رواية تكمل ما لم ينته.. وفيلم على الأبواب

عودة فيليب مارلو أفضل التحريين الخاصين

روبرت ميتشوم في دور فيليب مارلو  -  «تأمين مزدوج» كتبه تشاندلر من بطولة فرد ماكموري وباربرا ستانويك  -  الكاتب رايموند تشاندلر
روبرت ميتشوم في دور فيليب مارلو - «تأمين مزدوج» كتبه تشاندلر من بطولة فرد ماكموري وباربرا ستانويك - الكاتب رايموند تشاندلر
TT

رواية تكمل ما لم ينته.. وفيلم على الأبواب

روبرت ميتشوم في دور فيليب مارلو  -  «تأمين مزدوج» كتبه تشاندلر من بطولة فرد ماكموري وباربرا ستانويك  -  الكاتب رايموند تشاندلر
روبرت ميتشوم في دور فيليب مارلو - «تأمين مزدوج» كتبه تشاندلر من بطولة فرد ماكموري وباربرا ستانويك - الكاتب رايموند تشاندلر

«أعرف شيئا واحدا: حالما يقول لك أحد إنك لست بحاجة إلى مسدس، فمن الأفضل أن تأخذ واحدا يعمل».
«الشوارع كانت مظلمة بما هو أكثر من سواد الليل».
«على بعد 30 قدما بدت ذات شأن أرستقراطي. على بعد عشرة أقدام بدأت ذات شأن من أراد أن يبدو من على بعد 30 قدما».
صاحب هذه العبارات الحاملة طرافة وعمقا في الوصف معا، هو الكاتب البوليسي رايموند تشاندلر الذي وُلد سنة 1888، وامتهن‪ كتابة الروايات البوليسية‬ سنة 1932، وتوفي سنة 1959 عندما وجد نفسه عاطلا عن العمل نسبة لتفشّي البطالة خلال سنوات اليأس الاقتصادي. كان وُلد أميركيا (في ولاية نبراسكا)، لكنه عاد مع والدته ذات الأصول الإنجليزية إلى بريطانيا حيث درس ونشأ. عندما أصبح شابّا، عاد مجددا إلى أميركا ولحقت به والدته وعمل محاسبا حتى تفشّت البطالة، وكانت الكتابة سبيله الوحيدة للعيش.
مثل سام سبايد وآرثر كونان دويل قبلهما، أسس تشاندلر لتحريه الخاص فيليب مارلو سنة 1938، وما لبثت هذه الشخصية أن أصبح لها دم ولحم وشهرة في أوساط الأدب البوليسي، ولاحقا جرى نقلها إلى كثير من الأفلام، وهو ما يحيلنا إلى حدثين مهمّين في هذا المجال؛ الأول صدور رواية جديدة من بطولة ذلك التحري الخاص، تحت عنوان «الشقراء ذات العين السوداء»، انتهى من كتابتها مؤلف اسمه بنجامين بلاك، وهو الاسم المستعار للكاتب الآيرلندي جون بانفيل. بما أن الكاتب الحقيقي لشخصية التحري مارلو مات قبل 55 سنة، فإن الغاية هي أبعد من العودة إلى شخصية بوليسية ساخرة وخلابة، فهي منوط بها من ناحية بإحياء تراث كلاسيكي من الكتابة من ناحية وتعزيز أسم جون بانفيل (الحائز على جائزة بوكر عن رواية «بحر» سنة 2005) من ناحية أخرى ولو أن وقّع الرواية باسمه المستعار ذاك.
الحدث الثاني، أن هوليوود بدأت تحاول استكشاف احتمال شراء حقوق الرواية الجديدة مستغلة الرواج الأدبي الذي تشهده. خلال حفلة أقامتها جمعية «رايترز بلوك» كان من بين الحاضرين ممثل عن شركة «وورنر» الذي شوهد يتحدث مع بانفيل على انفراد. «يونيفرسال» من ناحيتها تقرأ الرواية بعدما عبّر الممثل والمخرج جيمس فرانكو عن في رغبته تولي البطولة إذا ما قررت الشركة المضي في شراء الحقوق. إلى ذلك، كان كفن كوستنر عبّر في مقابلة خاصة قبل بضع سنوات عن أنه سيسارع لقبول لعب دور التحري مارلو إذا ما عُرض عليه.
هذا إلى جانب أن ثلاثة منتجين هم مارك أبرام، فيل سلايمر وإريك نيومان يقفون وراء تحويل إحدى رواياته، وعنوانها «المتاعب هي مهنتي» إلى فيلم جديد ينضم إلى نحو 20 عملا

