علت الأصوات السودانية المطالبة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل في الآونة الأخيرة، وخرج الحديث من السرية المفرطة إلى العلن، ولم يعد ملف علاقة الخرطوم مع تل أبيب مختومًا بالشمع الأحمر ومطبوعا عليه «سري للغاية»، مثلما كان في سابق العهود، أو منذ استقلال السودان.
ففي مؤتمر الحوار الوطني الذي يجري في الخرطوم منذ العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، دار جدل كثيف بشأن تطبيع العلاقات السودانية مع إسرائيل، بعد أن تقدم حزب «المستقلين» بتطبيع العلاقة مع إسرائيل، باعتباره مدخلاً جيدًا إلى الإدارة الأميركية في واشنطن، التي تفرض عقوبات اقتصادية على السودان، وتحافظ عليه ضمن لائحتها للدول الراعية للإرهاب لقرابة عقدين من الزمان.
وبعد أن كان الحوار العلني حول هذه العلاقة من التابوهات بالنسبة لحكومة الخرطوم، فإن وزير الخارجية إبراهيم غندور فاجأ تيارات الممانعة، الخميس الماضي، بأن بلاده لا تمانع في دارسة إمكانية التطبيع مع إسرائيل، وفي الوقت ذاته رفض رهن علاقات بلاده بدولة ما على حساب دولة أخرى، استنادًا إلى الجدل الذي أثير داخل لجنة العلاقات الخارجية لمؤتمر الحوار الوطني.
وفجّر غندور سياج السرية المنسوج حول تطبيع العلاقة مع إسرائيل، الذي كشفت بعضه تسريبات «ويكيليكس»، الذي نسب إلى المسؤول السوداني البارز ومستشار الرئيس عمر البشير وقتها مصطفى عثمان إسماعيل، قوله إن حكومة بلاده تقترح على الولايات المتحدة أوجهًا للتعاون تتضمن تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
ونقل الموقع أن إسماعيل ذكر في لقائه مع مسؤول الشؤون الأفريقية في الخارجية الأميركية ألبرتو فرنانديز، أثناء شغله لمنصب القائم بالأعمال الأميركي في الخرطوم، ووفقًا لبرقيته لخارجية بلاده أنه «إذا مضت الأمور بصورة جيدة مع الولايات المتحدة، فقد تساعدوننا في تسهيل الأمور مع إسرائيل، الحليف الأقرب لكم في المنطقة».
ونسب الموقع إلى إسماعيل قوله إن تطور العلاقات مع واشنطن يسهم في إقناع من سماهم «الجناح المتصلب» في الحكومة السودانية، وورد من بينهم اسم مساعد الرئيس النافذ وقتها نافع علي نافع.
ومع نفي إسماعيل لما نسب إليه من قبل «ويكيليكس»، ووصفه بأنه موقع «أفاك»، وأن ما ورد فيه «مجرد افتراء صريح على شخصه وحكومة السودان المجاهدة»، فإن مسؤولين كبارًا محسوبين على الحزب الحاكم كانوا قد أعلنوا عن عزمهم التطبيع مع إسرائيل، مما يجعل نفي الرجل يكاد يكون مجرد مناورة لإبقاء الأشياء داخل الملف السري.
وذكر الكاتب الصحافي عبد الله رزق في مقال نشرته صحيفة «الطريق» السودانية، أن هناك تاريخًا من النيات المبيتة للتطبيع مع إسرائيل صدرت عن مسؤولين في الحزب الحاكم وفي الحكومة أيضًا، حيث كان كرم الله عباس الشيخ، والي ولاية القضارف الأسبق، قد جهر بانتمائه لمدرسة داخل المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم)، تطالب بالتطبيع مع إسرائيل، وأن رئيس لجنة الاستثمار والصناعة بالبرلمان في ذلك الوقت، ووالي ولاية النيل الأبيض الحالي عبد الحميد موسى كاشا، طالب بالتطبيع مع إسرائيل بقوله: «ما دمنا قد قبلنا بأميركا فلنقبل بإسرائيل».
وأورد الكاتب أن البرلماني شريف محمدين طالب خلال جلسة القطاع الاقتصادي في الهيئة التشريعية القومية بالتطبيع مع إسرائيل، لأن كل الدول العربية تحتفظ بعلاقة مع إسرائيل في «السر أو العلن»، وقال في هذا الصدد {لنا علاقة مع الصين التي لا دين لها.. فلم لا نطبع مع إسرائيل الكتابية؟!»، كما أورد أن نائبا برلمانيًا ينتمي للحزب الحاكم أشار إلى أن التطبيع سيجنب البلاد مشكلات كثيرة.
واعتبرت تلك التصريحات مسعى لتهيئة الرأي العام للقبول بتوجه الحكومة للتطبيع مع إسرائيل، باعتبار أن الأمر جزء من حزمة شروط تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية. ونقلت فضائية «الشروق» شبه الحكومية في حوارًا مع القيادي الإسلامي البارز البروفسور حسن مكي، أنه أجرى اتصالات وحوارًا فكريًا مع سياسيين ومفكرين إسرائيليين رتّبته مؤسسة ألمانية، ودعا للتطبيع مع إسرائيل للوصول إلى مساومة تاريخية.
واعتبر المحلل السياسي عبد الله رزق تصريحات وزير الخارجية إبراهيم غندور، وقبوله بفتح ملف العلاقات مع إسرائيل، إعلانًا عن نهاية «التابو» المفروض على العلاقة مع إسرائيل، واندثاره بقوله إن «تصريحات غندور أنهت حالة العداء التاريخي مع إسرائيل القائمة على أسباب أخلاقية ودينية وسياسية، بما يجعل مناقشة العلاقة معها أمرًا عاديًا، مثله مثل مناقشة العلاقة مع أي دولة أخرى في العالم».
ويوضح رزق أن تلك التصريحات تكشف أن التهيئة للتطبيع مع إسرائيل قد اكتملت وبلغت مداها، وأزيلت العقبات والعقد النفسية والثقافية والسياسية، ولم يتبق منها إلاّ الشق الدبلوماسي على المستويين الداخلي والخارجي، مضيفا أن «الوضع الداخلي يدعمه الوضع الخارجي الذي يشهد تراجعًا تامًا، بل اختفاء اسم فلسطين والصراع العربي - الإسرائيلي من ذاكرة الرأي العام العربي والعالمي».
وأرجع رزق هذا التحول الدراماتيكي في العلاقات إلى نجاح السياسة الخارجية الأميركية في فرض أولويات جديدة داخل المنطقة، جعلت من الصراع مع (داعش) عنوانًا رئيسيًا للتناقضات في المنطقة، تتأسس عليه التحالفات والمحاور السياسية والعسكرية، وقال بهذا الخصوص: «لقد أصبح الصراع العربي الإسرائيلي في غياهب النسيان، مما جعل من التطبيع أمرًا واقعًا، يستفيد من المناخات الدولية السائدة».
ويكشف الاحتفاء اللافت بتراجي مصطفى، الناشطة السودانية ومؤسسة «جمعية الصداقة السودانية - الإسرائيلية»، التي زارت إسرائيل سابقا والتقت مسؤولين إسرائيليين، كما التقت في الخرطوم خلال زيارتها الأخيرة للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، مسؤولين رفيعين في الحزب الحاكم وحزب المؤتمر الشعبي، أبرزهم الرئيس عمر البشير، وزعيم الإسلاميين حسن الترابي، وهو ما يكشف حالة التسامح التي بدأت حكومة الخرطوم تتعامل بها مع ملف التطبيع.
وتفتح مشاركة تراجي مصطفى في الحوار الوطني، سيرة «السودانيين في إسرائيل»، فمنذ أكثر من عقد بدأت الهجرة السودانية العشوائية لإسرائيل، بالتسلل عبر سيناء المصرية، من سودانيين مناوئين لنظام الخرطوم، ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة لأعدادهم هناك، فإن تعامل حرس الحدود المصري العنيف معهم لفت الأنظار كثيرًا للهجرة السودانية إلى إسرائيل، في الوقت الذي اختفت فيه عبارة «يسمح له بدخول جميع البلدان عدا إسرائيل» التي كانت تزين واجهات جوازات سفر السودانيين في الجوازات الجديدة.
جدل في السودان بعد مطالبة أحد الأحزاب التطبيع مع إسرائيل
حزب «المستقلين» يعتبره مدخلاً لنيل رضا الإدارة الأميركية التي تفرض عقوبات على الخرطوم
جدل في السودان بعد مطالبة أحد الأحزاب التطبيع مع إسرائيل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة