حكايات بيروت في رواية بولونية

ستانيسواف ستراسبورغر يتحدث في لندن عن روايته الأخيرة «هوس لبنان»

غلاف الرواية  -  ستانيسواف ستراسبورغر
غلاف الرواية - ستانيسواف ستراسبورغر
TT

حكايات بيروت في رواية بولونية

غلاف الرواية  -  ستانيسواف ستراسبورغر
غلاف الرواية - ستانيسواف ستراسبورغر

بدعوة من الصالون الثقافي في لندن، ألقى الكاتب البولندي ستانيسواف ستراسبورغر محاضرة عن روايته الأخيرة «هوس لبنان» في جامعة «سواس» كلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن حضرها عدد من الأساتذة والطلاب الأجانب والعرب.
ويمكن تقسيم رواية «هوس لبنان»، التي مسرحها العاصمة اللبنانية، بيروت، إلى قسمين:
القسم الواقعي يعالج التاريخ المعاصر للشرق الأوسط، وخصوصًا لبنان. والقسم الخيالي يركز على شخصيات ثلاثة وهم المراسل البولندي «يان» وامرأتان.
في سياق معالجة القسم الخيالي يخبرنا ستانيسواف بالتفصيل عن الشخصيات الرئيسة في روايته فيقول إن واحدة من المرأتين هي حبيبة المراسل وتدعى «إينا» وتنحدر من أصل أوكراني، لكنها هاجرت من أوكرانيا لتستقر في ألمانيا. وهي عالمة رياضيات وفي وقت فراغها راقصة باليه.
وقد حضرت مع المراسل إلى بيروت بسبب ظروف عمله. وحين وصلت «إينا» إلى بيروت قررت دراسة الدكتوراه في الجامعة الأميركية لأنها أرادت الاندماج في المجتمع. وحاولت أن تتأقلم مع حبيبها من خلال هذا الاندماج.
أما المرأة الأخرى «شيرين» فهي من أب أرمني لبناني وأم روسية. ولدت في برج حمود وهي صيدلانية وكانت تساعد المراسل في التحرك والبحث.
ويوضح ستراسبورغر أن علاقة عاطفية معقدة نشأت بين الثلاثة: «يان»، و«إينا»، و«شيرين».
فيان تمزق بينهما لأنهما تشكلان الخيارات المتاحة أمامه إما بالبقاء في بيروت مع اللبنانية أو بالعودة إلى الغرب مع الأوكرانية.
أما القسم المتعلق بالواقعية فيركز من خلاله ستانيسواف على البحث الذي قام به عن المجتمع والتاريخ المعاصر والسياسة اللبنانية لأنه لم يجد كتبا مدرسية عن المرحلة المعاصرة في التاريخ اللبناني.
وهو يبدأ من تاريخ استقلال لبنان. وقد قرر أن يروي بطريقته، مركزا على ذاكرة الفرد وذاكرة الجماعة، وليس على التسلسل التاريخي كما تجري العادة في الكتب المدرسية.
ويذكر المؤلف أن مفتاح الإلهام في هذه الرواية كان عرضًا فنيًا شاهده في الروضة. فالممثلون في العرض علّموه أن المدينة ليست مبنية فقط من الحجارة وإنما أيضًا من قصص الناس المقيمين في بيروت. لذلك بدأ بتجميع القصص من الناس العاديين ومن الإعلام ومن الباحثين وتركيبها في عمل أدبي مثير.
لم يهدف الكاتب من خلال القصص التي يرويها حسب قوله أن يقدم حقيقة التاريخ، بل أراد أن يظهر التاريخ من خلال رؤية الناس له «لذلك كان يروي التاريخ ولا يدونه»، كما يقول.
كتب ستراسبورغر روايته باللغة البولندية وقد حازت على إعجاب كبير من معظم القرّاء والنقاد في بلده، كما ستصدر بترجمة إنجليزية، كما قام بقراءة أجزاء من روايته في عدة مهرجانات أدبية في مدن أوروبية مختلفة كان آخرها «مهرجان الأدب» في بولندا.
لماذا بيروت بالتحديد؟
يجيب ستراسبورغر: اخترت بيروت بشكل خاص ولبنان بشكل عام لأنه مفتاح لمنطقة الشرق الأوسط بكاملها.
فلبنان كان بمثابة شباك صغير تمكنت من خلاله رؤية التركيبة السياسية والاجتماعية للمنطقة.
ومن جهة أخرى، لبنان هو البلد الأقرب لروح القرّاء الغربيين.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.