هانز كوكلر يحلل غطرسة الغرب بحثًا عن حوار حقيقي

فيلسوف يدافع عن القضايا العادلة في العالمين العربي والإسلامي

هانز كوكلر  -  غلاف {تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين}
هانز كوكلر - غلاف {تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين}
TT

هانز كوكلر يحلل غطرسة الغرب بحثًا عن حوار حقيقي

هانز كوكلر  -  غلاف {تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين}
هانز كوكلر - غلاف {تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين}

ليس غريبا أن ينخرط الفيلسوف في الدفاع عن قضايا الشعوب العادلة، كما أنه ليس غريبا أن يجعل الفيلسوف من أولوياته قضايا المجتمع ومحاربة العنف والظلم، على الرغم مما يمكن أن يواجه به من إقصاء وتنكيل جراء مواقفه تلك. فالفلسفة لم تكن غريبة عن واقعها، وليس الفيلسوف بذلك الكائن الذي يعيش في عوالمه المثالية بعيدا عن المجتمع وقضاياه. ولعل نظرة فاحصة لواقعنا المعاصر تجعلنا نستنتج أن المجتمع الذي كان يحلم به فلاسفة عصر الأنوار لم يتحقق بعد، وأن الحروب الحالية تجعلنا بعيدين جدا عن السلام الذي تحدث عنه كانط، خصوصا في العالم العربي الإسلامي الذي يتم العبث بقضاياه وبمصير شعوبه.
أستحضر اليوم مفكرا دافع عن القضايا العربية والإسلامية العادلة، وهو الفيلسوف النمساوي هانز كوكلر، أحد كبار أصدقاء المسلمين، من خلال كتابه «تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين»، من ترجمة الأستاذ حميد لشهب، الذي يحاول فيه تسليط الضوء على عجرفة الغرب وسياسة الكيل بمكيالين، والقوة والخداع، التي يغلفها بغلاف من الديمقراطية والعدل وحقوق الإنسان، وعمله على هدم الحضارة العربية الإسلامية ونسف الثقافة الإسلامية من الداخل. كما لا يفوت هانز كوكلر الإشارة إلى سبل خلق حوار حقيقي بعيدا عن التعصب والنظرة الفوقية لأي طرف إلى طرف آخر. فكيف يمارس الغرب سياساته المتصلبة تجاه العرب والمسلمين؟ وكيف يمكن إقامة حوار عربي غربي حقيقي من دون إملاءات من طرف على طرف آخر، حوار يخدم مصالح وشعوب المجتمعات الغربية والعربية على حد سواء؟
* الأمم المتحدة أداة في خدمة القوى العظمى
يؤكد هانس كوكلر على أن العالم سوف يعرف تحولا في موازين القوى التي تتحكم في القرار الدولي مع نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، ما سيؤدي إلى التحول من قطبية ثنائية بين كل من الاتحاد السوفياتي إلى قطبية أحادية مع الولايات المتحدة الأميركية. هذا الحدث سوف يعلن أن القرار الدولي لن يبقى توازنا بين قوتين اثنتين متعارضتين، وإنما سوف يصبح حكرا على دولة واحدة تحلل ما تشاء وتحرم ما تشاء، ليتغذى هذا الفكر من موقف فوكوياما المعلن عن نهاية التاريخ بنهاية النموذج الشيوعي، وأن النموذج الغربي الرأسمالي الديمقراطي هو النموذج المثالي الذي لا نموذج بعده، وأميركا هي زعيمته.
سوف يتأكد هذا الأمر بعد مدة قصيرة جدا، مع حرب الخليج سنة 1991، عندما سيعلن جورج بوش، صراحة، عن نظام عالمي جديد، قائلا: «حيث سيادة القانون، لا قانون الغاب، الذي يحكم سلوك الأمم»، وذلك لما سيقدم خطابا عاطفيا، برفع شعارات العدالة والإنصاف والحرية واحترام حقوق الإنسان كقاعدة لنظام عالمي جديد بين الشعوب، وهو نظام حماية الضعيف من القوي. وسوف تظهر، كذلك، نظرية الحرب العادلة في خدمة الديمقراطية والسلام. وستبرر ممارسة العنف وشن الحروب باسم ضمان السلم والديمقراطية. هكذا ستبعث من جديد المركزية الأوروبية بكل قوتها الاستبدادية. مركزية سوف تجعل من العالم العربي والإسلامي العدو الأول بعد نهاية العدو الذي كان، وهو الاتحاد السوفياتي. مركزية سوف تعمل على جعل منظمة الأمم المتحدة أداة للهيمنة، ووسيلة لخدمة مصالحها الخاصة وأهدافها الاستراتيجية ونياتها المبيتة.
* الديمقراطية كعنصر من عناصر إضفاء الشرعية
