفقا لمصادر مقرّبة من الحزب ما بين 7000 إلى 10000 مقاتل. «فهم إيران الأول ألا تدع سوريا تسقط بين أيدي النظام السعودي» وفق الباحث فاتانكا. وبعد خمس سنوات من الثورة والصراع، ما زال بشار الأسد في السلطة وها هو عاد إلى تحقيق انتصارات ويستعيد الكثير من الأراضي التي كان قد خسرها، وكله بفضل الدعم الإيراني المالي والعسكري والسياسي المتواصل له، إضافة إلى التدخل الروسي. والحقيقة أن إيران سخّرت مواردها وعناصر الميليشيات العراقية التابعة لها وحزب الله من أجل تعزيز وضع الطائفة العلوية في سوريا. وفي هذا الصدد ذكرت «التايمز» أن إيران تمكّنت من ضخ ما بين الملياري دولار شهريًا لدعم نظام الأسد في سوريا. كما تشير معظم التقارير أن الهيمنة الإيرانية على المشهد السوري الهشّ باتت أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى.
أما اليمن، من جهته، فيأتي في المرتبة الأخيرة إقليميًا من حيث الأولويات الإيرانية. بما أن إيران تكتفي حاليا بتدخل مباشر محدود في اليمن، وهي تفضل الاعتماد على الحوثيين المتحالفين مع قوات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح. وبالتالي ليس لديها الكثير لتخسره هناك. وتعليقًا على ذلك، يعتبر الباحث فاتانكا أن الحرب في اليمن تحتاج إلى تسوية سياسية «فإيران لديها القليل لتقدمه إلى اليمن الذي يعتبر البلد الأفقر عربيًا والذي يحتاج إلى ملايين من الدولارات يمكن أن توفرها له دول الخليج».
باختصار، ومع عدم حصول أي تغيير في موازين القوى، من غير المرجح أن تشهد السياسة الإيرانية في المنطقة تغييرا كبيرا نتيجة الاتفاق النووي، وفق كينيث بولاك، الخبير في سياسات الشرق الأوسط في «معهد بروكينغز»، الذي تطرق إلى هذه المسألة العام الماضي أمام لجنة السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي.
بل على العكس اعتبر بولاك أن «خامنئي سيرى أن الاتفاق النووي هو بمثابة تنازل كبير لمصلحة روحاني واليسار الإيراني، وبالتالي، سيرى حاجة لكي يثبت للإيراني المتطرف أن الاتفاق النووي لا يعني أن إيران تخلّت عن آيديولوجيا الخميني وعن عداوتها للولايات المتحدة».
وفي هذه الحالة، ستعمد إيران إلى تصعيد نشاطاتها في مناطق قد تستخدم فيها الأقليات الشيعية حيث تملك مصالح استراتيجية، وبالتالي، تُدخل المنطقة في مزيد من الصراعات والاضطرابات. أما الحل لإنهاء الصراع، وفق فاتانكا، فلن يأتي سوى من اللاعبين الإقليميين، على الأخص، من إيران والمملكة العربية السعودية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.