من التاريخ : فلسفة حصاد ربع قرن من التاريخ

من التاريخ : فلسفة حصاد ربع قرن من التاريخ
TT

من التاريخ : فلسفة حصاد ربع قرن من التاريخ

من التاريخ : فلسفة حصاد ربع قرن من التاريخ

مضى ربع قرن على سقوط النظام الدولي، ومعه «الحرب الباردة»، ودخل التاريخ في منعطف جديد لم يُعرف له نمط مشابه من قبل، وهو ما جعل بعض المؤرخين وعلماء السياسة ينظرون إلى التاريخ على أنه بدأ نمطًا أو توجهًا غير تقليدي قد يستحيل معه التعرف على مساره. فلقد تغيرت الكثير من العوامل الثابتة التي كانت تُحرك التاريخ والكيانات الاجتماعية، بل والأفراد أيضًا، ما جعل من إمكانية استقراء المستقبل أقرب إلى التنجيم منه إلى الثوابت العلمية. ومن ثم أصبحنا اليوم ننظر إلى ربع قرن من الزمان باستغراب وذهول مفهومين، كما أننا أصبحنا عاجزين في كثير من الأحيان عن استشفاف المستقبل استنادًا إلى ثوابت التاريخ.
إن ربع القرن الذي مضى يدفعنا اليوم لمحاولة فهم فلسفة التغير الجديدة قبل أن نفكر في استشفاف المستقبل، ومن هذا المنطلق فإننا نسعى اليوم جاهدين لفهم هذه الفلسفة علّنا نستطيع فهم حركة التاريخ ومعها المستقبل. وفي هذا السياق أضع أمام القارئ خريطة مبسطة لرؤية هذه الفلسفة، وليس بالضرورة فهمها، من خلال النقاط الرئيسية التالية:
أولاً: أن النظام الدولي تغير بشكل فجائي وعلى غير توقع علمي مرصود بانهيار الاتحاد السوفياتي منذ ربع قرن من الزمان. وكانت نوعية هذا التغير فريدة على مر التاريخ، فصراع الأقطاب كان ينتهي بهزيمة عسكرية لأحد الأقطاب وسيطرة قطب على النظام الدولي، وهو ما حدث بين اليونان وفارس، ثم بين روما وقرطاجة، ثم سقوط فرنسا النابوليونية وسيطرة بريطانيا على مقاليد السياسة الدولية. كل هذه المتغيرات جاءت إثر حروب واسعة، ولكن ما حدث مع الاتحاد السوفياتي لم يكن هزيمة عسكرية بل جاء نتيجة انفجار داخلي Implosion في هذا القطب أدى إلى خروجه من الصراع الدولي مؤقتًا ودخول العالم «نظاما أحادي القطبية»، ثم بدأ يسير نحو «نظام متعدد الأقطاب» بميزة نسبية للولايات المتحدة على غيرها من الدول الأخرى. وفي تقدير كثرة من المنظرين أن هذا سيكون نمط العلاقات الدولية من الآن فصاعدا، بمعنى أن الصراعات العسكرية - رغم وجودها - ستظل محصورة على المستوى الإقليمي وبدرجة أكبر على مستوى الدولة، خاصة أن أدوات إدارة العلاقات الدولية جعلت من القوة العسكرية أولوية متأخرة في حسابات الدول خلال إدارة علاقاتها الخارجية. وهذا يصح بصفة خاصة مع ظهور مفاهيم مثل «القوة الناعمة» و«القوة الاقتصادية».. إلخ.
ثانيًا: أن النظام الدولي لم يعد يعتمد على قوة الدولة وحدها في تسيير شؤونه. هذا واقع آخذ في التغير - وبخطى قوية متسارعة - بعدما أصبحت الدولة وحدها، ككيان محرك للسياسة الداخلية والخارجية، نمطًا قديمًا غير قابل للاستمرار. إن السياسة في الدولة الواحدة لم تعد مقصورة على متّخذي القرار من رجال الدولة وحدهم، وذلك بفضل ظهور عوامل المجتمع المدني والمنظومات عبر الوطنية Transnational Regimes وغيرهما. وهذه الأخيرة لا تستقي وجودها من المفاهيم التقليدية للدولة الموحّدة، بل بدأ النظام الدولي يؤثر فيها، وهي بدورها تؤثر على مسيرة الدولة، التي لم تعد منعزلة عن النظام الدولي. بل إنه يمكن القول بوجود ما يشبه بوادر ثبات ثقافة دولية جديدة، تناولناها بوضوح خلال الأسابيع القليلة الماضية، متمثلة في آليات السوق الحرة والديمقراطية وحقوق والإنسان.
