يبلغ أرسين فينغر من العمر 66 عاما، ولا يمكنه أن يواصل مسيرته إلى الأبد. لم يفز بأي لقب منذ 12 عاما، وفي حين يمكن أن يمثل لقب دوري أبطال أوروبا بعض العزاء، فإن النصف الثاني من مسيرته مهدد بأن يحكم عليه التاريخ كفترة تخبط. من المؤكد، ولا بد وأن فينغر يدرك هذا، كما يدرك الجميع، أن آرسنال قد لا يجد فرصة للفوز ببطولة الدوري، أفضل من هذا الموسم، فمنافسوه الآخرون يترنحون. وقد يكون اليوم الأحد حاسما. لا شك في أن لدى فينغر تصميما على الفوز بلقب جديد لكن ما نجح في السابق ربما لم يعد النهج الأفضل. ومباراة اليوم ضد ليستر هي فرصته وفرصة آرسنال لإظهار أنهم ما زالوا من الكبار.
إذا خسر آرسنال أمام ليستر فسيبتعد خلفه بفارق 8 نقاط، ومع تبقي 12 مباراة من عمر المسابقة، سيكون تعويض هذا الفارق صعبا للغاية. أما في حالة فوز آرسنال فسيتقلص هذا الفارق إلى نقطتين ونكون أمام سباق رباعي من جديد. لكن الأمر لا يتعلق فقط بحسابات أو تفاصيل هذا الصراع على اللقب، إذ إنه مع تعثر آرسنال مؤخرا، يبدو أن فترة قيادة فينغر للفريق على مدار العقد الماضي باتت محل شك. وقد جرت تقاليد كرة القدم على أن الخبرة عامل إيجابي. بفضل الخبرة يكون المدرب قادرا على التفاعل مع ظروف معينة، وهي تكون له بمثابة «مكتبة من المواقف السابقة التي عايشها»، وتوفر له الرؤية. ونحن ننظر إلى تجاعيد وجه المدرب والشيب في رأسه لنشعر بالاطمئنان.
وليس بالضرورة أن تكون أي من هذه الصفات النابعة من الخبرة غير حقيقية، لكن الواقع قد يكون أكثر تعقيدا من هذا. في سنوات عمره الأخيرة، كان الناقد الأدبي إدوارد سعيد مفتونا بفكرة «الأسلوب المتأخر»، وكيفية تعامل الفنان مع تقدم العمر واعتلال الصحة، مع وعي بجملة أعماله وتفاعلاته العامة حيال ذلك. في كتابه «عن الأسلوب المتأخر» - المنشور في 2006، بعد 3 سنوات على رحيله - يشير إدوارد سعيد إلى أولئك الذين تبدو أعمالهم الأخيرة كما لو كانت «تضع تاجا على مسيرة حياة من المسعى الجمالي»، من أمثال ريمبرانت أو ماتيس أو باخ أو فاغنر.
غير أن اهتمامه يتركز بشكل أكبر على أولئك الذين يشتمل أسلوبهم المتأخر على «توتر غير متناغم وغير هادئ - نوع من الإنتاجية غير المنتجة عن قصد». إذا كان يمكن اعتبار شكسبير، من خلال مسرحيته «العاصفة»، نموذجا مثاليا للنوع الأول، مع تحول بطل المسرحية «بروسبيرو» إلى تجسيد للفنان الذي يقبل بنهاية عمره الإبداعي، فإن مسرحية الأديب النرويجي هنريك إبسن، «عندما نستيقظ نحن الموتى»، لهي النقيض تماما، إذ طغت على أعماله السابقة، واستلزمت إعادة دراستها وتقييمها.
قد يمكن النظر إلى فترة تدريب لويس فان غال لمنتخب هولندا في كأس العالم 2014، بمنظور مشابه، فانتقاله إلى الاعتماد على ظهير ثالث وأسلوب الهجوم المضاد يعتبر تحولا جذريا من فلسفته السابقة، وهو ما أثار شكوكا حول هذه الطريقة. ولهذا تثير العودة إلى الطريقة الأصلية في هذا الموسم شكوكا، بعد الاستعانة بظهير ثالث ووجود مروان فليني في مركز المهاجم الصريح.
لكن إدوارد سعيد معني بأولئك الذين يصادفون النجاح. في كرة القدم كما في السياسة، تنتهي معظم المسيرات بالفشل. ينظر كتاب «الاستمرارية: عن فن آخر العمر»، للكاتب الأميركي نيكولاس ديلبانكو، والصادر في 2011، إلى أولئك الذين ينتعشون في أخريات أيامهم مثل سوفوكليس وييتس ومونيه وليست، ومن انزلقوا إلى تكرار أنفسهم، بعد أن فقدوا طاقتهم الحيوية والإبداعية، ومن بين من يشملهم في هذه الفئة الروائي الأميركي سول بيلو، والكاتب الأفريقي جيمس بالدوين والكاتب الأميركي نورمان ميلر.
* الانزلاق إلى تكرار الذات
قد يكون المدربون الذين يستمرون لفترات أطول في أندية معينة هم الأكثر عرضة لعملية التلاشي هذه - أو على الأقل، يمكن إدراك تعرضهم لهذه العملية سريعا. على سبيل المثال تغير المدرب الأسطورة برايان كلوف بعد انفصاله عن مساعده بيتر تايلور عام 1981. كما فقد مدرب اللياقة البدنية لوقت طويل، جيمي غوردن، لتقاعده في صيف ذلك العام، بينما وجد نفسه مقيدا من الناحية المالية. وكان ذلك يعود جزئيا إلى سداد أموال تم اقتراضها لبناء المدرج الجديد في ملعب نوتنغهام فوريست «سيتي غراوند»، والصفقات غير الناجحة في أغلبها، والتي شملت المهاجم جاستين فاشانو وإيان واليس وبيتر وارد، وهي الصفقات التي تكلفت مجتمعة 2.7 مليون جنيه إسترليني.
لم يكن بمقدور نوتنغهام فوريست استقدام لاعبين من أمثال تريفور فرانسيس، ولكن كلوف توقف كذلك عن شراء لاعبين من أمثال لاري ليلويد وكيني بيرنز. كان هذا الفريق العظيم في أواخر السبعينات، والذي نجح في غضون 4 مواسم في الترقي والفوز ببطولة الدوري ولقبين لكأس رابطة الأندية المحترفة ولقبين للكأس الأوروبية، يضم مجموعة من الشخصيات الصعبة التي كانت قد تخلت عنها الأندية الأخرى، وكانوا لاعبين يوصفون في الأندية الأخرى بأنهم مدمنون على الكحول أو مقامرون أو أنذال. بحلول الثمانينات، كان قوام فريق كلوف قد تغير. كتب تايلور في كتابه «مع كلوف بقلم تايلور»، يقول: «لم أمانع بضم الأشقياء. كانت بداخل كل منهم قلوب من ذهب – أما برايان فكان مختلفا عني. كان يفضل اللاعبين الطيبين». ربما كان السبب في هذا الاختلاف غياب تايلور، وربما كان السبب يعود لتجربة كلوف العصيبة مع فاشانو العنيد واللبق، وربما كان تسلل إليه الإرهاق فحسب، لكن شخصية فريق فوريست تغيرت، من لاعبي السبعينات أصحاب الأداء الفعال رغم سلوكياتهم السيئة، إلى لاعبي الثمانينات الصالحين الذين كانت تمريراتهم أنيقة، كقصات شعرهم. كذلك فقد تغيرت طموحات كلوف: كان في السابق يسعى وراء الألقاب واستغل المسؤولين الكبار وسخر كل الحيل لتحقيق ذلك الهدف، ولكنه بحلول الثمانينات، كان يكفيه تقديم كرة قدم جميلة. وكان إبقاء فوريست باستمرار ضمن الـ6 الكبار في حد ذاته إنجازا غير عادي بالنظر إلى موارد النادي المحدودة، لكن كلوف كان قد حطم تلك القيود في السبعينات.
* تلاشي الطموح
رغم أن فينغر يعد شخصية مختلفة تمام الاختلاف عن كلوف، فإنه يبدو أنه يمر بعملية مشابهة. كان فريقه العظيم يضم لاعبين متمردين وأقوياء لكنه مؤخرا، وبفعل الضغوط بسبب الإنفاق على الملعب الجديد، هناك قالب واضح للاعب آرسنال: يغص الفريق بلاعبي الوسط المدافعين صغار السن المتمرسين فنيا. قد لا يكونون على مستوى أداء فوريست نفسه في السبعينات، لكن هناك قصة شعر واضحة للاعبي آرسنال. وكما كان الحال مع فوريست، ثمة إحساس بأنه، في مواجهة فرق أقوى من حيث الموارد، أصبح الفوز بالألقاب تقريبا شيئا منسيا لصالح لعب كرة قدم سليمة من الناحية الفنية، من وجهة نظر المدرب.
هناك عنصر من عناصر محاكاة الذات في هذا الأمر. في تقديمه لطبعة الذكرى العشرين من رواية «دعابة لا نهائية»، يلاحظ الكاتب والناقد توم بيسيل أن «كل أصحاب المدارس العظماء صاروا سجناء لمدارسهم». ومن المفهوم أن المدربين يقعون ضحايا للعملية نفسها بدلا من التساؤل عن أفضل الطرق لحل إحدى المشكلات، يبدأ فينغر في السؤال عن كيف يحل أرسين فينغر المشكلة. حل فينغر مشكلات لا تعد ولا تحصى في السابق، ومن ثم فإنه يعود إلى خبراته السابقة، هنالك خطر، رغم هذا، بأن ما كان ناجحا في الماضي ربما لم يعد ناجحا، سواء بسبب هوية مزيفة - أي أن إحدى المشكلات الراهنة تشبه مشكلة ماضية لكنها مختلفة في واقع الأمر - أو لأن الظروف تغيرت ببساطة. النتيجة هي أن فينغر يصبح غارقا في «الفينغرية»، وتصير خبرات نجاحاته السابقة عقبة أمام النجاح في المستقبل. ومع بعض الاستثناءات، وأبرزها أليكس فيرغسون، قد يكون هذا هو السبب في أن المدربين يبدون في خضم إحدى المباريات، أسرى لعقد من الإنجاز المستمر.
وفي هذا الصدد، تلعب وسائل الإعلام والجمهور دورا، فالحاجة إلى قصة وإلى شخصيات مفهومة مسبقا تعني تشجيع فينغر على الغرق في شخصيته القديمة. ورغم هذا، فأيا ما يكون مدى استقلاليته، لا بد وأن يشعر المرء بنفور وإن كان بشكل لا إرادي، من السؤال عن تخليه عن مبادئه. وإذا كان فينغر أقدم على كسر الرقم القياسي لصفقاته من أجل التعاقد مع لاعب وسط مدافع، فيصبح ذلك بمثابة اعتراف بأنه كان مخطئا على مدار سنوات وأن الجمهور كان محقا، العند يستمر - وكما يصبح العند جزءا من «الشخصية الفينغرية»، كذلك يكون تكرار الذات جزءا من هذه الشخصية.
* التفكك ذاتيا والسعي لإثبات صحة الأسلوب
لكن قد يكون هناك شيء أكثر دهاء يحدث. إن ما يبدو واضحا أن كلوف وفينغر قاما بتغييره، هو ما وصفه المفكر الأميركي إرنست بيكر في إعادة قراءته لفرويد بـ«البطل المثالي»، أي مجموعة الاعتقادات التي يستقي منها أحد الأفراد المعنى والإحساس باحترام الذات. بدأ هذا بسعي للحصول على الألقاب، وأصبح سعيا وراء طريقة اللعب.
ليس معنى هذا أن الألقاب غير مهمة - وهذا بالتأكيد في حالة فينغر. لقد بات السبيل الوحيد للذود عن 12 عاما كانت الإنجازات خلالها دون المأمول، هو الفوز بلقب الدوري. وإذا أخفق في هذا، فعلى الأقل يكون هذا بشروطه، أي رفضه تغيير نهجه، ورفضه زيادة الإنفاق أو التخلي عن فكر يعتمد على لاعبي الوسط من أصحاب اللمسات الفنية الأنيقة - وهو لا يزال النهج الذي يسلكه آرسنال، حتى ولو أصبح الفريق أفضل في اللعب من دون الاستحواذ على الكرة على مدار العام الماضي. ورغم كل شيء، فإذا كان صحيحا ما قاله أستاذ العلوم الإنسانية صامويل ويبر، بأن «السعي وراء المعنى، وفعالية البناء والتركيب والوحدة..كل هذا يشير إلى كفاح (الأنا) لتأسيس هوية والحفاظ عليها»، إذن، فأي سبيل لتأكيد البراعة والسيطرة عند مواجهة تحلل «الأنا»، أفضل من أن تعمل «الأنا» على تفكيك نفسها بأن تتبع إلى النهاية الفلسفة التي استقت منها معناها؟
إن تعديل البطل المثالي في هذا السياق، وهو التركيز على الزوال الشخصي للأسلوب بدلا من الجوهر الموضوعي للألقاب، يمكن أن ينظر إليه على اعتبار أنه آلية دفاع عن النفس. أو، على أقل تقدير، هذه هي الطريقة السلبية للتفكير في الأمر. قد يكون ندرة الصفقات الكبرى على مدار العامين ونصف الماضيين والقدرة الكامنة في الطريقة الدفاعية، والتي ظهرت منذ الفوز بهدفين للاشيء على مانشستر سيتي في يناير (كانون الثاني) الماضي، مؤشرا على أن أسلوب فينغر بدأ يعطي ثماره، ليكون بمثابة التاج على مسيرة حياة، كما تحدث عنه إدوارد سعيد.
الموسم الحالي.. فرصة آرسنال الذهبية للفوز بلقب الدوري الإنجليزي
على «المدفعجية» أن يظهروا أنهم ليسوا أسرى لعناد أرسين فينغر المستمر منذ 12 عامًا
الموسم الحالي.. فرصة آرسنال الذهبية للفوز بلقب الدوري الإنجليزي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة