الأدباء العرب المغتربون.. تابوهات متوارثة وحريات طارئة

هل يرافقهم «الشرطي» القديم في عقولهم أم يتخلصون منه؟

محمد المطرود و هيثم حسين و يوسف شحادة و أحمد ضياء
محمد المطرود و هيثم حسين و يوسف شحادة و أحمد ضياء
TT

الأدباء العرب المغتربون.. تابوهات متوارثة وحريات طارئة

محمد المطرود و هيثم حسين و يوسف شحادة و أحمد ضياء
محمد المطرود و هيثم حسين و يوسف شحادة و أحمد ضياء

هل تختلف رفة جناح الطائر حين ينتقل فجأة من قفص إلى فضاء أوسع؟ السؤال المعنوي ذاته ينطبق على موضوعنا الذي نتناوله الآن ولكن على الأدباء الذين ينتقلون من محيط عربي إلى فضاء أوسع في الغرب على صعيد الحريات في الكتابة. فهل ثمة تحولات تطرأ على كتابتهم، أم يبقى «الشرطي» ساكنًا في أدمغتهم، أم يتمردون عليه بمجرد وصولهم إلى واقع يتيح لهم التعبير بحرية أكبر؟ وكيف ينظرون إلى الأدب الذي كانوا يكتبونه سابقًا؟ وما التغيرات التي تحصل لهم بعد حصولهم على مساحات أكبر من الحرية في الكتابة؟
تلك التساؤلات نقلناها إلى أدباء عاشوا مرحلتين من الكتابة، واحدة في بلادهم العربية، والثانية في الغرب، فكيف وجدوا هذه النقلة؟
الشاعر محمد المطرود الذي غادر إلى فضاءات الغرب يتكئ على وصف جاء به إيمرسون: «الكتابة هي مجموع الأرواح السحرية في مكان ما»، ويرى أن هذه الأرواح لو حُبست وغيّبت عنها الحرية تغيب إحدى أهم ركائزها وتتحول بذلك إلى واجب وظيفي. ويعتقد محمد المطرود أن غياب الركيزة هو قتل لجوهر التلقي بحيث لا الكاتب ولا المتلقي يصلان إلى نتيجة أكثر من النتيجة التي يصل إليها كاتب العدل أو كاتب الاستدعاءات أمام المحكمة، وستكون العلاقة هنا قائمة على اللاجدوى واستهانة طرف بطرف آخر. ويضيف وصفًا آخر بقوله: «الجدار الكتيم الذي تبنيه سلطة ما والتابوهات الاجتماعية بوصف المجتمع آلة خنوع ومُسوقة لمقولات السلطة، يجعل من الرقيبين الظاهر والمستتر أكثر فعالية في تذليل الكتابة وخفضها دون المستوى، هذه الكتابة (المنضبطة) هي وسم منطقة ما - العربية مثلا - تذهبُ بنخبها وكفاءاتها إلى الانتحار المجازي الذي هو في أحد أشكاله: الاغتراب، خروج يحتمل المغامرة والفشل، قسري قبل أن يكون خيارًا شخصيًا، خصوصا في الآونة الأخيرة بفعل التفجُّرات الكبيرة».
ويعتقد المطرود بأن الفضيلة الأهم للاغتراب تكمن في التخلص من الرقيبين، وهو خلاص مشوب بما يقلل من وهجه في وضوح ذهنية المظلومية والصدمة الحضارية والحنين إلى مساقط الذكريات، وبالتالي أسر الكتابة في مساحة ضيقة بما يفعله المنتجُ هنا من مقابلات منطقية وغير منطقية بين مكانين يختلفان شكلاً ومضمونًا، غير أن هنا المساحة متوفرة لصالح حرية ظاهرة لكنها منضبطة قانونًا وليس استلابًا.
وعن تجربته الشخصية يقول المطرود: «شخصيًا تخلصت من الآخر الحسيب نحو فضاء الآخر المتلقي، فاكتسب نصي جسارة جديدة من خلال خياراته التقنية، وكذلك مواضيعه المنافسة لأدب كنا نقرأه على أنّه أدب يصنعهُ معلمون كبار. حالة التقزيم التي كنا فيها جعلتنا ننظر إلى كل مختلف عنا على أنه أكبر وأهم، أما بفعل القرب الذي نحن فيه اليوم وفرض علينا فرضًا فقد صرنا ندفع عن أنفسنا بالتي هي أحسن، وننظر إلى ذواتنا كمنتجين لا متلقين فقط، وكمعلمين وصانعي نصوص سنقرأها ويقرأها الآخر الذي نحن بين ظهرانيه الآن، نصوص أعتقد أنها لها الجَلد الكافي على الحضور والاستمرار».

التابو المقيت

الكاتب أحمد ضياء لا يبتعد كثيرًا عن قناعة سابقه، بل يبدأ كلامه بتأكيد الواثق: «بكل تأكيد للبيئة أثر كبير على حياة المثقف والكاتب بشكل عام، إذ من خلالها يمكن أن يتسلم المادة الخادم ويعجنها وفق ما تملي عليه الظروف الآنية، وكذلك وفق مرجعياته المعرفية، فلا بد على الكاتب أن ينهل عبر هذا الإطار المفاهيمي والبيئوي خميرته الأساس، وإن التكيفات التي تحدث مع ما كان أو يكون هي من الأمور الجيدة التي تحسب للكاتب، وإلا لو أنه لم يستطع أن يتفاعل مع هذه المدركات وظل ينتج في نفس الخانة أو الخطاب الذي كان ينتجه في الداخل، أي أنه لم يخرج من إطار بيئته التي تمثل بالدرجة الأولى التابو المقيت فوق عقلية وكتابات الفرد. شخصيًا أجد أن الفرد الذي لا يستطيع أن يغير هذه القولبة وهذه النمطية النسقية التي اعتاد عليها، هو كاتب أصيب بعوق فكري بحيث إنه لا يستطيع أن ينتج فضاءً جديدًا يغاير به الوضع القديم الذي كان فيه ببلده الأم، وهنا ينبغي الإشارة إلى جوهر المكان حيث الرائحة والجمال يلعبان أداء رسميًا في كينونتهما. وما تلك الكتابات التي كانت محصورة في خندق التابو والخوف إلا مراحل مران يعدها الكاتب، إذ به حالَما يخرج سينتج خطابًا مغايرًا أو موازيًا لما كان ينتجه».
ثم يعود أحمد ضياء ليستدرك بقوله: «هذا الأمر لا يعني أن كل من خرج خارج حدود الوطن هو كاتب أو شاعر أو ناقد مبدع، بل هناك استثناءات كتابية بالإمكان أن نشير إليها، والأمر هنا أيضًا عكسي، أي أنه ليس كل من بقي داخل الوطن هو غير مبدع، بل هناك ظروف حتمية هي من تحدد مواقف هذا وذلك ضمن خانات أو معطيات ترسمها خارطة الأرض وتعيد إنتاجها المرجعيات الفكرية التي يتمتع بها كل شخص، ويبقى النص سواء كتب بالداخل أو الخارج هو الفيصل الوحيد لعمل الكاتب، فمن خلاله يمكن التأشير على موهبة الفرد وتمايزه عمّا هو سائد.