* شاندلر في هوليوود
إذا ما جرى ذلك، سنشهد عودة هوليوودية إلى حين كانت كتابات تشاندلر رائجة في استوديوهاتها، علما بأن آخر ظهور جيّد لأي من رواياته كانت في إطار فيلم «وداعا يا حبي» (نسخة دك رتشاردس سنة 1975) التي لعب بطولتها روبرت ميتشوم مجسّدا تلك الشخصية حتى الذروة. فقد كان التحق بهوليوود في مطلع الأربعينات حين قامت شركة «RKO» (مالكها المليونير هوارد هيوز) سنة 1942 بإسناد مهمة تحويل شخصية بطله مارلو إلى سيناريو منفصل عن أي من أعماله في فيلم حمل عنوان «الصقر يسيطر» (The Falcon Takes Over). جورج ساندرز قام بدور البطولة تحت إدارة متعثرة لإرفنغ رايس، ومرّ الفيلم عابرا على الشاشات من دون كثير نجاح.
في العام نفسه طلبت شركة «فوكس» من تشاندلر بيعها واحد من رواياته المبكرة عنوانها «النافذة العالية» التي أسندت إلى سينمائي آخر غير معروف (هو هربرت ليدس) وقامت بإسناد البطولة إلى ممثل لم يبرح مكانه صوب الشهرة، اسمه لويد نولان.
المثير في هذا الشأن أنها استعارت من تشاندلر روايته تلك، لكنها غيّرت بطلها إلى شخصية بوليسية أخرى كان ابتدعها مؤلف آخر هو برت هاليداي، وهي شخصية تحري اسمه مايكل شاين.
صرف تشاندلر في العام التالي، 1943، يكتب رواياته ويعاين وضعه في هوليوود الذي لم يبدأ كما أراد له أن يبدأ، لكن موعده مع الشهرة والمكانة معا لم يكن بعيدا. في مطلع عام 1944 بدأ العمل على واحد من أفضل أفلام الفترة البوليسية، وهو «تأمين مزدوج». تشاندلر كتب السيناريو عن رواية عملاق كتابة آخر في النوع نفسه اسمه جيمس م. كاين، ومع مخرج الفيلم بيلي وايلدر، وصاغ عباراته الأدبية التي نسمعها كتعليق أو كحوار. حكاية موظّف شركة تأمين اسمه وولتر (فرد ماكموري) تغويه زوجة رجل ثري، فيبيع الزوج بوليصة مزدوجة القيمة ويخطط مع الزوجة (باربرا ستانويك) لقتله. حين ينجزا الجريمة تخونه وتتركه جريحا يجر نفسه إلى مكتبه ليسجل اعترافه.
في العام نفسه، وقّع تشاندلر باسمه على فيلمين؛ الأول اكتفى بكتابة السيناريو له، هو «والآن غدا» عن رواية لراتشل فيلد ومن بطولة ألان لاد ولوريتا يونغ، والثاني باع فيه حقوق روايته «وداعا يا حبي» Farewell‪,‬ My Lovely إلى هوليوود، حيث قام السيناريست جون باكستون بكتابة النص السينمائي للمخرج إدوارد ديمتريك. دك باول لعب شخصية التحري الخاص فيليب مارلو، ومنحها وجهين محببين لها؛ السخرية التي اشتهرت به الشخصية، والوجوم الذي أضافه الممثل عليها.
بعد كتابته لسيناريو لفيلم بعنوان «غير المرئي» (إخراج لويس ألن سنة 1945) كتب سيناريو فيلم آخر قام ألان لاد ببطولته عنوانه «داليا زرقاء» عن مجموعة رجال عادوا من الحرب ليكتشف أحدهم (لاد) بأن زوجته (فيرونيكا لايك) لم تعد ترغب به. تموت مقتولة وتدور الشبهة حوله، لكنها تستقر على أحد رفاقه (ويليام بندكس) في النهاية.
هذا كله قبل أن يطل فيليب مارلو من جديد في فيلم من إخراج هوارد هوكس وبطولة همفري بوغارت في دور التحري الشهير عنوانه «النوم الكبير» («وورنر» - 1946). تشاندلر لم يكتب سيناريو هذا الفيلم عن روايته بل كتبه الروائي ويليام فوكنر.
فيلم رائع على الرغم من أن بعض مراحله تبقى غامضة، وفي بعض المذكرات أن المخرج وبطله تحيرا بشأن مشهد مكتوب فاتصلا بمارلو وسألاه عن هذا المشهد، فكان رد مارلو: «خذوه كما هو أو احذفوه.. أنا أيضا لم أفهمه».
بعد ذلك، قام الممثل روبرت مونتغمري بإخراج نفسه في «سيدة في البحيرة» عن رواية من أعمال شاندلر سنة 1947 ثم انقطعت هوليوود عن ترجمة أعماله إلى أفلام، وانقطع هو الكتابة لها حتى سنة 1951، حين تواصل مع المخرج الرائع ألفرد هيتشكوك لكتابة «غريبان في قطار» عن رواية باتريشا هايسميث البوليسية.
كان هذا الفيلم آخر فعل قام به تشاندلر سينمائيا. لكن هوليوود، بعد وفاة الكاتب معدما ومريضا سنة 1959، عادت إلى أعماله تلفزيونيا وسينمائيا أكثر من مرة. وفي كل مرة، هناك احتفاء بالنص الخاص وبالشخصية الباحثة عن مجرم هارب لم يستطع القانون إثبات التهمة عليه. وها هو بطله الساخر والصادق مع نفسه فيليب مارلو يلاحقه. تشاندلر نفسه هو الذي قال ذات مرة: «القانون ليس العدالة. إنه آلية غير محكمة، والآلية هي كل شيء أراده القانون لنفسه».

