ضمير متكلم في مغامرة لغوية تكسر النمطي

«ظلال تسقط إلى أعلى» للمغربية عليّة الإدريسي البوزيدي

ضمير متكلم في مغامرة لغوية تكسر النمطي
TT

ضمير متكلم في مغامرة لغوية تكسر النمطي

ضمير متكلم في مغامرة لغوية تكسر النمطي

كل نص شعري، اليوم، يمثل اختراقًا، حتى لو كان غير مرئي، مثل شهاب خجول في سماء ثقافتنا العربية المشغولة بكل شيء عدا الشعر. كتابة نص شعري حالة كفاح شاق يخوضها الشاعر ليعلن عن وجوده رافعًا لافتة صغيرة تحمل دعواه: أيها العالم كن أقل قسوة!
ولما كان شعرنا العربي، اليوم، ساحة كلام مفتوحة على الفوضى الشاملة، وسط جزر متناثرة، مغلقة على نفسها ثقافيا ومعرفيًا، يسوطها إعلام نشيط لكنه مريب، فالتقاط المختلف من الشعر يمثل لقية نادرة وسط أكوام القش. دائما ثمة «لقية نادرة» مهما أسرف الكلام في صراخه الشاسع والشائع، ليتمكن النقد من الإشارة إلى موجة بحر مختلفة وإن تشابهت الأمواج لأول وهلة.
ديوان الشاعرة المغربية عليّة الإدريسي البوزيدي «ظلال تسقط إلى الأعلى» الصادر حديثًا عن منشورات بيت الشعر في المغرب - 2015، «يتشكّل» محاولاً أن يمثل تلك الموجة المختلفة لدواعٍ عدة منها تلك المغامرة اللغوية التي تخرج عن الصدد، عامدة، وهي تكسر النمطي، أو «تشويه الجامد» على حد تعبير شارل بودلير. من هنا يجيء هذا الديوان «لقية نادرة» إذا حسبنا عمر التجربة الفتية لهذه الشاعرة المجتهدة.
* مغامرة لغوية
تنبني تلك المغامرة اللغوية على مغادرة الجملة التقليدية التي تتمسك ببنيتها وهي تدعي «المعنى» المحمول في طياتها كما درج الكثير من الشعر العربي المعاصر، فثمة «فجوة ضرورية» بين المفردات المتجاورة، المتحاورة، داخل النص، الأمر الذي يؤلف تلك الدهشة المنشودة التي ينتظرها قارئ منشود، إذ أدارت هذه الشاعرة ظهرها لإرث ثقيل من تراكم الغبار والسير بلا خطة مسبقة لكتابة قصيدتها، لكنها ثمة خطة ترتجلها القصيدة أثناء الكتابة في حال من التداعي المنهمر وهو يترك خلفه تلك الفخاخ المفاجئة خلال كل سطر تقريبًا، والتي وصفناها، قبل قليل بـ«فجوة ضرورية» يستدعيها البناء الشخصي للنص، كما تقترحه الشاعرة لتزداد احتمالات التأويل والفحص القرائي بعيدًا عن الغايات المرجوة لنص معروف سلفًا:
«أبي كان فلاحًا/ على أرضه يربي البسمات.
في حياة سابقة/ تركني أضحك للملائكة/ وأغلق قبره عليّ».
من أولى قصائد الديوان بعنوان «ماذا لو سلّفتك مجدافًا».
عدا جملة «أبي كان فلاحًا» السردية، الابتدائية، يأتي خبر «كان» لنعرف ما لم نتوقع: إنه يربي البسمات. فهو لا يربي الطير ولا الشجر ولا الزهور. وتربية البسمات مجاز استعاري يغني الجملة السردية، الابتدائية، بأن فتحها على انبثاق فكرة مستحدثة. وإذا كان بإمكان الشاعرة أن تقول «فيما مضى» كعبارة سهلة تفرضها عادات اللغة السائرة نراها تقول «في حياة سابقة» لأن الحياة السابقة تعبير عن غنى وتجارب ومفارقات وآلام وأفراح.. إلخ، لتضعنا عند نقلة زمنية ذات دلالة، لتعقبها بـ«تركني أضحك للملائكة» هنا، أيضًا استحضار ميتافيزيقي على شكل طفلة تضحك للملائكة بدلالة أنها تبدأ بالحديث عن الأب.