التحرر من التأويل

الروائي والكاتب هيثم حسين يعتبر أنّ المكان الجديد يتمرأى بطريقة أو أخرى في الكتابة، وينعكس بدوره في الموضوعات المتناولة، ناهيك بالهموم الحياتيّة المستجدّة، ويشرح أكثر قائلاً: «ذلك أنّ التغيّر يكون بشكل تدريجيّ، لأن تفاعل الكاتب مع محيطه يكون أكثر حساسيّة من غيره، لذلك تراه يقوم بتظهير نموذج حياته الذي تغيّر في كتابته التي ستكون صدى لتلك التغيّرات. بالنسبة لي، أجد نفسي مقيّدًا بواقع بلدنا سوريا، وما يجري فيه من أهوال يعجز المرء عن توصيفها لفداحتها وفجائعيّتها، وأجد نفسي مسكونًا بالذاكرة، أعود إليها، أستقي منها وأبني عليها. هنا تحرّرت من حسابات التأويل المخابراتي ومخاوف الاستجواب ووساوس التحقيق. أذكر أنّني حين كنت في سوريا كنت أجد نفسي مضطرًّا إلى شرح بعض المقالات وتفسيرها، أو حتّى مقاطع من الروايات، لعناصر المخابرات في استجواباتهم لي، وكنت أضطر إلى تقديم إفادة لمَن لا يعترف بأيّة قيمة، لا للأدب، ولا للإنسان بذاته، وكان ذلك مثيرًا للأسى والقهر، ويحزّ في الروح والقلب. هنا لا خوف من تأويلات من هذا النوع. أتذكّر تلك الأيام التي كان رفع السقف المفروض على الكتّاب تحدّيًا، وكانت هناك جاذبيّة التعبير بعناد عمّا يقلق السلطة، لكن كانت تلك حرّية مجتزأة».
الحياة الجديدة تفرض إيقاعها وموضوعاتها وقضاياها على اللاجئ والمغترب، بحيث يجد نفسه في خانة بعينها، ويتحتّم عليه الدفاع عن نفسه، ويكون عرضة لسوء الفهم، أو التأويل، ومعرّضًا للتقييد بصور نمطيّة. ويرى هيثم حسين أن القضايا الإنسانيّة مشتركة بين الشرق والغرب، الإرهاب، اللجوء، الحرب، الحرّيّات العامّة، ناهيك بدهشة الاكتشافات المواكبة لنماذج مختلفة من البشر، كلّ ذلك يشكّل زادًا ثرًّا للتناول والمعالجة والمقاربة.
ويقول: «لكلّ مرحلة بهجتها، وسحرها، وكلّ كتابة هي ابنة زمنها. الحرّيّة المتاحة في التعبير كانت حلمًا عصيًّا على التحقّق حين كنت في سوريا، وهي مسؤوليّة كبرى هنا. أشعر بقذارة النظام الذي جاهد لحجب نسائم حرّيّة التعبير عنّا، وسعى لتكميمنا، وتعقيدنا، وإبقائنا أناسًا مكبوتين لا يجرؤون حتى على الحلم بالتعبير، لكنّ الثورة حطّمت تلك الأوهام، وفتحت نوافذ الحلم بالحرّيّة، وكان أن لجأ النظام بإجرامه الرهيب لتحويلها إلى نوافذ الجحيم».

لا يزالون يتحفظون اجتماعيًا

الشاعر الدكتور يوسف شحادة يوقن بوجود هذه التغيرات، ويقول: «لا شك أن معظم الأدباء العرب الذين غادروا أوطانهم واستقروا في المهاجر، لسبب أو لآخر، قد مروا بفترة تحولات في منطلقاتهم الفكرية، ونظراتهم إلى قضايا الوطن والعالم، هذه التحولات مشروعة، فالأديب ابن واقعه، والواقع المعيش له جبروته الذي يجر المبدع إلى مهب التغيرات». ويضيف شحادة: «عموما، الأدباء العرب يشعرون بحرية أكبر خارج عالمهم العربي، فتراهم يعبرون بتحرر كبير عن القضايا الفكرية والسياسية في أعمالهم. ولكن، إن نظرنا إلى القضايا الاجتماعية والحياتية المطروحة في إبداعاتهم وجدناها قد عولجت دون تغيرات تذكر من حيث جرأة الطرح وحرية البوح»، لكنه يرى في الأمر استثناءات: «لكي لا أقع في التعميم أؤكد أن فئة صغيرة من الأدباء العرب يمكن أن تستثنى من ذلك». ويكمل: «الموضوعات التي يخشى العرب طرحها في أعمالهم هي تلك التي تمس شخصية الحاكم العربي بسوء أو حتى بانتقاد غير عنيف، وينسحب ذلك على أجهزة الأمن أو ما يحب أن يسميه قضاء الأنظمة المستبدة «رموز الدولة وهيبتها».
وقد تكون المسائل الدينية، التي تثير الجدل، موضوعات تطرق إليها بعض الكتاب العرب خارج أوطانهم بجرأة أكبر لم يكن بوسعهم الاقتراب منها في مجتمعاتهم المتشددة دينيا أو طائفيا. ويصف المشهد بقوله: «يمكن القول إن الأدباء العرب في غالبيتهم ينظرون إلى أعمالهم المكتوبة في ظل غياب الحرية، أو نقصانها، أنها نتاج عسير أنجزوه تحت ضغط الرقابة الذاتية، وكبح الاندفاع وراء تعرية وجه الواقع، والاكتفاء بتعرية أطراف جسده، قدر المستطاع. مما لا شك فيه أن مساحات الحرية الجديدة أتاحت لهم البوح بصدق أكبر ومنحتهم نفسا مندفعا لا يهادن ولا يتردد في تعرية الجسد العربي كاملا».



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!