يذكرنا اسمها الشائع «بوكو حرام» الذي يعني بلغة الهوسا «تحريم التعليم الغربي» بحركتي «طالبان أفغانستان وباكستان» اللتين قامتا على التعليم الديني ورفض التعليم النظامي. كما يذكرنا اسمها وموقفها ذلك، بكتاب المنظّر المتشدد «أبو محمد المقدسي» بعنوان «إعداد القادة الفوارس بهجر فساد المدارس»، وغيره من منظري التطرف باسم «الجهاد»، الذين نحوا هذا النحو من تحريم التعليم الغربي والمدني. أما اسمها الرسمي فهو أكثر دلالة على هذا الانتماء، فهي حسبما سماها مؤسسها ويدعوها تابعوها «جماعة السنة للدعوة والجهاد»، وهو ما يذكرنا بأسماء تنظيمات شبيهة كـ«القاعدة في المغرب العربي» التي كان اسمها قبل مبايعتها «القاعدة» عام 2007 هو «الدعوة السلفية للدعوة والقتال» و«جيش أهل السنة في العراق»، الذي أسسه زعيم «داعش» الحالي أبو بكر البغدادي، الذي يحمل شهادة دكتوراه في علم القراءات من جامعة الموصل، وصار بمقتضاه عضوا في «مجلس شورى المجاهدين» الذي أطّره أبو مصعب الزرقاوي (قتل في يونيو/حزيران 2006) جامعا لمختلف الفصائل المتطرفة في العراق. إنها ليست تسميات واحدة، ولكنها توجهات آيديولوجية وعقدية متطابقة، وتأسيسات للروابط التنظيمية في عولمة التطرف باسم الدين فيما قد يفسر صلابة ما يعرف بتنظيمات التطرف المعولمة، وتمدد البيعات من نيجيريا وغرب أفريقيا، حتى إندونيسيا وشرق آسيا، وأهمية الصراع، في ساحة متاحة للتنافس، على قيادة ما يزعم بأنه «الجهاد العالمي» بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش» الذي يبدو أنه قد كسبه الأخير.
أسست حركة «بوكو حرام» في ولاية يوبي بشمال شرقي نيجيريا عام 2002 على يد الداعية الشاب حينئذ محمد يوسف الذي أعدمته الشرطة النيجيرية يوم 30 يوليو (تموز) 2009، والذي يبدو أنه كان معجبا بتجربة تنظيم «القاعدة» في أفغانستان، فسمى قاعدته «أفغانستان» في كناما بالولاية المذكورة قبل تمددها في مختلف ولايات الشمال النيجيري، ومن ثم انطلق من مسجد سمّي بـ«مسجد ابن تيمية» - الذي شهد اعتقاله ومن ثم قتله عام 2009 - كما قتل في مسجد ابن تيمية أيضًا بغزة أيضًا «أبو حفص الأنصاري» زعيم جماعة أنصار الله في غزة، على يد أمن حماس وقواتها في نفس العام.
ولد مؤسس الحركة محمد يوسف عام 1970 ويلقب بـ«الميدغوي» وكنيته «أبو يوسف» في قرية نائية بمنطقة يُونوساري التابعة لولاية يوبه في الشمال النيجيري على الحدود مع جمهورية النيجر. وهو لم يكمل تعليمه النظامي، متجها إلى تعليم ديني غير رسمي أصابه بالغلو، فاتجه لتحريم التعليم الغربي والمطالبة بفصل الجنسين بل والانقلاب على الدولة. وهذا ما دفع كثيرين لتسمية حركته التي لم تلق قبولاً شعبيًا في بداية أمرها بـ«طالبان نيجيريا»، كذلك اشتهر المنتسبون للحركة في ولايتي برنو ويوبي في البداية بلقب «اليوسفيين» نسبة للمؤسس، ولم تشتهر تسمية «بوكو حرام» حسب بعض الباحثين إلا بداية من عام 2009.
كانت بداية محمد يوسف التنظيمية والدعوية مع جماعة الإخوان المسلمين في نيجيريا بقيادة إبراهيم الزكزكي في منتصف الثمانينات، غير أنه رفض ميل زعيمها للتشيّع الإيراني الذي اتسع عام 1994، وحدث انشقاق في جماعة الإخوان في نيجيريا، فانضم جناح منها لزعيمها المتشيّع فيما بعد، واحتفظ جناح آخر بانتمائها الإخواني وتسمت جماعة «التجديد الإسلامي».
أما محمد يوسف فإنه اقترب 1994 من جماعة متشددة تدعى «جماعة إزالة البدعة وإقامة السنة» التي أسسها الشيخ أبو بكر جومى، الذي شغل منصب كبير القضاة في الشمال النيجيري خلال عقد في السبعينات من القرن الماضي، غير أن «أبو يوسف» محمد يوسف ظل على ميله وتوجهه للحاكمية التي تعمقت وازداد تشدده. وما لبث محمد يوسف بعدها أن انفصل عنه بعد انحرافاته الجزئية لهذا السبب مع خط الجماعة، وسيطر على ما بيديه من مساجد مؤسسًا ومعلنًا جماعته الجديدة تحت اسم «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد» عام 2002، التي عرفت فيما بعد بـحركة «بوكو حرام».
هذا التطور في حياة وفكر محمد يوسف يشبه تماما تطور «الصحوية» أو «القطبية» أو «السرورية» في منطقة الخليج العربي التي خرج من بطنها تنظيم «القاعدة» وأخواته فيما بعد.
كذلك يتشابه هذا التطور في مسار «بوكو حرام» ضمن الإطار السياسي والاجتماعي الحاكم، حيث تكون فكرة «الجهاد العالمي» و«عالمية المواجهة» مبدأ ودافعا رئيسا. ولقد رأى محمد يوسف، كما رأى أسامة بن لادن وغيره، في تطبيق الشريعة المعلن تطبيقًا ناقصًا، بعدما أقرّت ثلث الولايات النيجيرية الـ36 عام 2001 وطبّقت الشريعة الإسلامية في العقد الماضي، وكانت مطالبة «بوكو حرام» بتوسيع نطاق تطبيق الشريعة.
* الأسس الفكرية لـ«بوكو حرام»
حسب مانفيستو، أو بيان، «بوكو حرام» الذي وضعه مؤسسها محمد يوسف، والمعنون «هذه عقيدتنا ومنهاج دعوتنا»، يتضح أن مبادئها نفس مبادئ الجماعات المتطرفة المدعية الجهاد مثل تنظيمي «داعش» و«القاعدة»، حيث تقوم على الأسس التالية:
1 - الحاكمية، وتكفير الحكم الوضعي والديمقراطية واعتبارها أديانا مخالفة للإسلام وخروجا منه.
2 - اعتقاد الفرقة الناجية وأنهم الطائفة المنصورة المبشّر بها في نبوءات آخر الزمان.
3 - تحريم التعليم الغربي من المدارس إلى الجامعة.
4 - ضرورة إقامة «الدولة الإسلامية» والبيعة للإمام.
5 - الولاء والبراء ومعاداة المخالفين، سواء من المستغربين أو من الاتجاهات المذهبية الأخرى كالصوفية والتشيّع.
6 - نجح محمد يوسف، مؤسس الحركة، في ربط حركته بتاريخ التجارب الإسلامية والتوسع الإسلامي في أفريقيا، وخاصة تجربة الشيخ عثمان دان فوديو الذي أسس دولة إسلامية في نيجيريا في أوائل القرن التاسع عشر، وعرف بتطبيقه الحدود والولاء والبراء ومواجهة البدع.
ما سبق هي نفس الأسس الفكرية التي تقوم عليها التنظيمات المتشددة والمتطرفة المعولمة في مختلف أنحاء العالم، ما يطرح تساؤلا حول التمدد الراديكالي ودفعه للتحول من خصوصيات الإسلام التاريخي إلى الإسلام الثوري الذي تمثله.
وكانت أولى العمليات المسلحة عام 2003 بعد أن انتشرت جماعته في ولايات الشمال النيجيري الشرقي الخمس، وهي: غومبي وأدماوا وبرنو ويوبي وباوشي، وكذلك في ولايات الشمال والشمال الغربي وهي: كانو وجيغاوا وكاتسينا وسوكوتو وكبي، كما امتد تهديدها لدول الجوار بعد ذلك، وشنت عمليات في النيجر وتشاد والكاميرون.
خلال عام 2009 أظهر محمد يوسف وحركته مفاصلته وحربه على الدولة النيجيرية من خلال ما سماه «الرسالة المفتوحة إلى رجال الحكومة الفيدرالية»، هدّد فيه الدولة، وحدّد لها أربعين يومًا للبدء في إصلاح العلاقة بينها وبين حركته، وإلا فسيبدأ «عملية جهاد» على مدى أوسع لا يعرف مداه. بقيت المؤسسة بعد قتل المؤسس في أعقاب اقتحام مسجد ابن تيمية الذي كان يخطب ويعتصم فيه الزعيم ومئات من حركته. قتل في الاقتحام عدد كبير بينما اعتقل محمد يوسف قبل أن تقتله الشرطة وهو مكتوف اليدين أمام أعين أنصاره وعلى الهواء مباشرة، في بث لمدة خمس دقائق لحوار بينه وبين رجال الأمن انتهى بمقتله.
