الذين يكتبون مذكراتهم.. صادقون أم كاذبون؟

يوليوس قيصر أول من كتبها

هنري ثورو  - غلاف الكتاب - يوليوس قيصر
هنري ثورو - غلاف الكتاب - يوليوس قيصر
TT

الذين يكتبون مذكراتهم.. صادقون أم كاذبون؟

هنري ثورو  - غلاف الكتاب - يوليوس قيصر
هنري ثورو - غلاف الكتاب - يوليوس قيصر

في عام 49 قبل الميلاد، كتب الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر أول مذكرات شخصية: «تعليق على حروب بلاد الغال» (غرب فرنسا)، التي كان يقودها لزيادة توسعات الإمبراطورية الرومانية. لكن كانت هذه المذكرات مزيجا من أوامر عسكرية، وتعليقات خاصة وعامة. ولم تظهر المذكرات الشخصية بالمعنى المعروف حاليا إلا خلال عصر التنوير (بدا قبل خمسين عاما تقريبا من الثورة الفرنسية عام 1789).
في الولايات المتحدة، في عام 1854، كتب الفيلسوف هنري ثورو مذكرات تظل واحدة من أشهر المذكرات الشخصية الأميركية: «والدن: حياة وسط الأشجار»، (إشارة إلى بحيرة والدن، في ولاية ماساتشوستس). اشتهرت المذكرات بسبب كاتبها، وبسبب أسلوبه السلس، ولأن جزءا كبيرا منها عن الحياة الطبيعية (لا عن منافسات انتخابية، أو سياسية، أو تجارية).
كتب «قررت أن أعيش وسط هذه الأشجار الطويلة لأني أريد أن أعيش حياة حرة وبسيطة. أريد أن أستمتع بممتلكات ضرورية لا ممتلكات ترفيهية، بحياتي وحيدا لا حياتي منعزلا، بما أنتج، لا بما يعطيني آخرون».
خلال القرن العشرين، اشتهرت مذكرات شخصية عن الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعن الحياة تحت حكم أدولف هتلر النازي في ألمانيا، وحكم بنيتو موسوليني الفاشستي في إيطاليا، منها مذكرات «الليل»، التي كتبها إيلي وزيل، اليهودي الذي نجا من الهولوكوست (ثم نال جائزة نوبل للسلام).
مع بداية القرن الحادي والعشرين، صار كل واحد تقريبا يكتب، أو يتمنى أن يكتب، مذكرات شخصية. ويعود ذلك إلى أسباب منها سهولة الكومبيوتر الكتابة، وتوفير الإنترنت مصادر سهلة، وفتح علم الوراثة لأضابير الآباء والأجداد، ثم ظهور المذكرات الإلكترونية. هذه محاسن، لكن توجد مساوئ، كما كتبت بولا بالزر، في كتابها: «كتابة وبيع مذكراتك: كيف تحسن تسجيل سيرة حياتك حتى يريد الناس، حقيقة، أن يقرأوها»، قالت فيه إنها ليست سعيدة لأن كتابة المذكرات لم تعد فنا وأدبا (مثل مذكرات هنري ثورو، أبو المذكرات الأميركية). وهي ترى أنها «صارت هوايات ومنافسات». وشنت هجوما عنيفا على مذكرات السياسيين، في حالتين:
أولا: مذكراتهم قبل أن يصلوا إلى الحكم (مثل مذكرات عدد كبير من المرشحين لرئاسة الجمهورية). وهذه، كما تقول «مذكرات انتخابية، حماسية وعاطفية».
ثانيا: مذكراتهم بعد أن الحكم (مثل مذكرات الرؤساء والوزراء)، التي «يفتخرون فيها بأشياء، ويخفون أشياء».
وكان الاتحاد الأميركي للمؤرخين الشخصيين (إيه بي إتش)، قد تأسس بداية القرن الواحد والعشرين بهدف «تشجيع تسجيل قصص الناس، والعائلات، والمجموعات حول العالم». وتقول بولا ستول، رئيسة الاتحاد: «ننصح الشباب بتدوين يومياتهم، وذلك لتساعدهم في كتابة مذكراتهم عندما يكبرون».
في نهاية شهر يناير (كانون الثاني)، صدر كتاب: «لماذا نكتب عن أنفسنا: عشرون كتاب مذكرات يكتبون عن سبب نشر غسيلهم على الملأ». «ولكن هل هذا أدب؟ أو ترفيه؟ أو إباحية؟»، هذا هو سؤال ميريديث ماران، التي جمعت هذه السير الذاتية.
وهل نشر هؤلاء العشرون كل شيء في مذكراتهم؟
تقول بيرل كليغ (مؤلفة كتاب «حياة مثيرة») إنها فكرت في حذف علاقة غرامية مع رجل متزوج، لأن «الكتابة عن تفاصيل تلك العلاقة سيشوه سمعتي. لهذا، لم أكتب عنها بطريقة مثيرة، ولم أكتب تفاصيل. كتبتها في قالب فتاة جامعية تنمو، وتخطئ وتصيب، وتتعلم من أخطائها».
وقالت ساندرا لوه (مؤلفة كتاب «إلى أين؟») إنها مرت بنفس الوضع. وقالت: «كتبت بأني دمرت زواجي بسبب علاقة غرامية مع رجل آخر متزوج. قلت إنني كنت زوجة غير مسؤولة، دمرت زواجها بنفسها، ولا تلوم على هذا أي شخص غيرها».
من بين العشرين شخصا، قال نصفهم تقريبا إنهم كانوا يكتبون مذكرات شخصية منذ أن كانوا صغارا، وإن هذا ساعدهم في كتابة كتبهم. فذكرت كليغ أنها بدأت كتابة مذكراتها عندما كان عمرها عشرة أعوام، وفعلت كريستين (مؤلفة كتاب «الطبق الأزرق») الشيء نفسه.
في حالات كثيرة، كتب قسم من الكتاب مذكراته عندما كبر في السن. وقال آخرون إن كتابة مذكرات مثل الذهاب إلى عيادة طبيب نفسي أن «يطهر الشخص نفسه، مثل أن تواجه سلسلة مآسٍ، وتجبر نفسك على ألا تهرب منها»، كما قال ديفيد شيف (مؤلف كتاب «طفل جميل»).
وتذكر أدويدج دانتيكات (مؤلفة كتاب «أنا أموت»): «.. وكأني في عيادة طبيب نفسي، متمددا على كنبة، وناس غرباء يقفون حولي، يسمعون كل ما أقول».
ماذا عن نشر أشياء تؤذي زوجا، أو أما، أو أبا؟
تقول بات كونروي (مؤلفة كتاب «سانتيني الكبير») إنها كتبت عن أخواتها أشياء خاصة أغضبتهن، فقاطعنها كلهن. وتعترف داني شابيرو (مؤلفة كتاب «سنوات والدتي») بأن والدتها قاطعتها حتى توفيت. وكانت قد وصفت والدتها بأنها «امرأة قاسية».



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.