ثم تقول: «وأغلق قبره عليّ»، هنا ثمة نقلة أخرى. ثمة أب ميت، إذن، وهو داخل قبره، لكنه تحرك وأدى فعلاً مقصودًا، على غرابته، عندما أخذ ابنته معه إلى القبر وأغلق عليها.
لا تفسير منطقيًا، هنا، وتلكم خصيصة شعرية معروفة، لكن ما تدركه الشاعرة هو التقاط حالة ميتافيزيقية عمودية تبدأ من فوق «الضحك للملائكة» وتنتهي تحت «قبر الأب».
أو عندما تقول: «لو سلّفتكَ مجدافًا/ قديمًا/ أيها الظل/ هل يمكنني السهر؟» - من القصيدة نفسها. هنا ثمة ثلاثة عناصر أساسية يقوم عليها المشهد: المجداف القديم والظل والسهر. رغم «الفجوات الضرورية» في سياق اللغة، لكنها تلجأ إلى شكل من الكولاج مادته العناصر الرئيسية الثلاثة المذكورة لتترك القارئ يفكك ويركب على هواه رغم العلاقة الجديدة التي ابتكرتها الشاعرة في كولاجها من تلك العناصر غير المتناسقة.
أو قولها: «أخيط الماء كي لا يسيل». هنا صورة للضمير المتكلم وهو يستعير المستحيل ليحوله شعرًا، فهو لا يكشف عن «استحالة» اللحظة المضطربة، بل يخفي يأسًا لا يُعبّر عنه إلا شعرًا.
* عالم داخلي
قصيدة البوزيدي خطاب على لسان الضمير المتكلم، حيث تمحو الضمائر الأخرى (عدا مخاطب عابر ينوس هنا وهناك) وبذا فثمة طاقة مستترة لاستنطاق الذات وكأنها تكتب في ظلام دامس، فتكاد لا ترى من حولها أي مَعلَم خارجي غير صوتها الداخلي وهو يبوح بهمس مسموع، كما يعرفه المسرحيون.
يكاد الديوان يقوم على ذلك البوح عن عالم داخلي صادر عن الضمير المتكلم معبرا عن حالة اختناق شديدة وسط قحط ضاغط بمواجهة بوح مضغوط، ومن هنا يأتي إصرار القصيدة على قولة «أنا، أنا، أنا، وبأشكال متعددة، متلازمة ومتنافرة ومتكاملة ومبتورة بهمس مسموع. نادرا ما يخلو سطر من سطور الشاعرة من الضمير المتكلم بصيغة فعل من الأفعال الخمسة ولنأخذ مثلاً، من قصيدتها «سأضع ظلي فوق كتفيك» (ص9):
«لستُ ظلاً لأنخر هذه الأرض التي لا أعرفها». لست (أنا) لأنخر (أنا) لا أعرفها (أنا).
أو: «ماذا لو قوّستُ ظهري (أنا) لأكون قوس قزح (أنا) لا يزعجني (أنا) اجتماع الطيور في غرفتي (أنا) ولا سماء تشبهني (أنا) في الليل/ كرحيق منديل أرملة تضع في عنقها (هي) خاتما مات في الصورة»! ثمة ضمير الغائب المؤنث وحيدًا بين «الأنوات» في مقطع شعري كامل يقف مخذولاً في خاتمة حزينة (خاتم مات في الصورة).
فعل المتكلم الذي يستأثر بالمجموعة، كلها، بدءًا بعنوان أولى القصائد «ظلي يسرقه الغبار» نتعثر بـ«ظلي» حيث المضاف إليه «أنا» وهذا لا يصدر إلا عن حالة ضمير متكلم مختنق بما ينوء تحته: إما صمت قاهر لم يجد مسربًا، وإما صوت مدوٍّ كما يصدر من أكثر المخلوقات حزنا.
«ظلال تسقط إلى أعلى» باقة قصائد من بنفسج حزين تكرر ثيمتها ولا تكررها في آنٍ، وهي الوحدة في أكثر حالاتها سوريالية، إذا ما حسبنا أسلوب التداعي المتدفق والعلاقات اللغوية المبتكرة وتلك الوثبات المتواترة التي لا يبديها إلا غزال مسحور أو مطارد.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