الحداثة.. رفض للانخداع وفضح تزييف الحقائق

يعتقد كثيرون أن النموذج المسمى «حداثة» هو نموذج غربي بامتياز، وأنه كان جحيما على العالم العربي الذي استقبله، وهو ما سمي «بصدمة الحداثة»، حيث تم زج الإنسان العربي دون سابق إنذار، في تفكير لم ينتجه. فهل يعد هذا الأمر صحيحا حقا؟ وهل الحداثة اختيار؟
في هذا المقال، سنحاول إبراز الحداثة، كمنظومة تفكير كانت صادمة للإنسان الغربي أيضا. وأنها واحدة، وليست كما يروج لها البعض، من أنها حداثات، ومنهم المفكر طه عبد الرحمن. فالإنسان واحد. فكيف ذلك؟
ما تزال بنية التفكير الذي ينعت بالغربي، غامضة عندنا في العالم العربي. وما دمنا مطالبين باتخاذ موقف تجاه هذا الفكر المبهر والمقلق، المطلوب والمنبوذ في الآن نفسه، فالعمل الحقيقي الذي يجب القيام به، هو إكمال فهمنا الموضوعي له، والعمل على ضبط ثوابته.
لقد انطلق النسق الغربي، المسمى حداثة، وبوضوح وبشبه إجماع بين الباحثين، في القرن السابع عشر، وهو قرن الثورة العلمية الحديثة بامتياز. إنه زمن غاليليو وديكارت وكبلر ونيوتن وغيرهم. ففي نهاية المطاف، ليس منهج الفكر الحداثي، سوى منهج الفكر العلمي مطبقا في كل المجالات.
كانت البداية مع الثورة الفلكية، التي سميت باسم العالم البولوني كوبيرنيكوس (توفي سنة 1543) الذي أوقف الشمس وحرك الأرض. إذ لم يكن عمل هذا الرجل تقنيا وحسب، من أجل ضبط التقويم وحسابات وجداول مواقع الأجرام السماوية، أو من أجل تعديل ذلك النموذج الفلكي البطلمي الأرسطي، المتهالك والموروث من القرون الوسطى. أبدا لم تتوقف ثورة الرجل عند هذه الحدود، بل كانت هزة وزلزالا سيغير رؤية الإنسان الأوروبي، آنذاك. لنتصور مثلا، شخصا كان يعيش في القرن السادس عشر، ويؤمن كما كان يؤمن معظم الناس آنذاك، بحسهم المشترك: إن الكون الذي نراه هو عالم مغلق ومريح، وكل ما فيه مسخر من أجل الإنسان. أقصد أن العالم كان ينظر إليه على أنه قبة سماوية محدودة الجوانب، بها نجوم ثابتة وأجرام سيارة، تدور هي والشمس على مركز الكون المتمثل في الأرض، التي وضعنا الله فيها تكريما وتشريفا. بالطبع، كان هذا الشخص سيصعق إذا ما سمع كوبيرنيكوس يقول له إن رؤيتك مزيفة وغير حقيقية. وإن مشهد العالم كما تراه كاذب ومضلل. لقد خدعتك حواسك، وأظهرت لك العالم على شاكلة ليست هي الحقيقية. بعبارة أخرى، سيشعر الشخص بأن كل شيء ينهار من حوله. فكوبيرنيكوس قلب الموازين، ووضعنا في أزمة إدراك حسي رهيب، وجعلنا نرى العالم عالمين: عالم جاهز وسطحي وسهل المنال ووهمي، وعالم حقيقي لكن غير مرئي، ولا يكتشف بسهولة، بل يحتاج لجهد جهيد لن نحصل عليه إلا بالبناء. والأمر الأشد الذي سيزيد الطين بلة، هو أن الجيل الذي سيأتي بعد كوبيرنيكوس، سيعمق الهوة بين النظرة الفلكية القديمة والنظرة الناشئة، بإظهار أن العالم لا نهائي وغير محدود. وهنا نتذكر جيوردانو برونوالذي روج لهذه لفكرة، إلى درجة حرقه سنة 1600. إن خطورة القول بلا محدودية العالم، تكمن في ضرب مركزية الأرض مباشرة. ما يعني فقدان تميز الإنسان وحظوته في الكون. فهو قد أصبح وكأنه متروك لحاله، ومقذوف به في حصاة صغيرة مهملة، ضمن عالم دوار ولا نهائي، إلى درجة أن السؤال المحرج، الذي طرح، آنذاك، بإلحاح كان: هل حقا خلق العالم من أجل الإنسان؟ إذ ما الحاجة لكل هذه العوالم اللامتناهية؟ أكيد أن الأمور تسير بطريقة مختلفة عما اعتقده الأقدمون؟ لقد أربكت الكوبيرنيكية الإنسان الأوروبي، وأقلقت باله، وأدخلته في ريبة وشكوك خطيرة، هددت عالمه الآمن. ولعل أحسن من عبر عن تلك اللحظة، هو الفيلسوف الفرنسي ديكارت (توفي سنة 1650). فهو أعلن أنه كوبيرنيكي بقوة، حين قال في إحدى رسائله إلى صديقه مرسن: «وٳني لأعترف بأنه إذا كانت فكرة حركة الأرض خاطئة، فإن جميع أسس فلسفتي ستكون باطلة كذلك». فجراء صدمة الإدراك الحسي، لم يعد عقل ديكارت يقبل بصورة ساذجة، بالحقائق كما هي بشكلها الغفل، دونما تمحيص وتدقيق. بعبارة أدق، تبين لديكارت أن على العقل أن يتحرك وهو حذر ويقظ ومسلح بكل التريث اللازم، قبل إصدار أي حكم على العالم من حوله. فالعالم لا يبوح بسره بمجرد أن تراه الحواس. فالحقيقة لم تعد جاهزة، بل تصنع صناعة، وتتطلب منهجا صارما ودقيقا، تمليه الذات العارفة على الموضوع المدروس. وهذا هو المشروع الضخم لمؤسس الأزمنة الحديثة ديكارت، الذي سيتوج بخطواته المنهجية الرباعية، التي تُمكن من تنظيف العقل وتصفيته من الخطأ، أي كل ما هو غامض، نحو فقط ما هو واضح وبديهي. وقد ذكرها في كتابه «مقال في المنهج» (وهي البداهة والتحليل والتركيب والإحصاء والمراجعة).
إن مجرد إطلالة سريعة على الفكر الغربي بعد الانقلاب الفلكي الكوبيرنيكي، ستكشف أن الإنسان الأوروبي، سيجتهد لاقتحام الطبيعة، وعدم القبول بما تعطيه لنا جاهزا، وسيعمل على إرغامها، بل استنطاقها لكي تبوح بأسرارها. لقد تعلم العلماء أن الحقيقة لا ترى ولا تسمع، بل تصنع وتنجز بعد قلب للسطح والنفاذ إلى ما وراء الظواهر.
لكن الشكوك لن تبقى حكرا على ما هو طبيعي فقط، بل ستمس حتى الإنسان وسلوكاته. فمسيرة الفكر الغربي، هي مسيرة فضح للخفي وعدم الاقتصار على القشور السطحية المزيفة. ففي القرن الثامن عشر، سيكشف خداع المظاهر في المسألة الأخلاقية. فإذا ما سلمنا مثلا مع الرأي الشائع وشبه المجمع عليه، بأن الصبر خصلة حميدة، فهناك من الأمثلة ما يربك ويحرج هذا التصور. وهذا ما تنبه إليه الفيلسوف ٳيمانويل كانط بوضوح شديد، بحديثه عن مثال المجرم، وﺫلك كالتالي: لا يوجد أحدا أشد صبرا من المجرم. فقد يتربص بضحيته لسنوات، وبكل الهدوء اللازم وبالدم البارد الكافي. وإذا عدنا إلى المسلمة الأولى، كون أن الصبر خصلة حميدة، فهذا يعني مباشرة أنه علينا القبول بالنتيجة التالية، وهي أن المجرم له خصلة حميدة، أي إنه طيب وخير. وقد خلف هذا تناقضا صارخا، لأننا نعلم أن المجرم مدمر ومخرب، والتدمير والخراب شر لا يمكن وضعهما في خانة الأخلاق. فالعبرة إذن، بالدوافع الداخلية ومدى نقائها وصفائها. فالتصور الكانطي سيقلب الأمور جذريا، لتصبح الأخلاق ليست هي السلوكات المسماة حميدة (صبر، أمانة، عفة، إقدام الخ)، بل هي تلك الشحنة المضيئة القادمة، ليس من التجربة أو ما نراه يتجسد حولنا، بل من عمق الذات. وبعبارة أكثر وضوحا: الأخلاق مصدرها باطني، يخرج من منبع يسميه كانط «الإرادة الطيبة» أو ما يسمى عندنا «النية الصافية». فالمجرم إرادته سيئة رغم أن سلوكه صبور. بل لننظر إلى كارل ماركس في القرن التاسع عشر. إنه سيستخدم مفهوم الآيديولوجيا، بالمنطق الحداثي نفسه الذي أصبح لا يقبل الخداع. فخلف كل فكرة تروج هناك مصالح مضمرة. فالآيديولوجيا قناع وقشور تغلف الحقيقة، إنها تزييف وقلب للحقائق. بل ألا نرى موقف شوبنهاور، وهو يقسم العالم إلى تمثل وإرادة، على أساس أن التمثل هو عالم العلم، والسطح، والمعنى، والمعقولية، بينما الإرادة هي عالم العمق والحيوية، حيث تسود الطاقة العمياء المحركة لكل شيء. وهو ما سيتجسد أيضا عند نيتشه، الذي ما هو إلا تتمة لعمل شوبنهاور. فقد كان يحمل مطرقته ليهشم كل الطبقات المتراكمة والمغطية لجوهر الإنسان الطبيعي والحيواني، مرددا أنه ليست ثمة حقائق بل مجرد تأويلات. والأمر نفسه يقال عن المحلل النفسي فرويد الذي لم يكتف بسطح الوعي، فهو مجرد تمظهر لعالم أعمق كله سراديب ومكبوتات مخفية، إنه اللاشعور. وفي مجال الابستومولوجيا مفهوما أصبع شائعا، هو الباراديغم، للعالم توماس كون، الذي أكد على أن العالم لا يستطيع التفكير من دون الإطار النظري المتفق عليه. فما يظهره من نتائج يوجد من خلفه نماذج ذهنية موجهة. وهو ما أسماه فوكو بالإبستمي، أي النظام المعرفي المؤطر للتفكير في زمن معين، الذي يشتغل كبنية خفية ومعتمة.
نخلص إلى أن ما يسمى الحداثة، هو نموذج من التفكير لم يكن اختياريا بل كان مفروضا بقوة الصدمة الفلكية، التي ستأخذ البشرية في مسارات الشكوك والبحث عن الحقائق، ليس في السطح المزيف، بل بالحفر في الأعماق لإظهارها. ولا حل لنا في عالمنا العربي إلا تعليم أولادنا أن الشمس تخدعهم يوميا. لا ينبغي القول إن الحداثة غربية ولا تعنينا. فالإنسان واحد، والكون الذي خدع الإنسان الأوروبي هو الكون الذي يخدعنا أيضا. فإذا جرح الغرب تاريخيا، واجتهد لإزالة الأوهام، وعمل على الخروج من القصور والسذاجة، وفضح كل ما يغلف الحقيقة، فعلينا أن نجرح تربويا وبيداغوجيا - وكم تأخرنا في ذلك. إن الحداثة في جوهرها، رفض للخداع تحت أي مسمى. إنها فضح وإماطة الأغلفة عن كل ما يمكن أن يزيف الحقائق. إنها بحق لا ترحم، وربما هذا ما يخيفنا منها.