حسب أليكس ثروتمان Alex Throutman أستاذ الدراسات الأفريقية في جامعة جورجتاون بالولايات المتحدة، ودراسته التي صدرت أخيرا عن معهد بروكينغز في يناير (كانون الثاني) 2016، فإن «بوكو حرام» التي تهدد راهنًا نيجيريا والنيجر وتشاد، قتلت ما لا يقل عن 15 ألف إنسان في هذه البلدان، تقوم على رفض الديمقراطية الغربية واعتبارها كفرا شأن غيرها من الحركات المتطرفة التي ترفع لواء الإسلام والجهاد، وكذلك على رفض التعليم الغربي الذي تراه حرامًا. ولتاريخه تزداد قوة «بوكو حرام» رغم إعلان الحكومة النيجيرية مرات كثيرة، كان آخرها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أنها قضت عليها تماما، أو مقتل زعيمها الحالي أبو بكر شيكاو (مواليد سنة 1965 تقريبا)، وهو ما ثبت لاحقًا أنه زعم غير صحيح. الحقيقة أن «بوكو حرام» دخلت طورًا جديدًا بعد مقتل مؤسسها، وبايعت قيادتها الجديدة وعلى رأسها أبو بكر شيكاو «القاعدة» في البداية، في 16 أغسطس (آب) 2009، وبدت معه أكثر وحشية والأكثر توسعًا في التكفير والقتل على الهوية وعلى مؤسسات الأمن والدولة، والعمليات الانتحارية، إلا أن شيكاو لم يظهر إلا في يونيو 2010 ردا على إشاعة مقتله من قبل السلطات النيجيرية.
ولقد أحسنت الحركة استغلال الصدامات الطائفية وجرائم التطهير العرقي في مدينة جوس بولاية الهضبة (بلاتو) حيث سقط فيها الكثير من المسلمين، وكان أفظعها في شهر مايو (أيار) في أيام العيد، ما برّر لـ«بوكو حرام» - في أنظار أتباعها - شن الإغارات والتفجيرات ضد المسيحيين، وسقط في هذه الأحداث أكثر من 550 شخصًا على الأقل في قرابة 115 هجومًا حسب الكثير من التقارير.
وفي 8 مارس (آذار) 2015 بايعت «بوكو حرام» تنظيم داعش في بيان صوتي بُث عبر حساب الحركة على تويتر، على لسان زعيمها أبوبكر شيكاو، الذي أعلن بيعته والتزامه بالسمع والطاعة في العسر واليسر.
ولا شك أن التحول لبيعة «داعش» أعطى زخما أكبر للتنظيم المتمدد في نيجيريا ودول الجوار، وسيجد مددا من استقرار «ولاية داعش» في جنوب ليبيا القريبة، وهو ما عبر عنه الرئيس النيجيري محمد بخاري أمام البرلمان الأوروبي في 3 فبراير (شباط) الحالي 2015 بأنها تعد «قنبلة موقوتة» بالنسبة لأفريقيا وكذلك لأوروبا.
بعد أفول «القاعدة» وصحوة «داعش» جاء تحول شيكاو للبيعة لـ«داعش» في مارس 2015 خطوة مشجعة ومهمة جدًا بالنسبة إلى «البغدادي» الذي قبلها مرحبًا أملا في مزيد من التوسع في أفريقيا وسحب البساط من تحت أقدام «القاعدة»، ولكن في المقابل تأمل «بوكو حرام» من هذه البيعة الحصول على المزيد من الدعم المالي واللوجستي والإعلامي الذي يبدو أن شيكاو قادر عليه.
يلح كثير من دارسي «بوكو حرام»، مثل الدكتور حمدي عبد الرحمن وعمر سيتي وثروتمان وغيرهم، على أن الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية وهشاشة الدولة والخدمات في نيجيريا ساعدت هذه الحركة المتطرفة على التضخم والحضور الآيديولوجي والمؤثر في شمال نيجيريا والبلدان المجاورة، في مواجهة الحكومة النيجيرية الاتحادية والمكونات من غير المسلمين التي تمثل 40 في المائة من مجموع السكان.
ويظل بين الداخل والخارج وجدليتهما يجتمع تفسيران يكتملان ويتداعمان، في تفسير ظهور مختلف الظواهر والتنظيمات المتطرفة، لكن العامل الآيديولوجي يظل أقوى من سواه، وهو ما يجذب المقاتلين الأجانب من دول الغرب الليبرالي وغيرها، كما أنه من صنع محمد يوسف وجماعته فيما بعد.
ختامًا، فإن ما سبق يطرح علينا سؤالاً أكثر عمقا عن جدوى تقسيمات ما يسمى بـ«الإسلام الأفريقي» ذي الطابع الصوفي، أو «الإسلام الآسيوي» ذي الطابع الروحي والتسامحي، أو «الإسلام الأوروبي» ذي الطابع الليبرالي، إذ تبدو هذه البيئات على تنوعها بيئات قابلة للاختراق والتحول أمام قوة تدفق آيديولوجيا التطرف وهجومها دون صد، وليس أدل على ذلك من حالة كـ«بوكو حرام» الداعشية الأفريقية التي صعدت في بيئة صوفية، بينما يتجاوز عدد المقاتلين الأوروبيين في «داعش» في سوريا والعراق ما لا يقل عن خمسة آلاف مقاتل، ما يمثل ما بين 20 إلى 30 في المائة من المقاتلين الأجانب عموما، حسب تقرير سوفان غروب في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
مراجع:
- د حمدي عبد الرحمن: تحولات الخطاب الإسلامي في أفريقيا، ط1 مركز الأهرام للنشر سنة 2015.
- Alex Throutman، The Disease unbelief; Bolo Haram’s religious and political worldview، Brookings analysis paper in 22 January 2016.