* مارلو على كبر
* بعد أن قام إليوت غولد بتمثيل شخصية التحري المذكور في فيلم روبرت ألتمن «الوداع الطويل»، تصدّى روبرت ميتشوم، وكان بلغ سن التقاعد فعليا، لبطولة فيلمين من أعمال تشاندلر، هما «وداعا يا حبي» و«النوم الكبير». أولهما أفضلهما وأخرجه دك رتشاردس. في مطلعه العبارة التالية منقولة عن الكتاب: «أنا متعب، لا أعلم لماذا. ربما من القضايا الخاسرة التي ألاحقها، ربما بسبب هذا المطر وربما لأنني - ببساطة - أصبحت كبيرا في العمر ومتعبا».



شاشة الناقد: جود سعيد يواصل سعيه لتقديم البيئة الرّيفية في سوريا

عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)
عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)
TT

شاشة الناقد: جود سعيد يواصل سعيه لتقديم البيئة الرّيفية في سوريا

عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)
عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)

سلمى التي تحارب وحدها

(جيد)

يواصل المخرج السوري جود سعيد سعيه لتقديم البيئة الرّيفية في سوريا من خلال أحداث معاصرة يختار فيها مواقف يمتزج فيها الرسم الجاد للموضوع مع نبرة كوميدية، بالإضافة إلى ما يطرحه من شخصيات ومواقف لافتة.

وهذا المزيج الذي سبق له أن تعامل معه في فيلمي «مسافرو الحرب» (2018)، و«نجمة الصباح» (2019) من بين أفلام أخرى تداولت أوضاع الحرب وما بعدها. في «سلمى» يترك ما حدث خلال تلك الفترة جانباً متناولاً مصائر شخصيات تعيش الحاضر، حيث التيار الكهربائي مقطوع، والفساد الإداري منتشرٌ، والناس تحاول سبر غور حياتها بأقلّ قدرٍ ممكن من التنازل عن قيمها وكرامتها.

هذا هو حال سلمى (سُلاف فواخرجي) التي نجت من الزلزال قبل سنوات وأنقذت حياة بعض أفراد عائلتها وعائلة شقيقتها وتعيش مع والد زوجها أبو ناصيف (عبد اللطيف عبد الحميد الذي رحل بعد الانتهاء من تصوير الفيلم). أما زوجها ناصيف فما زال سجيناً بتهمٍ سياسية.

هذه انتقادات لا تمرّ مخفّفة ولا ينتهي الفيلم بابتسامات رِضى وخطب عصماء. قيمة ذلك هي أن المخرج اختار معالجة مجمل أوضاعٍ تصبّ كلها في، كيف يعيش الناس من الطبقة الدنيا في أسرٍ واقعٍ تفرضه عليها طبقة أعلى. وكما الحال في معظم أفلام سعيد، يحمل هذا الفيلم شخصيات عدة يجول بينها بسهولة. سلمى تبقى المحور فهي امرأة عاملة ومحرومة من زوجها وعندما تشتكي أن المدرسة التي تُعلّم فيها بعيدة يجد لها زميل عملاً في منزل رجل من الأعيان ذوي النفوذ اسمه أبو عامر (باسم ياخور) مدرّسة لابنته. لاحقاً سيطلب هذا منها أن تظهر في فيديو ترويجي لأخيه المرّشح لانتخابات مجلس الشعب. سترفض وعليه ستزداد حدّة الأحداث الواردة مع نفحة نقدية لم تظهر بهذه الحدّة والإجادة في أي فيلمٍ أخرجه سعيد.

«سلمى» هو نشيدٌ لامرأة وعزفٌ حزين لوضع بلد. النبرة المستخدمة تراجي - كوميدية. التمثيل ناضج من الجميع، خصوصاً من فواخرجي وياخور. وكعادته يعني المخرج كثيراً بتأطير مشاهده وبالتصوير عموماً. كاميرا يحيى عز الدين بارعة في نقلاتها وكل ذلك يكتمل بتصاميم إنتاج وديكورٍ يُثري الفيلم من مطلعه حتى لقطاته الأخيرة. هذا أنضج فيلم حققه سعيد لليوم، وأكثر أفلامه طموحاً في تصوير الواقع والبيئة وحال البلد. ثمة ثغرات (بعض المشاهد ممطوطة لحساب شخصيات ثانوية تتكرّر أكثر مما ينبغي) لكنها ثغراتٌ محدودة التأثير.

لقطة من «غلادياتير 2» (باراماونت بيكتشرز)

Gladiator II

(جيد)

ريدلي سكوت: العودة إلى الحلبة

السبب الوحيد لعودة المخرج ريدلي سكوت إلى صراع العبيد ضد الرومان هو أن «غلاديايتر» الأول (سنة 2000) حقّق نجاحاً نقدياً وتجارياً و5 أوسكارات (بينها أفضل فيلم). الرغبة في تكرار النجاح ليس عيباً. الجميع يفعل ذلك، لكن المشكلة هنا هي أن السيناريو على زخم أحداثه لا يحمل التبرير الفعلي لما نراه وإخراج سكوت، على مكانته التنفيذية، يسرد الأحداث بلا غموض أو مفاجآت.

الواقع هو أن سكوت شهِد إخفاقات تجارية متعدّدة في السنوات العشر الماضية، لا على صعيد أفلام تاريخية فقط، بل في أفلام خيال علمي (مثل Alien ‪:‬ Covenant في 2017)، ودرامية (All the Money in the World في العام نفسه) وتاريخية (The Last Duel في 2021)؛ آخر تلك الإخفاقات كان «نابليون» (2023) الذي تعثّر على حسناته.

يتقدم الفيلم الجديد لوشيوس (بول ميسكال) الذي يقود الدفاع عن القلعة حيث تحصّن ضد الجيش الروماني بقيادة الجنرال ماركوس (بيدرو باسكال). لوشيوس هو الأحق بحكم الإمبراطورية الرومانية كونه ابن ماكسيموس (الذي أدّى دوره راسل كراو في الفيلم السابق)، وهو ابن سلالة حكمت سابقاً. يُؤسر لوشيوس ويُساق عبداً ليدافع عن حياته في ملاعب القتال الرومانية. يفعل ذلك ويفوز بثقة سيّده مكرينوس (دنزل واشنطن) الذي لديه خطط لاستخدام لوشيوس ومهارته القتالية لقلب نظام الحكم الذي يتولاه شقيقان ضعيفان وفاسدان.

هذا كلّه يرد في الساعة الأولى من أصل ساعتين ونصف الساعة، تزدحم بالشخصيات وبالمواقف البطولية والخادعة، خصوصاً، بالمعارك الكبيرة التي يستثمر فيها المخرج خبرته على أفضل وجه.

فيلم ريدلي سكوت الجديد لا يصل إلى كل ما حقّقه «غلاديايتر» الأول درامياً. هناك تساؤل يتسلّل في مشاهِد دون أخرى فيما إذا كان هناك سبب وجيه لهذا الفيلم. «غلاديايتر» السابق كان مفاجئاً. جسّد موضوعاً لافتاً ومثيراً. أفلام سكوت التاريخية الأخرى (مثل «مملكة السماء» و«روبِن هود») حملت ذلك السبب في مضامينها ومفاداتها المتعددة.

لكن قبضة المخرج مشدودة هنا طوال الوقت. مشاهدُ القتال رائعة، والدرامية متمكّنة من أداءات ممثليها (كوني نيلسن وبيدرو باسكال تحديداً). في ذلك، سكوت ما زال الوريث الشّرعي لسينما الملاحم التاريخية التي تمزج التاريخ بالخيال وكلاهما بسمات الإنتاجات الكبيرة.

عروض تجارية.