بدأ تطور النظام الاقتصادي الدولي منذ القرن الخامس عشر من خلال توسيع حركة التجارة الدولية التي ارتبطت بعصور الاستكشافات الجغرافية وما سبقها من تجارة واسعة للمدن الإيطالية مع الشرق.
أدى التوسع التجاري المعروف بـ«الثورة التجارية» إلى الكثير من المتغيرات على المستوى الأوروبي ما سمح بتدشين نظم اقتصادية جديدة في دول القارة، خاصة بعد التراكم الواسع لرأس المال المتولد عن حركة الاستعمار والتجارة الدولية. وهذا ما أدى لإخراج أوروبا من أنماط الإنتاج الاقتصادي المرتبط بنظم الإقطاع إلى نظام رأسمالي تدريجي بدأت بذوره تظهر على مستوى الدولة. وبالتالي، تخلت أوروبا عن «نظام الورش» وبدأت تدشن نظام المصانع المصغرة خاصة في مجالات الغزل والنسيج. وتبع ذلك بطبيعة الحال بداية ظهور البنوك والمصارف الوطنية وما تبعها من تدشين العملات المحلية لكل دولة لتيسير التبادل التجاري وغيره من المعاملات المالية والاقتصادية، ما بدأت تظهر مفاهيم جديدة مثل شركات المساهمة. كذلك أخذت أوروبا تشهد تغيرًا اجتماعيًا واسعًا بظهور طبقة رأس المال الجديدة التي بدأت تزيح تدريجيًا الطبقة الارستقراطية وتأخذ تدريجيًا الأغلبية من سلطاتها.
لقد كان من الطبيعي أن تشهد أوروبا متغيرات كثيرة بسبب هذا التراكم الهائل من رأس المال، وهو ما ارتبط في ذلك الوقت ببزوغ الدولة الوطنية الأوروبية في بعض أنحاء القارة. وكان من الطبيعي أن يتلازم مع هذا التغير الشديد ظهور الكثير من المفكرين الأوروبيين الذين دعوا بقوة لمركزية الدولة وتقوية سلطات الملك الحاكم على حساب أي مؤسسات أو طبقات أخرى فيما عرف «بعصر السلطة المطلقة الـAge of Absolutism». وكان من الطبيعي أيضًا أن ينعكس ذلك بشكل كبير على مفهوم التطور الاقتصادي خلال القرنين السابع والثامن عشر، فبدأت أوروبا تطبق النظرية «الميركانتيلية Mercantilism»، وهي المعادلة للسلطة المطلقة السياسية للملك ولكن في هذه الحالة فهي السلطة الاقتصادية المطلقة للدولة. والمقصود بالميركانتيلية النظام الحمائي يكرس التدخل الحكومي لدفع رفاهية الدولة وتقويتها مقابل الدول الأخرى بهدف الحفاظ على ثروات الدول بداخلها وبناء القوة العسكرية من أجل الحفاظ على ذلك، فكل الأنشطة التجارية والاقتصادية كانت منصبة على الدولة ذاتها خارج النطاق المعروف اليوم بحرية حركة التجارة ورأس المال، فهذه العناصر كانت مرفوضة شكلاً وتطبيقًا.
كانت قوة الدولة تقاس في هذين القرنين بما تملكه من رأس مال بداخلها، وبدأ هذا النظام في إسبانيا بعد التوسع في استعمار أميركا اللاتينية ثم تبعتها الدول الأخرى. وقد دعت هذه النظرية التي يطلق عليها بعض المفكرين «بالقومية الاقتصادية» إلى فرض جمارك عالية للغاية على كل السلع التي تدخل أراضيها أو مستعمراتها من الدول الأخرى بهدف وقف نزيف المال لصالح الدولة المُصدرة. وكانت النظرية السائدة تدعو لأن تكون كل دولة قادرة على إنتاج كل احتياجاتها من دون الحاجة للتجارة أو التصنيع في الدول الأخرى، وهو ما يتناقض تمامًا مع نظرية الاعتماد المتبادل التي يُبنى عليه النظام الاقتصادي الدولي اليوم. فلقد منعت الدولة الأم الدول الأخرى من التجارة مع مستعمراتها، كما أن هذه المستعمرات لم يكن مُصرحًا لها بتصدير منتجاتها الخام إلى دول أخرى إلا بعد دفع ضريبة عالية. وكان من المفترض أن تُوجه كل المواد الخام من المستعمرات إلى الدولة الأم من أجل تطويرها وتصنيعها وإعادة بيعها للمستعمرات كسلع مصنعة أو لدول أخرى في حالة ما إذا استطاعت التغلب على الجمارك والتعريفات العالية.
