قراءة في كتاب: السياسة الدينية والدولة العلمانية.. مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية

دراسة تكشف التنوع المكتنف بالتعقيد لتطور السياسة وتفاعلات الدين والمجتمع مع كل من الحداثة والعلمانية

جون كيندي  تبنى رؤية مسكونية للدين بدعم وتشجيع الوحدة بين جميع معتنقي المسيحية على اختلاف مذاهبهم والمجتمع («الشرق الأوسط»)
جون كيندي تبنى رؤية مسكونية للدين بدعم وتشجيع الوحدة بين جميع معتنقي المسيحية على اختلاف مذاهبهم والمجتمع («الشرق الأوسط»)
TT

قراءة في كتاب: السياسة الدينية والدولة العلمانية.. مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية

جون كيندي  تبنى رؤية مسكونية للدين بدعم وتشجيع الوحدة بين جميع معتنقي المسيحية على اختلاف مذاهبهم والمجتمع («الشرق الأوسط»)
جون كيندي تبنى رؤية مسكونية للدين بدعم وتشجيع الوحدة بين جميع معتنقي المسيحية على اختلاف مذاهبهم والمجتمع («الشرق الأوسط»)

تأتي دراسة البروفسور سكوت هيبارد التي جاءت في كتاب «السياسة الدينية والدولة العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية» لموضوع السياسة الدينية والدولة العلمانية لتكشف التنوع المكتنف بالتعقيد لتطور السياسة وتفاعلات الدين والمجتمع مع كل من الحداثة والعلمانية. ولقد بلور هيبارد، وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة دي بول الأميركية (وهي جامعة كاثوليكية بمدينة شيكاغو)، أطروحة جديدة تنطلق من السياسات العمومية، لتجاوز تفسيرات الأطروحات التقليدية التي اعتمدت على التفسير الاحتجاجي الحركي للدين؛ وكذلك لتجاوز المقولات التي تزعم أن المذاهب الأصولية تطوّرت في ظلت تنامي موجة الحركات الاجتماعية، سواء في الجغرافيا الغربية العلمانية، أو في الشرق الهندوسي والإسلامي.
البروفسور سكوت هيبارد يشرح في «السياسة الدينية والدولة العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية» أطروحته التفسيرية للتحوّلات المتفاعلة بين الدين والسياسة، اعتمادًا على البحث في طبيعة السياسات العمومية المتبعة في الولايات المتحدة. ويسجّل أن عناصر القومية الأميركية تحوّلت إلى «دين مدني»، كرّسته الثقافة الليبرالية المتبعة في هذا المجال، قبل أن يتحول هذا المخزون الجماعي نحو تعاطٍ جديد في الخطاب السياسي الديني. ويمضي قائلا: إنه يمكن القول: إن الانتخابات الرئاسية للعام 1968م شكّلت تحوّلاً تاريخيًا داخل السياسة الأميركية، حين «سعى (ريتشارد) نيكسون إلى استقطاب المسيحية المحافظة من أجل القضاء على الهيمنة السياسية للحزب الديمقراطي. وبذلك ساعد على إعادة تعريف إطار الجدل الآيديولوجي لمعظم ربع القرن المقبل» (ص 265).
وفي ظل الصراعات السياسية والاهتمام المتزايد بالأغلبية الصامتة المحافظة، اختلط بسهولة الدين بالقومية، وكان الإيمان بالله والإيمان بالوطن يعزّز كل واحد منهما الآخر سياسيا. ويبدو أن هذا المسار رسم توجّهًا جديدًا للدولة والمجتمع السياسي، وعكسته «السياسة الثقافية لحقبتي الستينات والسبعينات من القرن الماضي التفسيرات المتنوعة لكل من الدين والمجتمع التي أرشدت السياسة الأميركية لفترات طويلة. ولقد ارتبطت التفسيرات الليبرالية (أو العصرية) للتقليد المسيحي بالسياسة التقدمية لليسار الأميركي، بينما ارتبط التفسير الأكثر حَرْفية أو البروتستانتي بسياسة اليمين» (ص 280). وساعد كل هذا على ظهور وانتشار التفسيرات «الرجعية» للدين ليس بسبب رجعية الدين نفسه، بل لما تعرّض له باعتباره مُعتقدًا جمعيًا وطنيًا من استغلال سياسي مارسته النخب العلمانية، وبالتالي، ساهم كل هذا في إعادة تشكيل السياقات الحالية. وهذا الاختيار شكل بدوره الصورة التمامية للسياسة الدينية بعد الحرب الباردة، في الولايات المتحدة الأميركية والشرق، خاصة، في الهند ومصر.
إن ما بدأه ريتشارد نيكسون، ولاحقًا رونالد ريغان، في أميركا استثمره وزاد عليه جورج بوش «الابن»، ووجه السياسات العمومية وصناعة القرار السياسي بشكل جعل من الدين (المسيحي تحديدًا) مرجعية سامية ومؤيدة للفعل السياسي الداخلي والخارجي. وهذا ما يفسر ظهور جيل جديد من السياسيين اليمينيين المسيحيين، الذين أصبحوا نجومًا وشخصيات عامة مؤثرة في صناعة السياسات وشنّ «الحروب على الإرهاب».
في مصر، رغم محاولات الرئيس الأسبق الراحل جمال عبد الناصر غرس الأعراف العلمانية، وصدامه التيارات الدينية التقليدية، وسيطرته على مقدّرات الأزهر؛ تجدّد الجدل حول الإسلام غداة «حرب 5 يونيو (حزيران) 1967م». وكان تحالف أنور السادات مع الإسلام المحافظ بهدف «شرعنة» حكمه العسكري بداية لديناميات وسياسات جديدة لدولة تعتبر نفسها «دولة الانفتاح» الليبرالي. وسهّلت سياسات «التحرر» التي قادها السادات سيطرة الإسلام المحافظ على السياسة المصرية، وتعزّز ذلك بإشراك النظام السياسي المصري للمؤسسات الدينية في جهده الخاص بإعادة تعريف الأساس الآيديولوجي للدولة، والذي كرّسه دستور 1971م في المادة الثانية، وتعزّز بتعديل 1980م. وهذا المنحى «التحرّري» استغله السادات لتبرير التحولات الاقتصادية، والسياسية ذات الارتباط الإقليمي والدولي التي تزعّمها؛ بينما استغلته التيارات الدينية وفي مقدمها الإخوان المسلمون للعودة إلى الحياة العامة بنشاط وهمة. وكانت النتيجة مفارقة كبيرة، تمثلت في بروز القوى الإسلامية باعتبارها المعارضة الحقيقية للدولة التي رعت عودة الإسلام المحافظ إلى الفضاء العام.
أمام هذا الوضع، اختار الرئيس حسني مبارك، فيما بعد، تسييج السياسات العمومية بطابع لا يخلو من التفسيرات الدينية، معتبرًا نفسه الحامي الجديد لعقيدة الجماعة المصرية، ومستهدفًا التضييق على الجماعات الإسلامية وفي مقدمتها جماعة «الإخوان المسلمين».
ونظرا للدينامية الاجتماعية للدين، وجد حسني مبارك نفسه في تحالف مع المؤسسة الدينية الرسمية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، ما قوّى نفوذ التفسير «الرجعي» للإسلام داخل مؤسسات الدولة. كما احتاج مبارك لتنظيم جماعة الإخوان لتجاوز ضعف الأزهر في معركته ضد الجماعات المسلحة الإرهابية التي ترفع شعارات «الإسلام الجهادي»؛ وهذا ما صعّب من قدرة الدولة في تعاملها مع القوى الإسلامية، وأنتج توسعا كبيرا للقوى المحافظة والمتشددة، وخلّف أثرًا سلبيًا على الحريات العامة والسياسات العامة، والتعامل المجتمعي مع الأقباط.
أما في الهند فلقد ارتبطت السياسة بالقومية الهندوسية بشكل لافت منذ تسعينات القرن العشرين، ما شكل تراجعًا عن الهوية العلمانية التي تبنّاها زعيم الهند الاستقلالي التاريخي جواهر لال نهرو. غير أن هذا النظام الذي أرسى دعائمه نهرو لم يكن محطّ إجماع مجتمعي. ومن هنا استطاع حزب «بهاراتيا جاناتا» القومي الهندوسي أن يصعد لسطح المسرح السياسي الهندي مستغلا تراجع النخبة العلمانية التي أضعفتها خلافاتها. وحصل هذا عندما شهد الوضع العام تغيرات مهمة تزامنت مع فترة الطوارئ لعام 1977 حين سعت أنديرا غاندي، وبعدها ابنها راجيف، إلى اللعب على الوتر الديني الهندوسي لتحقيق غرضين مهمين: تمثل الأول في حشد الطائفة الهندوسية وجعلها قاعدة انتخابية لحزب المؤتمر، والثاني في محاربة النزعات الانفصالية التي تواجهها الدولة.
غير أن هذا الاختيار السياسي، اعتبره هيبارد أداة فعالة لاستئصال «العلمانية النهروية» (نسبة إلى نهرو)، وبروز العنف الطائفي الذي تبناه «المجلس الهندوسي العالمي» وغيره من التنظيمات الدينية، وسط توسع كبير للخطاب الآيديولوجي الديني لحزب «بهاراتيا جاناتا». وبتفاعل هذه العوامل مع الاختيارات السياسية الرسمية للدولة، شهدت الهند تحوّلات راديكالية نحو إنهاض الأعراف الدينية التقليدية، المُقصية للمذاهب والأديان غير الهندوسية، وظهر ما يمكن تسميته بـ«العنف الانتخابي». وفي ظل هذا المسار الجديد واجه «الإجماع» العلماني الذي كان سائدًا بعد الاستقلال مصيرًا غامضًا، سرعان ما تحوّل إلى انتصار ساحق لسياسة هندوسية قومية متحالفة مع الطبقات الوسطى.
وعلى الرغم من العودة القوية نسبيًا لحزب المؤتمر منذ انتخابات 2004م، التي فُسرت بالرغبة في تغيير سياسات حزب «بهاراتيا جاناتا» المثيرة للشقاق المجتمعي، فإن التنبؤ بالمستقبل يبدو في غاية الصعوبة، وبخاصة، أن المؤشرات الاجتماعية تفيد أن المشروع العلماني يواجَه بمشروع موازٍ له قاعدته الشعبية القوية ونُخبه السياسية المؤثرة.
خلاصة القول: إن كتاب «السياسة الدينية والدولة العلمانية» لسكوت هيبارد - الذي ترجمه الأمير سامح كريم، ونشرته سلسلة عالم المعرفة عام 2014 م - يعد واحدًا من الدراسات التوثيقية والتفسيرية المهمة التي تناولت السياسة الدينية، وتفاعلات السياسة والسلطة مع الدين والقوى الدينية في الدول الثلاث التي درسها بعمق، أي الولايات المتحدة ومصر والهند. ولقد خلص الكاتب لنتيجة مهمة مفادها أن الدين ما زال محوريًا في بناء الهويات الجماعية، وتحديدًا، القومية للدول موضوع الدراسة؛ وأن الدين قوة فعالة استخدمت من طرف المسؤولين السياسيين لأغراض حسنة وسيئة.
ومع أن الباحث أخذ على نفسه مسؤولية النظر للموضوع من زاوية السياسة العمومية، فإنه انجرّ للحديث بشكل مطوّل عن قضايا جانبية، مما حوّل دراسته لبحث توثيقي أكثر منه مقارناتي أو تفسيري. كما أن البروفسور هيبارد لم يتخذ أي موقف سلبي تجاه السلطة السياسية القائمة على العنف تجاه القوى الدينية، بل يمكن القول: إنه واحد من الباحثين الأميركيين المؤيدين «بشكل ضمني على الأقل» لاستعمال العنف ضد التيارات الدينية، في مصر خاصة.
* استاذ في جامعة محمد الخامس
الرباط - المغرب



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».