من التاريخ: «الميركانتيلية» والنظام الاقتصادي الدولي

من التاريخ: «الميركانتيلية» والنظام الاقتصادي الدولي
TT
20

من التاريخ: «الميركانتيلية» والنظام الاقتصادي الدولي

من التاريخ: «الميركانتيلية» والنظام الاقتصادي الدولي

بدأ تطور النظام الاقتصادي الدولي منذ القرن الخامس عشر من خلال توسيع حركة التجارة الدولية التي ارتبطت بعصور الاستكشافات الجغرافية وما سبقها من تجارة واسعة للمدن الإيطالية مع الشرق.
أدى التوسع التجاري المعروف بـ«الثورة التجارية» إلى الكثير من المتغيرات على المستوى الأوروبي ما سمح بتدشين نظم اقتصادية جديدة في دول القارة، خاصة بعد التراكم الواسع لرأس المال المتولد عن حركة الاستعمار والتجارة الدولية. وهذا ما أدى لإخراج أوروبا من أنماط الإنتاج الاقتصادي المرتبط بنظم الإقطاع إلى نظام رأسمالي تدريجي بدأت بذوره تظهر على مستوى الدولة. وبالتالي، تخلت أوروبا عن «نظام الورش» وبدأت تدشن نظام المصانع المصغرة خاصة في مجالات الغزل والنسيج. وتبع ذلك بطبيعة الحال بداية ظهور البنوك والمصارف الوطنية وما تبعها من تدشين العملات المحلية لكل دولة لتيسير التبادل التجاري وغيره من المعاملات المالية والاقتصادية، ما بدأت تظهر مفاهيم جديدة مثل شركات المساهمة. كذلك أخذت أوروبا تشهد تغيرًا اجتماعيًا واسعًا بظهور طبقة رأس المال الجديدة التي بدأت تزيح تدريجيًا الطبقة الارستقراطية وتأخذ تدريجيًا الأغلبية من سلطاتها.
لقد كان من الطبيعي أن تشهد أوروبا متغيرات كثيرة بسبب هذا التراكم الهائل من رأس المال، وهو ما ارتبط في ذلك الوقت ببزوغ الدولة الوطنية الأوروبية في بعض أنحاء القارة. وكان من الطبيعي أن يتلازم مع هذا التغير الشديد ظهور الكثير من المفكرين الأوروبيين الذين دعوا بقوة لمركزية الدولة وتقوية سلطات الملك الحاكم على حساب أي مؤسسات أو طبقات أخرى فيما عرف «بعصر السلطة المطلقة الـAge of Absolutism». وكان من الطبيعي أيضًا أن ينعكس ذلك بشكل كبير على مفهوم التطور الاقتصادي خلال القرنين السابع والثامن عشر، فبدأت أوروبا تطبق النظرية «الميركانتيلية Mercantilism»، وهي المعادلة للسلطة المطلقة السياسية للملك ولكن في هذه الحالة فهي السلطة الاقتصادية المطلقة للدولة. والمقصود بالميركانتيلية النظام الحمائي يكرس التدخل الحكومي لدفع رفاهية الدولة وتقويتها مقابل الدول الأخرى بهدف الحفاظ على ثروات الدول بداخلها وبناء القوة العسكرية من أجل الحفاظ على ذلك، فكل الأنشطة التجارية والاقتصادية كانت منصبة على الدولة ذاتها خارج النطاق المعروف اليوم بحرية حركة التجارة ورأس المال، فهذه العناصر كانت مرفوضة شكلاً وتطبيقًا.
كانت قوة الدولة تقاس في هذين القرنين بما تملكه من رأس مال بداخلها، وبدأ هذا النظام في إسبانيا بعد التوسع في استعمار أميركا اللاتينية ثم تبعتها الدول الأخرى. وقد دعت هذه النظرية التي يطلق عليها بعض المفكرين «بالقومية الاقتصادية» إلى فرض جمارك عالية للغاية على كل السلع التي تدخل أراضيها أو مستعمراتها من الدول الأخرى بهدف وقف نزيف المال لصالح الدولة المُصدرة. وكانت النظرية السائدة تدعو لأن تكون كل دولة قادرة على إنتاج كل احتياجاتها من دون الحاجة للتجارة أو التصنيع في الدول الأخرى، وهو ما يتناقض تمامًا مع نظرية الاعتماد المتبادل التي يُبنى عليه النظام الاقتصادي الدولي اليوم. فلقد منعت الدولة الأم الدول الأخرى من التجارة مع مستعمراتها، كما أن هذه المستعمرات لم يكن مُصرحًا لها بتصدير منتجاتها الخام إلى دول أخرى إلا بعد دفع ضريبة عالية. وكان من المفترض أن تُوجه كل المواد الخام من المستعمرات إلى الدولة الأم من أجل تطويرها وتصنيعها وإعادة بيعها للمستعمرات كسلع مصنعة أو لدول أخرى في حالة ما إذا استطاعت التغلب على الجمارك والتعريفات العالية.