وهكذا استطاعت الدول الأوروبية أن تحافظ على ثرواتها أو تزيد منها على أحسن الفروض، وجاء ذلك بطبيعة الحال على حساب التجارة الدولية والتي أصبحت محكومة بهذا النظام الاقتصادي المقيد الذي لا مفر منه. واستمرت الدول في تطبيق أنظمة صلبة لزيادة الدخل من خلال السيطرة على الأنشطة الاقتصادية ومُدخلاتها عبر تنظيم العمالة وساعات العمل والتسعير الداخلي وغيرها من الأنشطة. وتواكب مع تطبيق هذه النظرية أمران هامان للغاية: الأول كان تطبيق الإمبريالية بشكل منظم من قبل الدول الأوروبية، والثاني كان بناء الجيوش بشكل قوي ومنظم وتسليحها بشكل حديث يساعد على فاعليتها العسكرية، ومن ثم أهمية بناء الأساطيل القوية، وكانت إنجلترا وفرنسا في طليعة الدول الأوروبية التي اهتمت بتطوير البحرية بعد إسبانيا لأهداف إمبريالية بحتة.
لقد كانت إنجلترا في طليعة الدول التي طبقت الميركانتيلية بشكلها البدائي في عهد الملكة إليزابيث الأولى، خاصة بعد تطبيق «قانون الملاحة» الذي حظر نقل التجارة إلا من خلال السفن الإنجليزية، كما فرض رسومًا جمركية على أي سلعة واردة من مستوطنات إنجلترا يجري تصديرها إلى الدول الأخرى خاصة بالنسبة للتبغ والسكر.
أما فرنسا فقد طبقت هذه النظرية بشكل أكثر استفاضة، ولكن في عصر لويس الرابع عشر، أحد أقوى الشخصيات التي حكمت فرنسا على الإطلاق. وقد التزم الملك بسياسات رئيس وزرائه كولبير الذي فرض نموذجًا صارمًا لاقتصاديات الدولة، حيث منع الواردات تشجيعًا للصناعات المحلية، كما منع خروج العملة الفرنسية لضمان بقاء رأس المال في البلاد. كذلك حظر التجارة لبلاده إلا على السفن الفرنسية. وقد ركز كل هذا الجهد من أجل بناء جيش وأسطول قوى يستطيع من خلاله المنافسة على إقامة المستعمرات فتوسّعت فرنسا في أميركا الشمالية وحول الهند وفي «لويزيانا» وبعض المراكز الأخرى فيما هو معروف اليوم بالولايات المتحدة.
ولقد كفلت سياسة الميركانتيلية للدول الأوروبية، خاصة الإمبريالية منها، قدرات هائلة سمحت لها بالتفوق على ما دون سواها من الدول، وخضعت المستعمرات لأحكام سياسات من الذل والهوان وظلت ترزح تحت وطأة هذه السياسات الظالمة وباتت مصدرًا للمواد الخام وسوقًا للمنتجات الصناعية فكُتب عليها التخلف الاقتصادي والصناعي. وكان من الطبيعي أن تبدأ من هنا حركة الفصل بين العالم الشمالي والجنوبي، ولكن أخطر ما أسفرت عنه هذه السياسات الحمائية الموجهة نحو تركيز قوة الدولة كان بزوغ طبقات من رجال الأعمال والتجار في أوروبا تملك من الثروات الهائلة والدولة المركزية تحميها وتدفع دفعًا نحو تطوير قدراتها لزيادة التنافسية على المستوى الدولي. وهذا، ما أدى في النهاية إلى بزوغ عامل مهم للغاية أدى إلى متغيرات واسعة النطاق في النظام التجاري والاقتصادي الدولي وهو الثورة الصناعية الأولى التي أعقبتها الثورة الصناعية الثانية، التي غيرت مجرى النظام الدولي برمته وأدخلت العالم في معادلة جديدة تمامًا سواء من حيث وسائل الإنتاج أو التسويق كما سنرى.
من التاريخ: «الميركانتيلية» والنظام الاقتصادي الدولي

من التاريخ: «الميركانتيلية» والنظام الاقتصادي الدولي

لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة