«إعصار من الشرق» عنوان كتاب صدر في منتصف القرن الماضي للدكتور ثروت عكاشة الذي كان وزيرا للثقافة في مصر خلال عصر الرئيس جمال عبد الناصر. والإعصار الذي يعنيه هو جنكيز خان، الفاتح المغولي الذي دانت له أغلب آسيا، في أواخر القرون الوسطى، بالطاعة والخضوع.
واليوم يصدر كتاب عنوانه «جنكيز خان: الرجل الذي غزا العالم» من تأليف فرنك ماكلين (الناشر: «بودلي هيد») في 648 صفحة يستعرض حياة هذا الرجل ويعيد تقييمه.
Frank Melunn، Genghis Khan: The Man who Conquered the World، Bodley Head، pp.648.
كان جنكيز خان، على حد تعبير شون ماجلين، «أصلب الرجال طرا»؛ فمن قلب بيئة قاسية، وخلفية لا تنبئ بخير، اكتسب تيمو جين (وهو اسم جنكيز خان عند ولادته) إرادته الحديدة وطموحه الذي لا يعرف حدا. لقد بنى إمبراطورية امتدت من كوريا والصين مرورا بأفغانستان وفارس والعراق، حتى وصل في نهاية المطاف إلى المجر وروسيا، وبذلك كانت أكبر إمبراطورية - من حيث الحجم - عرفها التاريخ. لقد كانت حياته ملحمة غير عادية.
ففي صباه وشبابه عاش بين مراع الاسبتس الجديبة في منغوليا، حيث درجات الحرارة يمكن أن تتراوح بين مائة درجة فهرنهايت صيفا، وثلاث وأربعين درجة فهرنهايت تحت الصفر شتاء، وحيث يمكن للمرء أن يتعرض - في لحظة واحدة –للرياح الآتية من سيبيريا وللعواصف الصحراوية الآتية من صحراء جوبي، وهو ما صوره في توم كوب في كتابه الصادر عام 2011 تحت عنوان «في أثر جنكيز خان».
في هذه البقعة التي تنجب رجالا ذوي صلابة، كان جنكيز خان أصلبهم طرا. لقد ولد في عام 1162م، حسب ما يقول هذا الكتاب الجديد (ثمة كتب سابقة تحدد تاريخ ميلاده بين 1155 و1167). وقبل أن يبلغ الرابعة عشرة، كان قد قتل أخا له غير شقيق، لأنهما تنازعا على سمكة، وعاد بجياد أسرته التي كانت قبيلة أخرى قد أغارت عليها وسرقتها. تزوج في سن السادسة عشرة. وعندما اختطفت قبيلة أخرى زوجته واعتدت عليها، حشد جيشا كبيرا لإنقاذها. وفي عام 1206 نجا من سهم مسموم أصابه في عنقه. وكافأته العشائر المنغولية على غارة قام بها، بأن منحته لقب «جنكيز خان»، أي «حاكم الكون»، ولكن كان ينتظره ما هو أجل وأخطر.
لقد أصلح نظام الجيش - أداته في الفتح - وقسمه حسب النظام المنشوري إلى فرق يتراوح عدد الفرقة منها بين مائة محارب وعشرة آلاف محارب. وأباح لهم، لقاء مجهوداتهم، نهب مدن الأعداء وممتلكاتهم. وأحاط نفسه بحرس إمبراطوري من عشرة آلاف محارب. وعين أبناء قادة جيشه ضباطا كي يضمن ولاء آبائهم. وأطلق هذا الجيش العرمرم (أكثر من مائة ألف جندي) كالجراد في أنحاء آسيا.
إن فرنك ماكلين يسمي جنكيز خان «الرجل الذي غزا العالم»، ولكنه كان يمكن أن يضيف: «وقتل نصف العالم». لقد أخضع (وفيما بعد أفنى تقريبا) قبائل شمال غربي الصين، قبل أن يغزو إمبراطوريتها عام 1211.. «لقد كان على الإمبراطورية المغولية – مثل سمكة قرش - أن تظل في حركة مستمرة إلى الأمام». وبمجيء عام 1213 كان قد وصل إلى بكين. كان محاربوه فرسانا يتميزون بالضراوة ويجتاحون بخيولهم مراعي الاستبس. وحين أبدت بكين، بدفاعاتها القوية، مقاومة شديدة لحصاره، فرض جنكيز خان عليها مجاعة وحرمانا من الطعام اضطرت معه إلى الاستسلام في عام 1215. وتلا ذلك نهب جنوده المدينة على نحو كان من أكثر الخبرات المروعة في تاريخ الصين.
ومن الصين تحركت جيوشه غربا مستهدفة فارس في عام 1219. وارتكب إمبراطورها حماقة لم يدرك خطورة عواقبها إلا بعد فوات الأوان، وذلك عندما حلق لحيتي اثنين من سفراء جنكيز خان، وقتل الثالث، تحديا للمغولي وإظهارا لاستهانته به. وما لبثت سمرقند؛ المدينة الزاهرة على طريق الحرير القديم، أن سقطت في يد جنكيز خان عام 1220 رغم أن المدافعين عنها كانوا يملكون سلاحا قويا يتمثل في أربعة وعشرين فيلا مدربا على القتال.
ثم جاء ما هو أسوأ في عام 1221؛ فبينما كانت باقي جيوش جنكيز خان مشغولة في الشرق بتهديد تبليسي وجورجيا وترويع العالم المسيحي، استولى طولي (أحد أبناء جنكيز خان ومن أكثرهم دموية) على مدينة ميرف (وهي الآن جزء من تركمانستان) وكانت من أكبر مدن العالم آنذاك، ووعد طولي سكانها بالأمان، فألقوا السلاح وخرجوا من وراء جدران مدينتهم رافعين راية الاستسلام. واستعرضهم طولي بناظريه، جالسا على كرسي ذهبي، ثم أصدر أوامره بأن يعدموا إعداما جماعيا. استغرقت هذه المجزرة أربعة أيام بلياليها.. هكذا لم يختلف أبناء جنكيز خان كثيرا عن أبيهم.
كان الرعب - واليقين من أنه قادم - من أكبر الأسلحة النفسية في ترسانة جنكيز خان. وكان يعلق - كي يرى الجميع - جثث النساء مقطوعي الرؤوس، والأطفال، بل حتى القطط والكلاب. ويحرص فرنك ماكلين على ألا يبالغ في عدد ضحايا جنكيز خان، ولكنه يقدر عددهم بنحو سبعة وثلاثين مليونا ونصف المليون قتيل. لقد كان يمارس إبادة عنصرية على أعدائه على نحو غير مسبوق. ولكنه في هذا لم يكن يختلف - إلا من حيث الدرجة - عن غيره من الغزاة في عصره.
ختم جنكيز خان حياته الملطخة بالدماء بقمع ثورة شبت ضده عام 1226. توفي في العام التالي «عليه لعنة الله»، على حد تعبير خصومه.
من الأسئلة التي تثيرها سيرة جنكيز خان، هذا السؤال الذي طرحته لوسي هيوز - هاليت: «ما الذي نستطيع أن نتعلمه من هذا الرجل المخيف؟ لم يترك المغول وراءهم أبنية رائعة ولا مصنوعات فنية. كانت عبقريتهم في مجال القتل. كانوا قادرين على أن يملأوا السماء بسحابة من السهام وهم يركضون بخيولهم بأقصى سرعة، ناخسين إياها بسيقانهم، وهي مهارة مكنتهم من غزو أماكن كثيرة من العالم. ولكن الأثر الوحيد الذي خلفوه كان مدنا مخربة ومكتبات محروقة وأهرامات من الجماجم». ومع ذلك، يرى ماكلين أن جنكيز خان كان مبتكرا لامعا في مجال السياسة. لم يكن الرمي بالسهام والفروسية - رغم كل ما يمكن أن يقال عن فاعليتهما - قادرين على بناء إمبراطورية. وإنما بناها حين أعاد بناء منغوليا وحّول مجتمعها الذي كان مكونا من عشائر متجولة محاربة، إلى حربية موحدة منظمة. وينتهي ماكلين إلى أن جنكيز خان كان في آن واحد «قزما أخلاقيا»، بمعنى افتقاره إلى الأخلاق النبيلة و«أعظم غاز في كل العصور».
جنكيز خان.. صفحة دامية من التاريخ
كتاب جديد يعيد تقييمه
جنكيز خان.. صفحة دامية من التاريخ
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة