مهرجان جدة يعيد الملاك إلى منازلهم القديمة.. ويفتح للزوار نافذة على التاريخ

«كنا كدا» يستقطب 600 ألف زائر

معرض للصور الفوتوغرافية في وسط الحي التاريخي (واس)
معرض للصور الفوتوغرافية في وسط الحي التاريخي (واس)
TT

مهرجان جدة يعيد الملاك إلى منازلهم القديمة.. ويفتح للزوار نافذة على التاريخ

معرض للصور الفوتوغرافية في وسط الحي التاريخي (واس)
معرض للصور الفوتوغرافية في وسط الحي التاريخي (واس)

«كنا كدا»، في الحواري والأزقة، على المحبة والأخوة، و«موية السقا»، «كنا كدا» بداية قصة المصوراتي، وبياع الفول، يرويها عم حمزة أبو العمة الحلبي، وستي زكية وهي تنادي من خلف المشربية «يا ولدي تعال» على حفيدها اللي يلعب بجنب البيت معكيرة، وسبعة حجار، «كنا كدا» مهرجان يعيد حكاية «حارة الشام، والمظلوم» من أعماق جدة للواقع بنكهة الحاضر والفجر الجديد.
تلك هي الحكاية التي يتدافع إليها الناس، ولا تعلم وأنت تدلف إلى المنطقة التاريخية في وسط جدة بواسطة عربات «الغولف» التي وضعت لنقل الزوار إلى مواقع الانطلاق لسماع الحكاية ومشاهدتها، وأنت قادم من «ميدان البيعة» بعد أن وجدت موقفا لمركبتك في تلك الأحياء الملاصقة للمنطقة، من أين تكون بداية القصة.
وإن كانت القصة طويلة، فلا بد من أن تختار أحد المسارين؛ إما أن تسلك مسار سوق «أهالينا» المحاذي لبحيرة الأربعين الشهيرة في جدة التي تتضمن عددا من الفعاليات والبرامج والأنشطة الحرفية القديمة ومنها «مصلح الروادي»، «اللبان»، «مجلي النحاس».. وغيرها، أو تسلك البوابة الرئيسية «بوابة المدينة» مدخل المنطقة التاريخية نهاية بمنزل «نصيف» الذي يحكى أن زمن إنشائه كان عام 1872، كما يحكى عن نزول الملك عبد العزيز في ضيافة صاحب البيت الشيخ عمر أفندي نصيف في عام 1925.
ومنذ اللحظة الأولى بعد أن اخترت مسارك، تجد نفسك في أحضان التاريخ، بين دلة القهوة وإبريق الماء، والبيت المبني من الطين، وهو شعور، كما يقول الإعلامي عبد الله ينبعاوي، لا يمكن وصفه بأي من الأحوال، وأنت تتجول بين هذه المباني التاريخية التي تحكي واقع وتجربة الأجداد قبل أكثر من مائة عام، وكيف كان سكان جدة القديمة يقومون بأعمالهم اليومية، في ظروف غير هذه الظروف، وتمكنوا من ترك هذا الإرث العظيم.
وأضاف الينبعاوي أن مهرجان جدة التاريخية «كنا كدا3» لهذا العام تميز بكثير من الإيجابيات؛ «منها توسعة السوق الرئيسية للفعاليات الذي يضم كثيرا من الحرف اليدوية القديمة، مع فصل الفعاليات عن السوق الرئيسية الموجودة في المنطقة التاريخية، وهو ما أعطى مساحة للزائر للتجول بشكل أكبر، كما تم التعامل مع التكدس والازدحام في الدخول والخروج، إضافة إلى وجود عربات الغولف التي تنقل الزوار من مواقع المركبات إلى مدخل المهرجان».
وبعد أن تعتريك لحظة النشوة، أو الانبهار بالمكان، تبدأ تدريجيا في الغوص في عالم كل قصة على حدة، وتجد نفسك وقد تقمصت، لا إراديا، دور المحقق لتعرف كل الخفايا خلف هذا البرواز وتلك الصورة، وهذا المنزل، وذاك الزقاق، وكيف، ومتى، ولماذا لم يكن بهذا الشكل، كل تلك الأسئلة تجد إجابتها في شعار المهرجان الذي اختير بعناية منذ نسخته الأولى «كنا كدا».
ونجحت اللجنة المنظمة لمهرجان «كنا كدا» في استقطاب أكثر من 600 ألف زائر للمنطقة التاريخية، وفقا لآخر الإحصاءات، وعلى مدار 10 أيام، وهي الفترة الزمنية التي أقرتها اللجنة العليا لمهرجان جدة التاريخية، ويترأسها الأمير مشعل بن ماجد محافظ جدة، لإقامة الفعاليات بالتزامن مع إجازة منتصف العام الدراسي، التي تشهد فيها جدة تدفق أعداد كبيرة للسياح من خارج المدينة. ولعل النجاح الأكبر كان في استقطاب فئة الشباب ما دون 20 عاما لزيارة المهرجان.
ويهدف المهرجان إلى إبراز الثقافة والتراث الحضاري الذي شهدته عموم المدن السعودية في الماضي، وأهمية المكانة التاريخية لمدينة جدة، ويتحدث المهرجان طيلة أيامه عن نخبة من الأدباء، كما صمم مجسما لحارة قديمة يحكي واقع جدة القديمة على مدخل المهرجان، زين كثيرا من منافذ البيع، كما شهد المهرجان عودة سور جدة الشمالي وباب المدينة القديم الذي يعد من أبرز المعالم القديمة لجدة.
ولعل أكثر ما تميز به المهرجان الحالي لجدة القديمة، وجود جدارية خاصة أطلق عليها «رجعولها» تهتم بالسكان الأصليين للمنطقة التاريخية وملاك المنازل القديمة، الذين رحلوا من حارة «شام»، و«المظلوم»، في عقود سابقة؛ إذ يقوم ملاك تلك المنازل بكتابة أسمائهم على هذه الجدارية التي أخذت شكل الزورق أو ما يعرف لدى سكان جدة بـ«الهوري».
وتنتشر الدكاكين الخاصة ببيع المقتنيات التراثية والمشغولات اليدوية التي تشتهر بها المنطقة، إضافة إلى فعاليات «حارة كنا كدا»، و«شارع المصورين»، و«الفرح الحجازي»، والملبوسات الحجازية، والسيارات القديمة، وبرحة الرسامين التي شهدت تدفق كثير من الزوار لمشاهدة المعروضات من التحف الفنية، أو رغبة في رسمهم عبر فرشة الفنانين المنتشرين في المكان.
وقال المهندس، سامي نوار، رئيس بلدية جدة التاريخية: «المهرجان حقق العوائد المرجوة منه في نشر الثقافة المحلية وتاريخ المنطقة القديم، من خلال ارتفاع عدد مرتادي المنطقة التاريخية في فترة وجيزة، إضافة إلى ما تحقق من عوائد اقتصادية كبيرة على عموم المنطقة وملاك المحلات التجارية»، موضحا أن إقامة حارة متكاملة على مدخل المهرجان تحاكي جدة القديمة، أسهم في إقبال الزوار على المهرجان.
وأضاف نوار أن «من أبرز عوائد مثل هذه المهرجانات، ما تحقق من ارتفاع في سعر المباني القديمة المنتشرة في المنطقة التاريخية، الذي انعكس على عودة الملاك إلى منازلهم بشكل متتابع لتطوير وتجديد منازلهم»، لافتا إلى أن «بلدية جدة التاريخية وخلال خمس سنوات أصدرت ما يزيد على 800 تصريح ترميم كلي وجزئي لملاك المنازل الذين أدركوا أهمية الاهتمام بهذا الإرث التاريخي».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».