لبنان: «التحالف المسيحي» يوقظ ذاكرة الحرب

قلّص الصراع على الزعامة بين «القوات» وعون.. وعمّق الخلاف بين جعجع وفرنجية

لبنان: «التحالف المسيحي» يوقظ ذاكرة الحرب
TT

لبنان: «التحالف المسيحي» يوقظ ذاكرة الحرب

لبنان: «التحالف المسيحي» يوقظ ذاكرة الحرب

أيقظت الخلافات على أسماء المرشحين للانتخابات الرئاسية في لبنان، أخيرًا، ذاكرة الحرب اللبنانية التي انتهت في العام 1990. وأيقظت معها الانقسامات المسيحية المعنية بالملف الرئاسي، وذلك على ضوء الخصومة بين رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع والمرشح الرئاسي النائب سليمان فرنجية، الذي يرفضه جعجع، ما دفع الأخير لترشيح رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون للانتخابات الرئاسية. وفي تلك الخطوة المفاجئة، قفز جعجع أيضًا فوق أحداث الماضي، وحرب «الإلغاء» التي قادها عون ضد جعجع في العام 1990، والخصومة السياسية مع عون التي استمرت حتى وقت مبكر من العام 2015، وبدأت تتقلص الفوارق، حين بدأ الحوار بين الطرفين، وأنتج في الثاني من يونيو (حزيران) الماضي، ورقة إعلان نوايا بينهما.

شكل إعلان الدكتور سمير جعجع، رئيس حزب «القوات اللبنانية»، ترشيحه غريمه السياسي اللدود في الشارع المسيحي رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون لمنصب رئيس الجمهورية صدمة في لبنان. وهدد هذا الترشيح أيضًا التحالفات السياسية القائمة بين فريقي 8 و14 آذار، وحمل بذور تحالفات أخرى، إذ أفرز «تحالفًا مسيحيًا قويًا»، بالنظر إلى حجم تمثيل عون وجعجع في الشارع المسيحي، في مقابل تلاقٍ سياسي مستمر بين رئيس البرلمان نبيه برّي، ورئيس تيار «المستقبل» ورئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» والزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
التطور الأخير حرّك جمود الملف الرئاسي اللبناني المستمر منذ 25 مايو (أيار) 2014، تم خلالها تداول أسماء كثيرة للمقعد الأول في لبنان، من غير أن يكون لأحد من تلك الأسماء التي ناهزت الثمانية، حظ وافر في المعركة الرئاسية. بدأ التداول أولاً في أربعة أسماء تمثل أربعة رؤساء لأحزاب سياسية فاعلة في البلاد، هي عون وجعجع وفرنجية، إضافة إلى الرئيس السابق لحزب «الكتائب» والرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل. تلك الأسماء، وردت بعد لقاءات جمعت الأربعة في مقر البطريركية المارونية في بكركي، ليبدأ تداول أسماء أخرى من خارج الاصطفافات، أطلق عليها اسم «مرشحون توافقيون»، مثل الوزير الأسبق جان عبيد، وقائد الجيش العماد جان قهوجي، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والوزير الأسبق دميانوس قطار.
لكن خطوة الرئيس سعد الحريري، وهو حليف جعجع في قوى 14 آذار، بتبني ترشيح فرنجية للرئاسة، رغم أنه ترشيح غير رسمي، خلط الأوراق السياسية في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وهو ما دفع - حسب البعض - جعجع للرد، بترشيح عون، رسميًا، مطلع الأسبوع الحالي. وأعادت هذه الخطوة السجالات المسيحية المنبعثة من ذاكرة الحرب اللبنانية، إلى المربع الأول.