ثالثًا: أن العولمة، كظاهرة جديدة، لم يعرفها العالم بهذه الحدة من قبل. ولقد بدأت تغير في مسيرة السياسة الدولية وتؤثر مباشرة على كيان الدولة ومسيرة مجتمعاتها. إن العولمة بمفهومها الواسع شملت في طياتها الكثير من العوامل التي لا مناص من التعامل معها كأمر واقع جديد غير قابل للانحسار، بل العكس هو الصحيح. فثورة الاتصالات جعلت من العالم قرية حقيقية، وبات الأفراد ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني على اتصال بما يجعل تبادل القيم والأفكار والمعلومات أمرًا مكثفًا.
ومن ثم باتت فكرة عزلة الدولة أو الفرد عن البيئة الدولية أمرًا من ضروب الخيال، وهو ما يجعل ما يحدث في قارة ما يؤثر على قارة أخرى بعيدًا عن البعدين الزمني والنسبي. وهذا يؤكد على النقطة السابقة بأن الدولة لم تعد تملك تحديد مصيرها بمعزل عما يجري في العالم من حولها، فحادثة في دولة كفيلة بأن تغير مستقبل دول أخرى.
رابعًا: واتصالاً بما تقدم، لم يشهد العالم منذ بدء الخليقة إلى اليوم الكثافة الراهنة من وتيرة التفاعل بين الدول والكيانات بداخلها وخارجها، وذلك على مختلف الأصعدة. هذه الكثافة منقطعة النظير تمثل في حقيقة الأمر عاملاً محركًا للسياسة الدولية والداخلية لا يمكن التنبؤ بمسيرته. إن هذا حقًا أخطر عوامل التغيير على المستوى الدولي. وعلى سبيل المثال، فإن التجارة الدولية بلغت مرحلة لا يمكن تخيلها، بل إن وتيرتها ستزيد بمنتهى القوة خلال السنوات القادمة. وكذلك غدت حركة الاستثمار الدولي كفيلة بتغيير مستقبل الدول. وكل هذه العوامل تدفع بارتفاع ما يسمى بحالة «الاعتمادية المتبادلة» Interdependence بين الدول والكيانات المختلفة بداخلها، بل إن هذه الظاهرة قد أصابت الأفراد ذاتهم.
خامسا: اجتماع كل هذه العوامل جعل من الدولة، ككيان أوحد ومستقل لتحريك التاريخ، أمرًا في الماضي. وهو ما جعل النظرية التقليدية للسيادة المطلقة للدولة في حالة تغير ملحوظ من خلال طرح مفاهيم جديدة مثل «مسؤولية الحماية» أو «السيادة المقيّدة» التي أخلت بقبضة الدولة على مجتمعها وإقليمها بشكل لم يكن معروفًا من قبل. إن مصير الدول لم يعد محسومًا بقوة إدارة الدولة وحدها، بل صارت الدولة مرتبطة بسلسلة من المتغيرات القيمية والعملية والفكرية والقوة النسبية التي يستحيل حصرها أو تقييم مدى تأثيرها على مستقبل الدولة وكياناتها.
لقد أثرت كل هذه العوامل مباشرة على حركة التاريخ، وحوّلت كثيرا من الثوابت إلى متغيرات غير قابلة للدراسة المنفصلة عن بعضها البعض بكل ما فيها من تعقيد. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو ما إذا كان التاريخ قد بات وسيلة غير مجدية لفهم الحاضر واستشفاف المستقبل؟
الإجابة في تقديري هي أن التاريخ سيظل مطلوبًا، اليوم، ولعله يكون أكثر من أي وقت مضى لفهم الحاضر. لكننا بحاجة للسعي لفهم العوامل الجديدة المؤثرة عليه وعلى الإنسان لوضع حد لحالة التلعثم الفكري التي أصابت بعض قدرتنا على فهمه على مدار ربع قرن من الزمان بسبب كثرة المتغيرات واهتزاز بعض الثوابت. وبالتالي، فإننا لسنا في حاجة لمحاولة تطليق التاريخ والفكر من حاضرنا لصالح مستقبلنا، بل إننا نحتاج إلى وسائل مستحدثة لفهم هذه الخريطة الجديدة التي نقف مذهولين أمام تعقيدها.
إن الإنسان هو الإنسان منذ بدء الخليقة بكل ما له وما عليه، بكل فكره وغرائزه وتوجّهاته، وهو في نهاية المطاف صانع التاريخ وسيظل صانعًا له.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.