«ترامبو» يسرد حكاية كاتب ممنوع ومرحلة هوليوودية خطرة

شبح المكارثية لا يزول

برايان كرانستون، كما يؤدي شخصية دالتون ترامبو
برايان كرانستون، كما يؤدي شخصية دالتون ترامبو
TT

«ترامبو» يسرد حكاية كاتب ممنوع ومرحلة هوليوودية خطرة

برايان كرانستون، كما يؤدي شخصية دالتون ترامبو
برايان كرانستون، كما يؤدي شخصية دالتون ترامبو

هناك وجهتا نظر في الحملة المكارثية التي انطلقت في الأربعينات واستمرت لمعظم سنوات العقد التالي. الأولى تقول إن الولايات المتحدة كانت تدافع عن نفسها بالفعل حيال ارتفاع عدد المنضمين إلى الحزب الشيوعي الأميركي لنحو 75 ألف عضو وسيطرة اليسار على نقابات واتحادات العمّال في الولايات المتحدة، كما انتشاره في الأوساط الثقافية والفنية (المسرحية في نيويورك والسينمائية في هوليوود) ما شكّل خطرًا على النظام الأميركي نفسه.
الثانية تقول إن الخوف لم يكن مبررًا والمواجهة لم تكن ضد الشيوعيين فقط، بل ضد المثقفين عمومًا والليبراليين واليساريين على نحو شامل. بعض أصحاب هذا الرأي يضم اليهود كهدف آخر للمكارثية، لكن الحقيقة هي أن اليهود كانوا أصحاب استوديوهات وشركات كبرى وقفوا من الحملة موقفًا مؤيدًا لها، خصوصًا عندما بدأت المحاكمات الفعلية مع العلم أن الكثير من السينمائيين الذين تمت محاكمتهم كانوا من اليهود أيضًا. وجهة النظر هذه تؤكد أن الطريقة التي أقدم فيها السيناتور جوزف مكارثي والمحققون التابعون لـ«لجنة التحقيق الحكومية للنشاطات غير الأميركية» خرجوا عن الدستور الذي يضمن حرّية المعتقد.
شخصيات متعددة
فيلم ترشيحات الأوسكار الحالية «ترامبو» لجاي روتش، المخرج الذي عادة ما يقدم على تحقيق أفلام كوميدية سريعة، ليس الأول بين الأفلام الأميركية التي تعرّضت لهذا الموضوع الشاسع والذي يحتمل، ربما بطريقة مساوية، وجهتي النظر. بل إن «ترامبو» - الفيلم ليس الأول الذي دار حول شخصية كاتب السيناريو دالتون ترامبو (1905 - 1976). قبل هذا الفيلم بثمانية أعوام قام ابنه كريستوفر بكتابة سيناريو لفيلم وثائقي حول والده (سمّاه «ترامبو») أخرجه بيتر أسكين وقام بقراءة مقتطفات منه كل من دونالد سذرلاند ويليام نيسون وبول جياماتي ومايكل دوغلاس (شوهد في مهرجان تورونتو سنة 2007). حتى في ذروة الأزمة تم صنع فيلم حولها حمل اسم «ذا هوليوود تن»، حول السينمائيين العشرة الذين تم سجنهم بقرار حكومي تبعًا لمعارضتهم التحقيقات التي أجريت معهم. أخرج الفيلم جون بيري، وكان سينمائيًا شابًا وطموحًا (وربما معارضًا) وهو جمع مواقف السينمائيين العشرة المحكوم عليهم (من بينهم ترامبو وجون هوارد لوسون وألبرت مولتز ولستر كول وهربرت ج. بايبرمان) وخطبهم خلال التحقيق وجعلها مادة فيلمه ليفاجأ بصدور قرار بالتحقيق معه ما دفعه لحزم حقائبه واللجوء إلى فرنسا.
لم يكن وحيدًا في طلب اللجوء، إذ تسلل المخرج جول داسين إلى فرنسا ثم اليونان، وجوزف لوزاي إلى بريطانيا وحط تشارلي شابلن في سويسرا.
ما لا يذكره الفيلم، نظرًا لأنه كان سيأخذ وقتا طويلاً، هو أن ترامبو، بعد خروجه من سجن دام عشرة أشهر بتهمة «ازدراء المحكمة»، وبعد أن أخذ يقبل على مزاولة مهنته ككاتب سيناريو بأسماء مستعارة، لجأ إلى المكسيك لسنوات قليلة بعيدًا عن الأعين.
من التغييرات الأخرى التي كان لا بد من إجرائها هو خلق شخصية خيالية باسم أرلين هيرد (قام به لويس س. ك) الذي نراه في الفيلم أكثر إمعانًا من ترامبو (كما أداه برايان كرانستون) في مسألة الدفاع عن حقه كأميركي اعتناق المبدأ الذي يريد، وبل أيضًا معارضًا لما رآه تهاون ترامبو في مسألة العمل تحت جناح وتبعًا لمبادئه الشيوعية. شخصية أرلين كانت، في الواقع، حصيلة خمس شخصيات حقيقية ارتأى كاتب السيناريو، جون مكنمارا عن صواب، جمعها في جسد رجل واحد تجنّبًا لكثرة الشخصيات.
أما باقي الشخصيات، ومنها أفراد عائلة ترامبو، وفي مقدّمتها زوجته كليو (الموهوبة دوما دايان لين) كما المنتج فرانك كينغ (قام به جون غودمان) فهي حقيقية. طبعًا هناك زركشة في المواقف كالمشهد الذي يهاجم فيه المنتج فرانك أحد رؤساء الاستوديوهات مهددًا إياه عندما طلب منه ذاك التوقف عن التعامل مع ترامبو حتى باسم مستعار.

معسكرات متوالية
الأفلام التي تناولت تلك الحقبة متعددة.
أساسًا هناك تاريخ طويل من الإنتاجات صاحبت عاصمة السينما هوليوود معبّرة عن علاقة معقدة وأحيانًا ملتوية بينها وبين واشنطن.
قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، وإلى حين قررت الولايات المتحدة دخولها لجانب الاتحاد السوفياتي وبريطانيا، كانت هناك أفلام تخفي امتعاض هوليوود من النازية وذلك حتى لا تخسر السوق الألمانية. كان لألمانيا، كما ورد في بضعة كتب في هذا المجال، مكتب في هوليوود مهمته مراقبة أي مشروع يتعرّض لألمانيا. عندما دخلت أميركا الحرب وتم إقفال المكتب تحوّل الموقف إلى الهجوم على النازية والنازيين وتم تقديم الألمان في أميركا على أساس متعاونين وفريق خامس يعمل ضد المصالح الأميركية.
في الوقت ذاته خرجت بعض الأفلام التي تعتبر النظام الشيوعي صديقًا من خلال شخصياتها وأحداثها مثل «خاطئون في الفردوس»، 1938، و«الآنسة V من موسكو»، 1942، و«الرفيق الرقيق»، 1943. لكن الأمر توقف تمامًا بعد أن وضعت الحرب أوزارها وحال وجدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي نفسيهما على نقيض آيديولوجي كامل.
وإذ حطت الحملة المكارثية بكل ثقلها، خرجت الكثير من الأفلام المناوئة للشيوعية، وكثير منها في أزياء الخيال العلمي حيث الغزاة يريدون تقويض دعائم النظام والإنسان ومبادئه وحريته ويرمزون إلى خطر أحمر قادم عبر الأثير أو سيحط من كوكب قريب طمعًا في تطويع المجتمعات الحرّة وتقويضها. لكن كانت هناك أفلام معارضة للحملة من عام 1950 إلى عام 1960 من بينها «فيفا زاباتا» (1951) و«ظهيرة موقدة» (1952) و«ملك في نيويورك» (1957) التي وإن لم تتعاطى مباشرة مع المكارثية إلا أنها قاومت الصورة التقليدية لليمين الأميركي بوضوح. تلك التي عارضت المكارثية مباشرة كان عليها الانتظار لما بعد مرور السحابة الداكنة. وودي ألن قاد «الواجهة» سنة 1976 (أخرجه المتعاطف مارتن رِت) والمخرج إروين وينكلر حقق «مدان بالشبهة» سنة 1991 (فيلم حذر خفيف الوقع) و«تصبحون على خير وحظ سعيد» الذي أخرجه جورج كلوني سنة 2005 وانتقد فيه المكارثية وجهًا لوجه. حتى كلينت إيستوود (المعروف بانتمائه إلى اليمين) سخر من شخصية أحد أقطاب الفترة اليمينيين وهو إدغار ج. هوفر (رئيس الإف بي آي لعقود) في «ج. إدغار» (2011).



أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
TT

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

بعد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك. «لا يهم»، تقول: «على الأفلام التي تعني لنا شيئاً أن تشقّ طريقاً للعروض ولو على مدى سنة أو أكثر».

فيلمها الأخير «حدود خضراء» نال 24 جائزة صغيرة وكبيرة واجتاز حدود نحو 30 دولة حول العالم. ترك تأثيراً قوياً منذ افتتاحه في المهرجان الإيطالي، حيث نال جائزةَ لجنة التحكيم الخاصة وفوقها 8 جوائز فرعية.

مردّ ذلك التأثير يعود إلى أن الفيلم (بالأبيض والأسود) تحدّث عن مهاجرين سوريين (ومهاجرة من أفغانستان) علِقوا على الحدود بين بروسيا وبولندا، وكلّ حرس حدود كان يسلبهم شيئاً ومن ثمّ يعيدهم إلى حيث أتوا. الحالة لفتت نظر جمعية بولندية أرادت مساعدة هؤلاء الذين تناقص عددهم بعدما اختفى بعضهم وسُجن آخرون. الدراما كما قدّمتها هولاند (75 سنة حالياً) نابعة من مواقف ونماذج حقيقية وأحداثٍ وقعت عالجتها المخرجة بأسلوب تقريري غير محايد.

نقطة حياة: «حدود خضراء» (مترو فيلمز)

لحظات إنسانية

> حال مشاهدتي لفيلم «حدود خضراء» في «مهرجان ڤينيسيا» خطر لي أنه يلتقي مع أفلام سابقة لكِ تناولت قضايا مهمّة وحادّة مثل «يوروبا، يوروبا» و«الحديقة السّرية» و«أثر» (Spoor) الذي عُرض في «برلين». كيف تُصنّفين أفلامك؟ وكيف تختارين قضاياها؟

- أفلامي السابقة تنوّعت كثيراً في موضوعاتها باستثناء أنني قصدت دوماً تناول ما اعتقدت أنه أجدى للمعالجة. والأفلام التي ذكرتها هي بالنسبة لي من بين أهم ما أخرجته. اخترتها لجانبها الإنساني أو، أُصحّح، لقضاياها الإنسانية. اخترتها لأن الأحداث وقعت في لحظات تاريخية ليست فقط مهمّة، بل هي لحظاتٌ بدت فيها الإنسانية بمنحدرٍ. هناك كثيرٌ ممّا يحدث في هذا العالم، وما حدث سابقاً يشكّل صدمة لي ولملايين الناس والفيلم هو صلتي مع هذه الأحداث. رأيي فيها.

«حدود خضراء» الفرار صوب المجهول (مترو فيلمز)

> «حدودٌ خضراء» هو واحد من أفلام أوروبية تناولت موضوع المهاجرين، لكن القليل منها انتقد السّلطات على النحو الذي ورد في فيلمك.

- أنا لست في وارد تجميل الأحداث. ولا أريد الكذب على المشاهد وأقول له إن ما تعرّض له مهاجرون مساكين على الحدود التي لجأوا إليها بحثاً عن الأمان غير صحيح، أو أنه حدث في شكل محصور. ومهنتي هذه استخدمها لقول الحقيقة، ولأفيد المشاهد بما أصوّره ولا يمكنني الكذّب عليه أو خداعه. ما شاهدته أنتَ على الشّاشة حصل وربما لا يزال يحصل في دول أوروبية أخرى.

نحو المجهول

> كيف كان رد فعل الجمهور البولندي حيال فيلمك؟

- إنها تجربة مهمّة جداً بالنسبة لي. سابقاً كان هناك حذرٌ من قبول ما أقدّمه لهم من حكايات. كثيرون قالوا إن هذا لا يمكن أن يحدث. نحن في أوروبا والعالم تغيّر عمّا كان عليه. والآن، مع هذا الفيلم، وجدتُ أن غالبية النّقاد وقراء «السوشيال ميديا» يوافقون على أن هذا يحدث. هناك من يأسف وهناك من يستنكر.

> نقدُك لحرس الحدود البولندي والبروسي في هذا الفيلم يؤكّد أن المعاملة العنصرية لا تزال حاضرة وربما نشطة. اليمين في أوروبا يجد أن طرد اللاجئين الشرعيين أو غير الشرعيين بات أولوية. صحيح؟

- نعم صحيح، لكن الاكتفاء بالقول إنه موقف عنصريّ ليس دقيقاً. نعم العنصرية موجودة ولطالما كانت، وعانت منها شعوب كثيرة في كل مكان، ولكن العنصرية هنا هي نتاج رفض بعضهم لقاء غريبٍ على أرض واحدة، هذا رفض للإنسانية التي تجمعنا. للأسف معظمنا لا يستطيع أن يمدّ يده إلى الآخر في معاملة متساوية. الحروب تقع وتزيد من انفصال البشر عن بعضهم بعضاً. ثم لديك هذا العالم الذي يسير بخطوات سريعة نحو المجهول في كل مجالاته.

> هل تقصدين بذلك التقدم العلمي؟

- بالتأكيد، لكني لست واثقة من أنه تقدّمَ حقاً. الذكاء الاصطناعي؟ هذا وحده قد يذهب بما بقي من ضوابط أخلاقية ومجتمعية. أعتقد أن التأثير الأول لذلك أننا نعيش في زمن نعجِز عن فهم تغيّراته، والنتيجة أننا بتنا نهرب إلى حيث نعتقده ملجأً آمناً لنا. نهرب من التّحديات ونصبح أكثر تقوقعاً معتقدين أن ذلك خير وسيلة للدفاع عن مجتمعاتنا.

ضحايا

> عمَدتِ في «حدود خضراء» إلى تقسيم الفيلم إلى فصول. هذا ليس جديداً لكنه يطرح هنا وضعاً مختلفاً لأننا ننتقل من وضع ماثلٍ ومن ثَمّ نعود إليه لنجده ما زال على حاله. ما الذي حاولتِ تحقيقه من خلال ذلك؟

- هذه ملاحظة مهمّة. في الواقع هناك قصصٌ عدة في هذا الفيلم، وكل شخصية تقريباً هي قصّة قابلة للتطوّر أو التوقف. وهناك 3 فرقاء هم الضحايا والمسعفون ورجال السُّلطة. بعضُ هذا الأسلوب المطروح في الفيلم مشتقٌ من العمل الذي مارسته للتلفزيون وهو يختلف عن أسلوب السّرد السينمائي، وقد اعتمدت عليه هنا لأنني وجدته مناسباً لفيلمٍ يريد تقديم الأحداث في شكلٍ ليس بعيداً عن التقريرية.

> هناك أيضاً حربٌ أوروبية دائرة على حدود بولندا في أوكرانيا. هل يختلف الوضع فيما لو كان أبطال فيلمك أوكرانيين هاربين؟

- نعم. يختلف لأنّ الرموز السياسية للوضع مختلفة. البولنديون يشعرون بالعاطفة حيال الأوكرانيين. السلطات لديها أوامر بحسن المعاملة. لكن هذا لم يكن متوفراً وليس متوفراً الآن للاجئين غير أوروبيين.