وَالنّخْل عند الماء يقتلها الظمأ.. «بيشة» مثالاً

المياه مشكلة كبيرة تتفاقم في بلد صحراوي مثل السعودية

سيل وادي بيشة
سيل وادي بيشة
TT

وَالنّخْل عند الماء يقتلها الظمأ.. «بيشة» مثالاً

سيل وادي بيشة
سيل وادي بيشة

مفارقة محزنة، أن تقف على سدّ بيشة العملاق، أكبر السدود في شبه الجزيرة العربية، منبهرًا برؤيته، وبمنظر الجبال الشاهقة من حوله، وبتاريخ واديه وما يقوله البلدانيون والجغرافيون عن دروب القوافل العابرة والطرق المارة به، ومتذكرًا وصف أمير البيان، شكيب أرسلان، وادي بيشة البالغ طوله ما يزيد على نحو 250 كيلومترًا بأنه يمكن أن يكون سلة غذاء السعوديين، أو هكذا وصفه للملك عبد العزيز في أوائل الثلاثينات الميلادية من القرن الماضي، في حين ترى الآن على بُعد أمتار من السدّ الأشجار ونخيل الأهالي وهي تموت واقفة، عطشى، لم تذق طعم الماء منذ سنوات، تذكّر حالها بوصف القرآن الكريم «أعجاز نخل خاوية».
سد الملك فهد (30 كم جنوب بيشة) في عمق الصحراء، الذي دُشّن عام 1998، ولم يعُد ينال إنجازه من الذكر إلا قليلا، يبلغ ارتفاعه 103 أمتار، وتصل طاقته التخزينية في حال الامتلاء لنحو 325 مليون متر مكعب من الماء، مكوّنًا وراءه بحيرة تمتدّ خمسة وعشرين كيلومترًا، وهو الآن من آثار أمطار السنين القليلة الماضية يمتلئ ثلثه بارتفاع ثلاثين مترًا، يشكّل من ورائه بحيرة تمتد نحو تسعة كيلومترات.
قلت لمضيف الرحلة وكيل جامعة بيشة: لكن هذه النخل تموت وهي على بُعد أمتار عنه، فهلا عملتم على إنقاذها بصرف جزء بسيط من المخزون لسقياها؟ فأجاب: «إنها المعادلة الصعبة، بين أن تحتفظ بالماء لسقيا السكان والحيوان أو لسقيا الزرع الذي يستهلك أضعاف أضعاف الإنسان»!
هناك من صار ينقم على السدود ويحمّلها مسؤولية حجب الطمي المفيد للزراعة والتدخّل في حصص المياه وقسمتها، والخشية من تبخّرها، ومن تلوّثها، وأصبح يعادي سياسة الإكثار من تشييدها، لكنها في حالة سدّ بيشة صارت تفيد بسقيا البيوت وتوفّر مصدرًا إضافيًا إلى جانب المياه المحلاة، خصوصًا بعدما تنزل الأمطار. وقد تسمع من يتّهم قواعد السد العميقة بمنع تسرّب المياه إلى الطبقات السطحية المجاورة، ومع هذا فالإنسان «البيشي» متفائل بأن الاخضرار سيعود إلى محافظته كما كان بمشيئة الله، ولم ينعكس الجفاف على مرحه وحركته وشعره الشعبي وتعليمه، وكرمه وضيافته، والأهم من كل هذا على تمسّكه بالأرض والبقاء فيها والاستثمار التجاري النشط فيها، وعلى إقباله على الحياة، والتغنّي بموطنه والتفاخر به.
ليست محافظة بيشة وحدها بهذا المشهد المحزن بين المناطق الداخلية في المملكة العربية السعودية، باستثناء واحات مثل الخرج والقصيم والجوف، لكن بيشة ذات ربع المليون من السكان في الحقيقة هي المثال الأوقع، لأنها تقع على ما يسمّى جيولوجيًّا «الدرع العربي»، حيث لا توجد فيه فرصة لحفريات أعمق، وبيشة كانت في تاريخها تكتفي من إنتاجها ذاتيًّا وقد يفيض محصولها من تمور «الصفري والسري والبرني» التي تفاخر بإنتاجها وتصديرها، لكن مشهد التصحّر والجفاف يتكرّر في واحات وسط الجزيرة التي اشتهرت عبر التاريخ بنخيلها وزرعها، في القصيم على وادي الرمة، وفي الأحساء حيث كانت العيون الحالية ثم جفّت وانقطعت، وفي المدينة المنورة، وفي خَيْبَر، وفي غيرها.
المياه مشكلة كبيرة تتفاقم في بلد صحراوي مثل المملكة العربية السعودية تعوّد على الرخاء، وإعانات الحكومة، ونموّ سكانه والوافدين عليه في ازدياد، وما لم تُتخذ خطوات لترشيد الاستهلاك، وللبحث عن مصادر كافية، وحلول آمنة، فإن البلاد ستكون أمام أزمة خطيرة مقبلة. ولعل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة مؤخّرًا بوقف زراعة أنواع من الحبوب وبرفع قيمة فاتورة الاستهلاك، تكون خطوة عملية في هذا الاتجاه، يرافقها تبصير المواطن والمقيم بحقيقة الوضع وأبعاده في المستقبل، فالمعروف أن زراعة الأعلاف والقمح تستهلك أربعة أضعاف ما تستهلكه المدن للري السكني، البشري والحيواني.
يعتقد كثيرون أن الماء أغلى من النفط، وإذا كانت الدول الأوروبية تشتكي - كما نقرأ - شحّ المياه، وأن دول حوض النيل تدافع عن حصصها من جريانه، فماذا تقول دول مثل المملكة العربية السعودية وليبيا، اللتين صارتا تعيشان في معظم استهلاكهما على الآبار العميقة وعلى تحلية مياه البحر المالحة ذات التكلفة العالية والمخاطر المرتفعة؟ فليحمد أهل الأنهار ربهم، وليشكروه على ما أعطاهم.
* كاتب سعودي



«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد
TT

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان. وصدر الكتاب حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «آفاق عالمية» بالقاهرة.

يقول الشاعر، في كلمته التي كتبها خصوصاً بمناسبة صدور هذه الترجمة العربية الأولى لقصائده، إن «هذا الحدث المبهج» أعاد إلى ذاكرته تلك الأيام التي تعرف فيها للمرة الأولى إلى الشعراء العرب فصار أسيراً لسحرهم ومغامراتهم الشعرية مثل امرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي... وغيرهم.

ويذكر أفضال أن لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتّاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين وخاصة الأسماء المشهورة مثل أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وفدوى طوقان، فضلاً عن الروائيين نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف زيدان.

وأشار إلى أنه حين كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت في الفترة من سنة 1974 إلى 1976، أتيحت له فرصة ثمينة للتعرف المباشر إلى الثقافة العربية التي وصفها بـ«العظيمة»، وهو ما تعزز حين سافر إلى مصر مرتين فأقام بالقاهرة والإسكندرية والسويس ودمياط، حيث لا يمكن له أن ينسى مشهداً ساحراً وهو التقاء النيل بالبحر المتوسط في منطقة اللسان بمدينة رأس البر التابعة لدمياط. وضمن سياق القصيدة التي تحمل عنوان الكتاب يقول الشاعر في مستهل مختاراته:

«اخترع المغاربة الورق

الفينيقيون الحروف

واخترعت أنا الشعر

اخترع الحب القلب

صنع القلب الخيمة والمراكب

وطوى أقاصي البقاع

بعت أنا الشعر كله

واشتريت النار

وأحرقت يد القهر».

وفي قصيدة بعنوان «الهبوط من تل الزعتر»، يرسم الشاعر صورة مثيرة للحزن والشجن لذاتٍ مُمزّقة تعاني الفقد وانعدام الجذور قائلاً:

«أنا قطعة الغيم

المربوطة بحجر

والملقاة للغرق

ليس لي قبر عائلي

من أسرة مرتزقة

عادتها الموت

بعيداً عن الوطن».

ويصف تجليات الحرب مع الذات والآخرين في نص آخر بعنوان «لم يتم منحي حياة بكل هذه الوفرة»، قائلاً:

«وصلتني أنهاري عبر صفوف الأعداء

فشربت دائماً بقايا حثالات الآخرين

اضطررت إلى التخلي عن موسم فارغ للأمطار

من ترك وصية لي

لأعرف ما إذا كان

هو نفسه الذي كانت تحمله امرأة بين ذراعيها وهي تتوسل إلى الخيالة

والتي بقيت طوال حياتها

تحاول حماية وجهها

من البخار المتصاعد من خياشيم الخيل

لا أعرف ما إذا كان

هو نفسه

الذي ربطته أمه في المهد».

وتتجلى أجواء السجن، نفسياً ومادياً، والتوق إلى الحرية بمعناها الإنساني الشامل في قصيدة «إن استطاع أحد أن يتذكرني»؛ حيث يقول الشاعر:

«حل الشتاء

صدر مجدداً الإعلان

عن صرف بطاطين صوف للمساجين

تغير طول الليالي

وعرضها ووزنها

لكنّ ثمة حُلماً يراودني كل ليلة

أنه يتم ضبطي وأنا أهرب من بين القضبان

أثناء تغير الفصول

في الوقت الذي لا يمكن أسره بمقياس

أقرأ أنا قصيدة».

وأفضال أحمد سيد شاعر ومترجم باكستاني معاصر، ولد في 26 سبتمبر (أيلول) 1946 في غازي بور التابعة لمقاطعة أتربرديش بالهند، قبل تقسيم الهند وباكستان وبنغلاديش؛ حيث بدأ فيها أيضاً حياته المهنية بالعمل في وزارة الزراعة الائتلافية هناك وعند تقسيم باكستان وبنغلاديش 1971، انتقل مع أسرته إلى مدينة كراتشي الباكستانية.

بدأ أفضال كتابة الشعر 1976 وأصدر 5 مجموعات شعرية هي «تاريخ منتحل» 1984، «خيمة سوداء» 1986، «الإعدام في لغتين» 1990، «الروكوكو وعوالم أخرى» 2000، ثم أصدرها مجمعة باعتبارها أعماله الشعرية الكاملة 2009 بعنوان «منجم الطين»، كما أصدر في مطلع 2020 كتاباً يضم قصائده الأولى في الغزل.

وتمثل أغلب قصائده طفرة نوعية في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش إلى حد كبير لحساب فن الغزل بمفهومه الفارسي والأردي التقليدي الذي ما زال مهيمناً بقوة في شبه القارة الهندية.

ترجم أفضال أعمالاً عن الإنجليزية والفارسية وهو من أوائل من ترجموا لغابرييل غارثيا ماركيز وجان جينيه، كما أصدر في مطلع 2020 ترجمته لمختارات من الشعر الفارسي.

درس أفضال أحمد سيد ماجستير في علم الحشرات بالجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1974 و1976، وذلك في بعثة علمية من الحكومة الائتلافية الباكستانية، فشهد الحرب الأهلية اللبنانية في أثناء إقامته هناك.

يعمل حالياً أستاذاً مساعداً في جامعة حبيب بكراتشي، وهو متزوج من الشاعرة الباكستانية البارزة تنوير أنجم.