* نهاية خلافات عون ـ جعجع
الخلافات بين عون وجعجع، طويت، إلى حد بعيد، في ترشيح الأخير لـ«الجنرال» الذي ترأس خلال فترة الحرب حكومة عسكرية، شغلت الفراغ الرئاسي إثر انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في العام 1988. وعلى إثرها، انقسم البلد آنذاك إلى معسكرين، وباتت هناك حكومتان، قبل أن يجتمع الأفرقاء برعاية المملكة العربية السعودية في مدينة الطائف، حيث توصلوا إلى اتفاق عُرف باسم «اتفاق الطائف» في العام 1989. وافق عليه جعجع، ورفضه عون بحجة أنه قلّص صلاحيات المسيحيين في لبنان. وكان الانقسام المسيحي على اتفاق الطائف، بمثابة الشرخ الأول بين الفريقين المسيحيين.
بعدها تفاقمت الخلافات بين الرجلين وتطورت إلى حرب عسكرية دموية دفع ثمنها المسيحيون، وأفضت إلى تدخل عسكري سوري في أكتوبر (تشرين الأول) 1990، أنهت حالة «التمرد» التي قادها عون، بحسب ما يقول خصومه والنظام السوري، وأدت إلى دخول القوات السورية إلى قصر بعبدا، ولجوء عون إلى فرنسا، حيث بقي حتى العام 2005.
المواجهة العسكرية بين عون وجعجع، كانت الأولى، ووقعت في أواخر يناير (كانون الثاني) 1990، تحت مسمى «حرب الإلغاء» حين كان عون رئيسًا للحكومة العسكرية، وقاد حربًا ضد «القوات اللبنانية»، تحت شعار «توحيد البندقية تحت لواء الشرعية». وفيها خاض الجيش اللبناني بأوامر من عون حربًا لطرد «القوات» من المناطق المسيحية في شرق بيروت، وهي المعركة التي مهّدت لدخول القوات السورية إلى بيروت الشرقية والمناطق المسيحية للمرة الأولى منذ بداية الحرب اللبنانية.
وتواصل الصراع السياسي بين جعجع وعون رغم خروج عون من بيروت إلى ملجئه الفرنسي في أكتوبر 1990. وبعد نفي عون في العام 1991. واعتقال جعجع في العام 1994. بدأت بوادر التقارب بين جمهوري الزعيمين المسيحيين اليمينيين، وتجسّد ذلك من خلال تنظيم مظاهرات مشتركة تطالب بخروج الوصاية السورية من لبنان، وتضاعف التقارب بمشاركة ممثلين عن الطرفين في لقاء «قرنة شهوان» ومن ثم لقاء «البريستول» في العام 2004، الذي سبق مرحلة التحولات الكبيرة في لبنان الناتجة عن اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري.
غير أن الوضع السياسي بين الطرفين سرعان ما عاد إلى التأزم في انتخابات العام 2005. حين خاض عون الانتخابات البرلمانية في مايو 2005 وحيدًا في الشارع المسيحي، بينما كان جعجع جزءًا من «التحالف الرباعي» الذي جمع تيار المستقبل عن السنة، والنائب وليد جنبلاط عن الدروز، وحزب القوات عن الأطراف المسيحية، وحزب الله وحركة أمل كممثلين للشيعة.
رغم ذلك، اجتمع عون وجعجع بعد إطلاق جعجع من السجن بموجب عفو خاص في صيف 2005، لأول مرة منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية. لكن الخلافات عادت بينهما للظهور إثر توقيع عون «وثيقة تفاهم» مع حزب الله في فبراير (شباط) 2006. ووقوف عون إلى جانب حزب الله في حوادث 7 أيار 2008، حين اجتاح مسلحون تابعون للحزب شوارع بيروت والجبل. وبقي الصراع على حاله في انتخابات 2009 النيابية، وتضاعف على خلفية إسقاط عون وحزب الله حكومة الرئيس سعد الحريري في العام 2011. وفي ربيع العام 2014، تعمق الخلاف أكثر بين الطرفين، على خلفية ترشيح جعجع نفسه للانتخابات الرئاسية في وجه عون.
غير أن انطلاق الحوار الثنائي بين حزب الله وتيار المستقبل في دارة رئيس البرلمان نبيه بري، العام 2015، فتح باب التقارب بين عون وجعجع، حيث بدأ الطرفان بعقد لقاءات ثنائية، أفضت، في يونيو الماضي، إلى «ورقة إعلان النوايا» للتيار الوطني الحر الذي يتزعمه عون والقوات اللبنانية، بعد عقد أكثر من لقاء وبحثا أسس التفاهم فيما بينهما.
مبادرة الرئيس الحريري في ديسمبر (كانون الأول) 2015، الرامية إلى تأييد ترشيح سليمان فرنجية، حليف سوريا والخصم السياسي التقليدي لجعجع، للانتخابات الرئاسية، دفع كما يقال جعجع إلى تجاهل كل الخلافات مع غريمه عون. وفي الأسبوع الأول من العام الحالي، بدأت ثمرات التقارب بين الطرفين بالوصول إلى خواتيمها، حين حملت مؤشرات على قرب إعلان جعجع تأييده لترشيح عون للرئاسة، بذريعة أن عون «صاحب التمثيل الأوسع في الشارع المسيحي»، لتتحول واقعًا، في 18 يناير، حين أعلن جعجع تأييد عون كمرشح للانتخابات الرئاسية اللبنانية.

* جعجع ـ فرنجية خصومة مستمرة
في هذه الخطوة، قطع جعجع على فرنجية طريق الوصول إلى الرئاسة، من جهة المسيحيين، علما بأن التحالف الذي يؤيد فرنجية، وجله من المسلمين وبعض حلفائهم المسيحيين، قادر على إيصال فرنجية إلى الرئاسة، إذا ما أجريت انتخابات وفق نظام التصويت الأكثري في البرلمان.
ورغم أن عون وفرنجية من قوى 8 آذار، فإن جعجع برر لخطوته، بالقول: إن عون «نسخة مقلدة» من 8 آذار، بينما فرنجية نسخة أصلية. وأوضح أن الأخير هو من الشخصيات المسيحية الحليفة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد منذ بداية الحرب اللبنانية، وصديق شخصي للأسد، ويعد من أبرز المتخاصمين مع قوى 14 آذار، فضلاً عن حسابات شخصية، مرتبطة بالعداوة بين جعجع وفرنجية، على ضوء اتهامات الأخير لجعجع بأنه مسؤول عن مقتل والده الوزير الأسبق طوني فرنجية وزوجته وولدين له ضمن ما عُرف بـ«مجزرة اهدن» في العام 1978. وهي الحادثة التي يكرر جعجع نفي مسؤوليته عن ارتكابها، مؤكدًا أنه كان مصابًا في المستشفى حين علم بوقوعها، كما ورد في تصريحات له وُثقت في كتب تؤرخ للحادثة.
قبل حادثة اهدن (شمال لبنان)، كانت الزعامات التقليدية في المنطقة، عائلية، إلى حين وصول الرئيس اللبناني الراحل سليمان فرنجية، جدّ زعيم المردة الحالي سليمان فرنجية، إلى سدة الرئاسة في العام 1970. وتحوّل الصراع على الزعامة إلى صراع الأحزاب، مع بدء حزب الكتائب، الذي كان ينتمي إليه جعجع، بالتمدد، واستقطاب المناصرين في معقل فرنجية الجد، بالنظر إلى أن «الكتائب» كان من أقوى الأحزاب المسيحية اللبنانية، وذلك بعد سنتين على اندلاع الحرب الأهلية.
بدأ «الكتائب» بالتمدد إلى الشمال الذي يعد الخزان البشري للقوى المسيحية، بحسب ما ذكر الرئيس الأسبق للحزب كريم بقرادوني في أكثر من مناسبة، علما بأن منطقة زعرتا واهدن، كانت بمثابة متنفس اقتصادي أيضًا لحزب المردة الذي يتزعمه فرنجية، المعروف بقربه من النظام السوري، والداعم لوجود قوات الردع العربية في لبنان. وإثر حوادث أمنية، كان أبرزها مقتل قيادي في حزب «الكتائب» اسمه جود البايع، شن الأخير هجومًا على معقل فرنجية في اهدن، أسفر عن مقتل طوني فرنجية وعدد من أفراد عائلته وقياديين في الحزب، وتلا الحادثة، دخول القوات السورية إلى المنطقة.
وتفاقم الصراع بين فرنجية و«الكتائب»، وخصوصًا جعجع الذي اتهمت مجموعته بقتل فرنجية، واستمر حتى هذا الوقت. وتواصلت الخصومة بين الطرفين، وتضاعفت أيضًا على خلفيات سياسية، بالنظر إلى أن جعجع من أبرز قياديي 14 آذار المسيحيين، بينما يوالي فرنجية دمشق، وهو ما أظهر أن ترشيح جعجع لعون، محاولة لإعاقة وصول فرنجية إلى الحكم، علما بأن عون يعتبر المرشح التقليدي لرئاسة الجمهورية منذ عودته من باريس، وحصد خلال دورتين انتخابيتين في 2005 و2009 أكبر حصة تمثيلية بين الأفرقاء المسيحيين في البرلمان، ولو أنه استفاد كثيرًا في الانتخابات الأخيرة من أصوات حزب الله الشيعية.

* تحالف مسيحي
يقول المسيحيون بأن انقساماتهم، منذ توقيع «اتفاق الطائف» ونهاية الحرب اللبنانية، أدت إلى تضعضعهم، وبالتالي خسارة فرصة أن يكونوا مؤثرين في السلطة، على ضوء انقسام الولاءات الداخلية بين الأحزاب والشخصيات من جهة، وانقسام القوة بين فريقي 8 و14 آذار. ومن هنا، تأتي محاولة جعجع لرأب الصدع عبر إيصال عون، الثمانيني، إلى الرئاسة، وإظهار حرصه على لم الشمل المسيحي.
يقول الباحث السياسي جورج علم لـ«الشرق الأوسط»: «جعجع يلعب بذكاء ليرث الزعامة المسيحية من خلال المصالحة مع عون، وإظهار حرصه على المسيحيين». لكن ذلك: «لا يبدو مثاليًا بالنسبة لجعجع الذي سيجد نفسه بعد عون، في داخل معركة الزعامة على جبهات ثلاث»، موضحًا أن تلك الجبهات تتمثل في «قيادات مارونية شابة هي رئيس حزب الكتائب الحالي سامي الجمل الساعي ليكون زعيما، ووزير الخارجية جبران باسيل الذي يظهر في قمة فتوته السياسية بعد وصوله إلى رئاسة التيار الوطني الحر خلفًا لعون، وطوني سليمان فرنجية الزعيم المستقبلي للمردة».
ولا يقتصر ترشيح جعجع لعون، على إيصال رئيس تكتل التغيير والإصلاح إلى سدة الرئاسة فحسب. يُنظر إليه على أنه تحالف مسيحي، يعد الأقوى، ويمثل أكثر من 75 في المائة من أصوات المسيحيين في لبنان، ومن شأنه أن يغير في خريطة التحالفات السياسية القائمة منذ العام 2005، فضلاً عن أسباب أخرى مرتبطة بالصراع على الزعامة المسيحية في لبنان.
يقول علم، إن التحالف في الشكل: «يبدو تركيزًا على الرئاسة، لكن في الوعي المسيحي المضمر، هناك قلق كبير على المصير والمستقبل للمكون المسيحي في لبنان، وبالتالي هناك بداية يقظة لاستدراك المخاطر عن طريق إعداد خطة لا تزال غامضة حتى الآن، وإن كان بعض المثقفين المسيحيين يرى بأن المصالحة التي تمت في معراب بين مكونين رئيسيين، هي الخطة الأولى في مسافة الألف ميل».
ومن شأن التحالف الجديد، أن يصيب خريطة التمثيل في مجلس النواب، حيث سيرتفع عدد النواب المسيحيين المنضوين تحت لواء التحالف الجديد وفق القانون الانتخابي الحالي، إلى 44 نائبا، بدلاً من 25 نائبا ينضوون تحت كتلة عون وكتلة القوات في الوقت الحالي، ما يعني أن هذه الكتلة في البرلمان المقبل «سيكون لها تأثير كبير داخل البرلمان».
لكن احتمالات وصول عون إلى الرئاسة، رغم التحالف المسيحي، ضئيلة. ويرى علم في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن جعجع «ما كان ليقدم على هذه الخطوة لو لم يكن وراءها دعم دولي كبير، أقله موافقة من واشنطن، كما هو الحال وراء مبادرة سعد الحريري عندما أقدم على ترشيح فرنجية». ويسأل: «ماذا يريد المجتمع الدولي تحديدا بزعامة الولايات المتحدة، عندما يسمح لقطب بارز في قوى 14 هو سمير جعجع ليدخل بمنافسة مع قطب أبرز هو الحريري؟ ويضيف: «يعني ذلك أن الحلفاء في تيار واحد أصبحوا أضدادا، وهذا يعني أن هناك نية خلط أوراق واسعة، لن تقتصر على الداخل اللبناني».
ويوضح علم: «على المستوى الإقليمي، بعد التحولات التي نشهدها على المسرح الإيراني لفك العقوبات، ومواجهة الملفات المعقدة السورية والعراقية نحو طاولات حوار وتسويات في جنيف وخارجها، هذا يعني عودة إلى المربع الأول»، مشيرًا إلى أن السؤال المطروح هنا «أين حزب الله من كل ما يجري؟ وبالتالي هل تتقدم الرئاسة على التسوية الإقليمية، أم التسوية ستكون مدخلاً للرئاسة في لبنان؟»
لا ينفي علم أن واشنطن تدعم الترشيحين، ترشيح الحريري لفرنجية، وترشيح جعجع لعون: «كي لا يصل المرشحان إلى الرئاسة التي لن يُسدّ الشغور فيها، بلا انسحاب أحدهما، لأن عون واضح في موقفه بأنه لن يشارك في جلسة الانتخابات الرئاسية في البرلمان، من غير أن يكون مرشحًا توافقيًا، لإدراكه بأن الرئيس في لبنان إن لم يكن توافقيًا، لا يستطيع أن يحكم».
ويعرب علم عن اعتقاده بأن الأميركيين، بدعم الترشيحين: «سيذهبون إلى مرشح ثالث، هو مرشح تسووي، من خارج الأسماء الأربعة التي طرحتها بكركي»، لافتًا إلى أن «التسوية تسقط وجود مرشح من 8 آذار». ويشير إلى أن «رضا حزب الله عن وصول شخص إلى الرئاسة لا يكفي، لأن السؤال المطروح حول ماهية الشروط السياسية التي على الحزب تقديمها، بدءًا من الخلاف حول سلاحه حتى مشاركته في معارك خارج الحدود وغيرها». ويضيف: «تبدو التسوية الرئاسية، طربوشًا لتسوية أكبر»، معربًا عن اعتقاده أنه «حتى إذا كان الأميركي يسعى لمرشح ثالث خارج الأسماء المتداولة، فإنها ستكون جزءًا من تسوية أشمل، هي توليفة وحوار سياسي كامل على الحكم في لبنان».

