سينما لبنانية تخرج من تحت رماد الحرب‬

‬تزايد عدد المخرجات أهم معالمها في 2015 ‬

«الباريسية» لدانييل عربيد‬ و من «روحي» لجيهان شعيب‬
«الباريسية» لدانييل عربيد‬ و من «روحي» لجيهان شعيب‬
TT

سينما لبنانية تخرج من تحت رماد الحرب‬

«الباريسية» لدانييل عربيد‬ و من «روحي» لجيهان شعيب‬
«الباريسية» لدانييل عربيد‬ و من «روحي» لجيهان شعيب‬

* ‬حققت السينما اللبنانية انتصارين جيدين وثمينين في العام الماضي: جائزتين جديرتين بالاهتمام حقق أولهما فيلم رسوم متحركة قصير عنوانه «موج 98» لإيلي داغر عندما قطف السعفة الذهبية لأفضل فيلم قصير من مهرجان «كان» الماضي، والثاني «فيلم كتير كبير» لميرجان بوشعيا، الذي خطف جائزة الدورة الأخيرة من مهرجان مراكش السينمائي.‬ مدة عرض الفيلم ليست مشكلة أو وضعا ذا أهمية، خصوصًا بالنسبة لفيلم «موج 98» وهذا عائد إلى أن الفوز بسعفة من «كان» لم يقع من قبل لفيلم لبناني مطلقًا، كذلك لم يقع لفيلم عربي إلا مرّة واحدة، عندما نال الجزائري محمد لخضر حامينا السعفة الذهبية سنة 1975 عن فيلمه «وقائع سنوات الجمر». ثم ليس الطول بأي أهمية عندما نتذكر أن «كان» جاء حافلاً بالأفلام القصيرة المنافسة ما يجعل توجه الجائزة إلى من فاز بها إنجازًا جديرًا بالاهتمام.‬

* فترة سوداء‬

* إلى جانب هذين الانتصارين، هناك حقيقة أن السينما اللبنانية منتعشة كما لو أن السماء أمطرت فوق حقل من الورد في الوقت المناسب. ففي عام 2015 تم عرض أفلام لبنانية كانت صوّرت في مطلع العام أو في العام السابق، وهناك ما صوّر في سنة 2015 وينتظر عروضه. في الحصيلة نحو سبعة أفلام لبنانية جديدة في بلد ما زالت صناعته عرضة لظروف كثيرة منها ما هو سينمائي، كافتقار قاعدة جماهيرية ثابتة، ومنها ما هو أمني، كافتقار البلد إلى استقرار أمني ثابت. ‬
هناك أربعة أفلام طويلة من إخراج نساء، هي: «3000 ليلة» لمي المصري و«باريسية» لدانييل عربيد و«23 كيلومتر» لنورا كيفوركيان و«روحي» لجيهان شعيب. هذا الأخير هو أفضلها بناء وحنكة تنفيذ. لكن الأفلام الثلاثة الأخرى جديرة بالاهتمام المتوازي ولو تعددت الأسباب. من بينها فيلم تسجيلي وحيد هو «23 كيلومتر». ‬
وهناك فيلم آخر جديد ومن إخراج سيدة هو «جلد» لعفراء باطوس. هذا الفيلم، مثل «3000 ليلة» اعتمد على أكثر من مصدر للتمويل، فهو يحمل رايات لبنان وسوريا وتركيا والإمارات العربية المتحدة. ‬
المعالجات التي تؤمنها هذه الأفلام متباينة حسب مرجعية كل مخرجة وأسلوب التعبير الذي تعتمده لموضوعها، كذلك الحال بالنسبة للمخرجين الذكور الذين شاهدنا من بين أعمالهم، علاوة على فيلم «فيلم كتير كبير»، «بالحلال» و«غدي». الأول للعائد بعد غياب طويل أسد فولدكار والثاني لمخرج جديد اسمه أمين درة.‬
ومع أن الكثير من الأفلام اللبنانية تخطت موضوع الحرب، من دون أن تهجره تمامًا، إلا أن تلك الفترة السوداء في تاريخ لبنان الحديث ماثلة على أكثر من صعيد في عدد لا يستهان به من الإنتاجات اللبنانية.‬

* من لبنان وإليه‬

* بطلة «الباريسية» تهاجر إلى فرنسا بسبب الحرب وحال ما بعد سنواته. في حين تعود بطلة «روحي» إلى لبنان (من باريس) بحثًا عن الماضي كاشفة اللثام عن تورط عائلتها في عمليات خطف وقتل.‬
«موج 98» يدور حول قطيعة سابقة لبطله الذي قرر النزول إلى الوسط التجاري للعاصمة بيروت لأول مرّة. و«23 كيلومتر» يتحدّث عن الرجل الذي اقتطعت الحرب سنوات عدّة من حياته وعندما انتهت اقتطع المرض باقيها.‬
هذا يُضاف إلى ما صوّر آنفًا (سنة 2014) وتعامل باقتراب أكثر من الحرب وتبعاتها مثل الفيلمين التسجيليين «الميراث» لفيليب عرقتنجي و«لي قبور في هذه الأرض» لرين متري. أفضل الأفلام التسجيلية التي تم تحقيقها في لبنان خلال هذه الفترة.‬
وفيما تمّـت مشاهدته بالفعل يبرز «روحي» لجيهان شعيب كأفضل فيلم روائي طويل تمّ تحقيقه. إنه ‬ نوع من الأفلام أنتجت مثله السينما اللبنانية الكثير. ذلك النوع الذي يبحث في الحرب اللبنانية وتبعاتها على الشخوص الحاضرة. لكنه يختلف في معالجته الحانية والدقيقة لما يتفاعل في شخصيته الرئيسة من عواطف. تنتقل جيهان شعيب من الفيلم القصير إلى الفيلم الروائي الطويل بجدارة. تضع بطلتها في محوره وتجعل الجميع بمن فيهم المشاهدون، يدورون حولها. لقد عادت بعد غربة طويلة. تركت لبنان صغيرة وعادت شابة تجر تلك الحقيبة الصغيرة لتجد بيت الأهل في قرية قرب مدينة عاليه خاويا ومهجورا. تدخله كما لو كانت تدخل أتون متحف مهجور. سيكون هذا البيت الكبير، بتصميمه العمراني القديم، محطتها، إذ لن تتركه رغم محيطها الرافض لها ورغم ما يكتنفها من أسئلة حول ماضي أسرتها وموقف أهل «الضيعة» منها. في النهاية تقرأ «نحبك يا لبنان». عبارة لا تسعى لتسجيل هدف وطني بل لتحديد قرارها بالبقاء.
‫‬



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).