يعمل الغرب من خلال منظمة الأمم المتحدة على تقديم الدروس في الديمقراطية إلى الدول العربية والإسلامية، في حين أنه لا يقدم سوى ديمقراطية ممسوخة ومشوهة قائمة على معيار القوة، لأن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا في نظام متعدد الأقطاب، بإمكانه الحفاظ على الضوابط والتوازنات. وتظهر الأمور بوضوح أكبر في حق الفيتو الذي يجعل أميركا والقوى الكبرى المقرر الأول والأخير، حسب مصالحها الخاصة، خصوصا حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي. فكيف يمكن لمنظمة الأمم المتحدة الدفاع عن الديمقراطية وهي عاجزة عن تطبيقها في قراراتها وبين أروقتها؟
* حق التدخل العسكري والعقوبات
شنت الولايات المتحدة أكثر من حرب ضد العالم الإسلامي، تارة باسم القضاء على الاستبداد، كما حدث في ليبيا، وتارة أخرى لمحاربة أسلحة الدمار الشامل، كما حدث في العراق، أو بحجة القضاء على الجماعات الإرهابية. وجرى ذلك بمباركة من الأمم المتحدة أو دون مباركة منها. فمثلا، في حرب العراق سنة 2003 تبين أن مسألة أسلحة الدمار الشامل لم تكن إلا حجة لضرب العراق.
أما ما يخص العقوبات الاقتصادية، التي سلطت على كل من العراق وليبيا، فيوضح كوكلر أنها تتحدد من خلال الرشى والضغوط الاقتصادية، أكثر من أن تكون للأهداف المعلن عنها، إذ إنها تترك آثارا خطيرة على حياة السكان المدنيين. وهي قصف لا يختلف عن القصف المباشر. كما أنها لا تنسجم مع المعايير الأخلاقية، ومع الإنسان ككائن له حقوق وكرامة بالمعنى الكانطي للكلمة.
* حوار عربي غربي حقيقي
لا يمكن الحديث عن العلاقة بين العرب والمسلمين من دون الحديث عن الحروب المتبادلة التي سادت بينهما: التمدد الإسلامي، والحروب الصليبية، والاستعمار الإمبريالي، والفكر الجهادي، والقضية الفلسطينية. هكذا تبدو سبل الحوار مستحيلة، ما دام أن تاريخ هذه العلاقة هو تاريخ تطاحنات متبادلة. فالغرب لا يزال يخلط بين العمل العسكري العثماني وبين الإسلام كدين، وبالتالي رسالة الرسول. كما أن الدراسات حول الإسلام تقع في قبضة التبشير المسيحي الذي قدم صورة مغلوطة عن الإسلام، باعتباره خطرا على الهوية الأوروبية وعلى أمنها، إذ تمت تغذية هذا التصور من وسائل إعلام مضللة ومثقفين صقلوا صورة مشوهة عن الإسلام.
رغم كل هذا، يؤكد كوكلر على أن سبل الحوار تبقى دائما مفتوحة، فمشكلة القدس يمكن أن تقدم حلا لإمكانية تفاهم وعمل بين ثلاث ديانات هي اليهودية والمسيحية والإسلام، لكن شريطة عدم النظر إلى شريك أعلى وشريك أدنى، وسن سياسة عادلة تأخذ بعين الاعتبار حقوق المسلمين في هذه المنطقة. فالسياسة الغربية الحالية لن تؤدي إلا إلى رفض الأفكار والتمرد عليها، إذ يعمل الغرب على إعادة تربية العرب على إسلام صحيح، وهو الإسلام الأوروبي، كما اقترحه بسام تيبي، في حين أن الحوار بالمثل، بالمعنى الكانطي الذي يتأسس على الاحترام المتبادل، لا يمكن بواسطته قبول هذا الأمر، حوار كما حدده جورج كدامير، يتضمن مزيدا من التسامح كشرط للثقافة الخاصة أو الحضارة الخاصة، واعتبار الآخر بمثابة حظ من أجل فهم العالم بشكل جيد، ومعرفة الذات في مرآته، إذ لا يمكن فرض تصورات أخلاقية على الآخر من أجل إعادة قولبة هويته عن طريق العنف، ولا بد من الكف عن سياسة الكيل بمكيالين، في الميادين الحاسمة المتعلقة بالهوية، والمعاقبة الجماعية لشعوب الدول المسلمة.
يرى كوكلر في النهاية أنه خلف كل الشعارات التي ينادي بها الغرب تظهر الحقائق الأساسية التي على الفيلسوف كشفها، ومساءلة ممارسة سياسة القوة وآيديولوجيتها، ومدى مشروعية خدمتها لمصالحها، تحت ذريعة الدفاع عن مبادئ مثل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والحفاظ على السلم العالمي، فلا يجب على الفيلسوف الخضوع والانخراط في موقف الصمت، لا بد أن يوجه سلاحه الفكري نحو القضايا العادلة للشعوب.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.