* الترشيحات تهدد تحالفي 8 و14 آذار
ظهر تحالفان سياسيان بعد اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في فبراير 2005، تحالفان سياسيان هما 14 و8 آذار، أثمر توافقهما مرارًا بتشكيل حكومات، وأدى تنافرهما في مرات كثيرة إلى تعطيل الحياة السياسية في البلاد.
التحالفان، وضعا على المحك الآن بعد ترشيح جعجع الذي ينتمي إلى 14 آذار، غريمه السياسي ميشال عون الذي ينتمي إلى 8 آذار، إلى الانتخابات الرئاسية.
14 آذار، تحالف سياسي يتكون من كبار الأحزاب والحركات السياسية التي عارضت الوجود السوري في لبنان وتلقت الدعم من عدد من الدول بالأخص فرنسا والولايات المتحدة والدول العربية، ويضم تيار المستقبل الذي يرأسه الرئيس الأسبق سعد الحريري، وحزب «القوات اللبنانية» وحزب الكتائب، وكان النائب وليد جنبلاط من أبرز المنضوين تحت لوائه، قبل أن يتحول إلى الموقع الوسطي إثر الانقسام الحاد بين التحالفين في لبنان.
أما قوى 8 آذار، فيقودها حزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري، وتيار المردة، وعدد من الأحزاب القومية وغيرها، وعرفت بولائها للنظام السوري، واكتسبت اسمها من تاريخ مظاهرة حملت عنوان «شكرًا سوريا» العام 2005.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.