وهكذا استطاعت الدول الأوروبية أن تحافظ على ثرواتها أو تزيد منها على أحسن الفروض، وجاء ذلك بطبيعة الحال على حساب التجارة الدولية والتي أصبحت محكومة بهذا النظام الاقتصادي المقيد الذي لا مفر منه. واستمرت الدول في تطبيق أنظمة صلبة لزيادة الدخل من خلال السيطرة على الأنشطة الاقتصادية ومُدخلاتها عبر تنظيم العمالة وساعات العمل والتسعير الداخلي وغيرها من الأنشطة. وتواكب مع تطبيق هذه النظرية أمران هامان للغاية: الأول كان تطبيق الإمبريالية بشكل منظم من قبل الدول الأوروبية، والثاني كان بناء الجيوش بشكل قوي ومنظم وتسليحها بشكل حديث يساعد على فاعليتها العسكرية، ومن ثم أهمية بناء الأساطيل القوية، وكانت إنجلترا وفرنسا في طليعة الدول الأوروبية التي اهتمت بتطوير البحرية بعد إسبانيا لأهداف إمبريالية بحتة.
لقد كانت إنجلترا في طليعة الدول التي طبقت الميركانتيلية بشكلها البدائي في عهد الملكة إليزابيث الأولى، خاصة بعد تطبيق «قانون الملاحة» الذي حظر نقل التجارة إلا من خلال السفن الإنجليزية، كما فرض رسومًا جمركية على أي سلعة واردة من مستوطنات إنجلترا يجري تصديرها إلى الدول الأخرى خاصة بالنسبة للتبغ والسكر.
أما فرنسا فقد طبقت هذه النظرية بشكل أكثر استفاضة، ولكن في عصر لويس الرابع عشر، أحد أقوى الشخصيات التي حكمت فرنسا على الإطلاق. وقد التزم الملك بسياسات رئيس وزرائه كولبير الذي فرض نموذجًا صارمًا لاقتصاديات الدولة، حيث منع الواردات تشجيعًا للصناعات المحلية، كما منع خروج العملة الفرنسية لضمان بقاء رأس المال في البلاد. كذلك حظر التجارة لبلاده إلا على السفن الفرنسية. وقد ركز كل هذا الجهد من أجل بناء جيش وأسطول قوى يستطيع من خلاله المنافسة على إقامة المستعمرات فتوسّعت فرنسا في أميركا الشمالية وحول الهند وفي «لويزيانا» وبعض المراكز الأخرى فيما هو معروف اليوم بالولايات المتحدة.
ولقد كفلت سياسة الميركانتيلية للدول الأوروبية، خاصة الإمبريالية منها، قدرات هائلة سمحت لها بالتفوق على ما دون سواها من الدول، وخضعت المستعمرات لأحكام سياسات من الذل والهوان وظلت ترزح تحت وطأة هذه السياسات الظالمة وباتت مصدرًا للمواد الخام وسوقًا للمنتجات الصناعية فكُتب عليها التخلف الاقتصادي والصناعي. وكان من الطبيعي أن تبدأ من هنا حركة الفصل بين العالم الشمالي والجنوبي، ولكن أخطر ما أسفرت عنه هذه السياسات الحمائية الموجهة نحو تركيز قوة الدولة كان بزوغ طبقات من رجال الأعمال والتجار في أوروبا تملك من الثروات الهائلة والدولة المركزية تحميها وتدفع دفعًا نحو تطوير قدراتها لزيادة التنافسية على المستوى الدولي. وهذا، ما أدى في النهاية إلى بزوغ عامل مهم للغاية أدى إلى متغيرات واسعة النطاق في النظام التجاري والاقتصادي الدولي وهو الثورة الصناعية الأولى التي أعقبتها الثورة الصناعية الثانية، التي غيرت مجرى النظام الدولي برمته وأدخلت العالم في معادلة جديدة تمامًا سواء من حيث وسائل الإنتاج أو التسويق كما سنرى.



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين