الحقيقة ومواطنها.. من كهف أفلاطون إلى عصر الصورة

كل شيء حدد لنا سلفًا ولسنا دائمًا أحرارًا كمستهلكين

الحقيقة ومواطنها.. من كهف أفلاطون إلى عصر الصورة
TT

الحقيقة ومواطنها.. من كهف أفلاطون إلى عصر الصورة

الحقيقة ومواطنها.. من كهف أفلاطون إلى عصر الصورة

يعتقد جميع الناس أن ما يعرفونه ويرونه، هو الحقيقة بالنسبة إليهم وإلى الجماعة التي ينتمون إليها. لكن العلم يقلب، في كل مرة أوهامنا، ويكشف لنا أن أغلب ما اعتقدنا بأنه حقيقي، ليس سوى رأي، ومعرفة تلقائية وظنية، وصور متغيرة. وقد عالج الفيلسوف اليوناني أفلاطون، إشكال الحقيقة في أسطورة سماها بأسطورة الكهف، في كتابه الشهير «الجمهورية». في تلك الأسطورة، يدعونا أفلاطون، إلى تخيل مجموعة من السجناء المحبوسين في هذا الكهف، مقيدي الأيدي والأرجل، بحيث لا يستطيعون الفكاك أو الالتفات إلى الخلف، بينما توجد خلفهم كوة يدخل منها نور الشمس، وتوجد كل الأشياء الحقيقية، لكنهم لا يستطيعون رؤيتها لأنهم مقيدون. لذا فإنهم يكتفون بالنظر أمامهم، ويرون ظلال الأشياء الموجودة خلفهم منعكسة في شكل صور أمامهم. وهكذا يألفون مع الوقت والعادة، رؤية تلك الظلال وكأنها حقائق. وهكذا حسب أسطورة الكهف، فإن السجناء يرمزون إلى كل الناس الموجودين في هذا العالم، بينما الظلال تشير إلى أشباه الحقائق، أو ما ألفوا هم اعتباره حقيقة، وكان شرط الوصول إلى الحقيقة، حسب أفلاطون، هو التخلص من تلك القيود التي تكبلهم في الكهف. هذه القيود التي لن تكون سوى العادات والتقاليد والمعارف الشائعة التي تعلمناها من الكهف الذي نعيش فيه. والكهف هنا، هو المحيط والعالم الذي تربى فيه الفرد وتطبّع به. هذه الظنون والمعارف الظنية، لا يمكن التخلص منها، إلا عن طريق الحكمة، والشك الذي يشتغل به الفيلسوف من أجل الوصول إلى العالم الحقيقي، الذي سماه أفلاطون في أسطورته، بعالم المثل. ونحن نتأمل التصور الأفلاطوني ونشاهد البث الكثيف للصور الإعلانية التي تغزو وتملئ عالمنا، نعيد تأمل هذا التفكيك والانتقال الاستراتيجي الذي عرفه تصورنا للعالم من كهف أفلاطون إلى رينيه ديكارت، وصولا إلى عصر الاحتفال بالصور والاستهلاك، في عصر وسم بعصر الصورة.
هناك عبارتان مشهورتان في تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، تلخصان لنا وتكثف كل التحولات الجذرية التي مست عالمنا. فمن الكوجيتو الحداثي لديكارت (يرى ديكارت أن الأنا، أو الوعي، أو التفكير، أو الذات، أو العقل، هو كل الوجود، وهو القائل «أنا أفكر، إذن أنا موجود»)، إلى الكوجيتو المابعد حداثي: «أنا أستهلك، أنا موجود»، هناك توصيف دقيق لانتقال جذري من مرحلة تاريخية قامت على تصور للإنسان باعتباره مركزا للكون، وباعتباره مركز الثقل الذي تستمد منه كل الموضوعات قيمتها، سواء تعلق الأمر بالطبيعة أو الجمال أو الميتافيزيقا. لكن الإنسان لم يعد في عالمنا اليوم، الثابت الذي تستمد منه الأشياء قيمتها. بل أصبحت الأشياء في مركز الصدارة. لذلك نجد لوك فيري يعلن في كتابه «الإنسان المؤله»، أن الكوجيتو المابعد - حداثي لعصر الصورة، قائم على الاستهلاك، والإفراط في الاستهلاك. وفي سياق هذا الانقلاب، تحضر الصورة باعتبارها الوسيط الذي تشتغل عبره كل الخطابات المعاصرة حول الأشياء. فإذا كان الخطاب الإنساني اشتغل عبر وسيط الكلمة والحامل الورقي منذ أفلاطون، فإن الخطاب حول الأشياء، يشتغل عبر وسيط الصورة البصرية والكلمة. في هذا السياق، يمكننا أن نستحضر الخطابات الإعلانية والصورة الإعلانية، باعتبارهما جزءا لا يتجزأ من عالمنا اليومي. فكل خطاب إعلاني يقدم نفسه باعتبار غايته الأولى: الاهتمام بصحتنا وجمالنا ورشاقتنا. وقد انتبه جان بودريار إلى هذا التوظيف الاستراتيجي والمدروس للنجوم، وخاصة جسد المرأة، حيث يقول انطلاقا من حديثه عن فلسفة الإغواء والإغراء: «يتمثل الإغواء بالنسبة لنا في الشيطان، وقد كان من بين الحيل التي يوظفها، تلك النساء الساحرات الماكرات، الشريرات، أو تلك النساء الجميلات القادرات على الإيقاع والغواية بالرجال. لقد كان الإغواء دائما مرتبطا بالشر والانهماك في الأمور الدنيوية، على حساب الجوانب الروحانية. هكذا كانت النظرة إلى النساء وما تزال في كثير من الثقافات والأساطير المؤسسة». وهو ما يعمل الخطاب الإعلاني على تغذيته، من أجل ضمان السيطرة واستمرار العين المحدقة، التي عبر عنها مشال فوكو، من أجل خلق أجساد طيعة، واستدماجها في صيرورة النظام، وفي قيمه واتجاهاته ومواقفه، حتى نسلك وفق ما يريده القائمون على الصورة الإشهارية، لا كما نختار نحن بإرادتنا. وهذه وظيفة الخطاب الإشهاري، إنه «شرطة جديدة للفكر» وللمواقف والاتجاهات، وهو خالق للحاجة والرغبة والقيمة. ويمكنني أن أتجرأ أكثر، وبتواضع وحذر علمي شديد وأقول: إن الإشهار جعل العالم مليئا بالآلهة، ولم يعد هناك إله واحد، وهذه هي آيديولوجية الإعلان والصورة الإعلانية. فقد بلغ الاهتمام بالنجوم والأيقونات التي يوظفها الخطاب والصورة الإعلانية، إلى حد التقديس، ويكفي أن ننظر إلى عارضات الأزياء ولاعبي كرة القدم.
وحسب السيميولوجي - المهتم بعلم العلامات، سعيد بنكراد: «إن الوصلة الإعلانية لا تبتعد كثيرا في صياغتها لمضامينها عن هذه الصور. فحتى في الحالات التي تحاول فيها إيهامنا أنها تستند إلى قواعد العقل التي تتحكم في الشراء، فإنها تفعل ذلك استنادا إلى منطق صوري، يخفي الدافع والغريزة والانفعال وراء كل فعل شراء. إن الأمر يتعلق بعملية تحرير لهذا الفعل من القيود التي تفرضها المراقبة العقلية والقذف داخل عالم الاستهلاك، متسلحا بانفعالات مستوحاة من مناطق نفسية بالغة التنوع. إن الشراء مرتبط في أغلب الحالات بالانفعالات لا بقرارات عقلية صاحية، ولو تعلق الأمر بمادة استهلاكية نفعية». ورغم أهمية هذا الجانب الإخباري، والبعد الاقتصادي الذي يتضمنه الخطاب الإعلاني، علينا البحث فيما قبل الإخبار والحياد المزعوم للخطاب الإشهاري، من أجل تفكيكه وتحليله والكشف عن خلفياته الآيديولوجية، وكيف يوحد ويوجه ويشكل، ويخلق الحاجة والمواقف والسلوكيات. وإلا فكيف يمكننا تفسير هذا الارتباط الجماهيري مع فريق مثل «البارصا» (برشلونة)، وريال مدريد؟ هذه الفرق التي أصبحت مرتبطة بعلامة «بيبسي» كسلعة أو بـ«كوكا كولا». إن إثارة الرغبات وخلق الحاجة هما بؤرة الرسالة الإعلانية. وعلى هذا الأساس، فإن الرغبة هي في الأصل، ما يمكن أن يحدد باعتباره منتجا للصورة الإعلانية. لذلك وجب التمييز بين الرغبة والحاجة. فالحاجة تستدعي الإشباع، أما الرغبة فتقود إلى أنتاج حالات الاستيهام. وهذا الترابط بين الحاجات وبين الرغبات المتولدة عنها، هو الممر السري الذي يقود إلى فهم المضمون الحقيقي لاستراتجيات الإشهار والصورة الإعلانية التي يشتغل عبرها. وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال تحول المنتج إلى قيمة، فأن تشتري «شيئا» لا يعني تلبية حاجة ضرورية وحسب، بل يعني العيش من خلال هذا المنتج ضمن وضعية كل الذين يقتنون منتجا مماثلا.
إن الصورة الإشهارية تمنح مشروعيتها انطلاقا من التفكير في المستهلك، وذلك بتوفير حاجياته وفرضها عليه. بل الأمر يصير كذلك، عندما يفكر في مستقبله وأفق انتظاره، وعندما يحدد نظرته لمعنى الحياة والوجود. فهو قريب منه في جميع أحواله الاجتماعية، ويرافقه في المناسبات حين يحتاج إليه. وهو الحل والبديل، يجيبه عن تساؤلاته التي لم يطرحها أو التي تتبادر لديه، ويملك مفاتيح الإشباع، انطلاقا من آليات اشتغاله وفي بنيته. فهو يحاول أن يخترق الوعي وذلك بإلزام المتلقي وتوجيهه نحو فعل الشراء: «حيث يشير فعل الشراء، أحيانا، إلى التطهير أو إثبات الذات أو الإنفاق كنوع من الخلاص. إن الأمر يتعلق بالصور الأولية التي لا يفسرها السلوك الفردي نظرا لعموميتها، فهي مشتركة بين كل أفراد النوع البشري. وهي صور غامضة، ولا يدركها الفرد بشكل واع، ويطلق عليها سيغموند فرويد (S.freud) البقايا المهجورة»، أي تلك الأشكال النفسية التي لا يمكن لأي حدث في حياة الفرد تفسيرها. إنها تبدو وكأنها فطرية وأصلية، وهي بذلك تشكل إرثا للذهن البشري. «وليس غريبا أن يتوقف الدارسون وهم يحاولون تفكيك آليات الاستراتيجية الإعلانية، عند أبعاد داخل الكائن الإنساني من دون الاهتمام بما تقوله الوصلة عن المنتج وخصائصه. فكل ما تقوله الإرسالية الإعلانية، موجه، في المقام الأول، نحو إرضاء بعض الميول الداخلية التي قد لا يلتفت إليها المستهلك بشكل واع. فهو يعيشها على شكل صور مبهمة، تستوطن لاشعوره في غفلة منه. وهي التي تحدد ردود أفعاله في كثير من الأحيان. فداخل الإنسان تتعايش مجموعة من النزاعات التي لا يحققها دائما بشكل صريح». «فالإشهار والصورة الإعلانية ترومان أن يكون جذابا ومغريا. إنه يمزج داخل الوصلات بين العاطفي والعقلي»، إذ تحكمه ميكانيزمات منطقية وإستاتيكية حتى يقوم بوظيفة الإقناع والتأثير، وذلك عن طريق فك مغالق البنية الذهنية للمستهلك. وهكذا يبدو أن ما كان يراه السجناء هو الحقيقة، وما اعتقده أفلاطون بكونه وهما، أراه اليوم بفعل قوة الخطاب والصورة الإشهارية حقيقة. فانقلب الوهم حقيقة وسارت الحقيقة وهما. وحينما تغيب الحقيقة تصبح الحرية موضع سؤال؟ هل الحرية هي الاختيار حينما نذهب للتسوق بين الأبيض والأسود؟ يجيبنا تيدور أدورنو: «إنها الابتعاد عن الخيارات المحددة سلفا»، وكل شيء في عصر الصورة الإشهارية حدد سلفا، مما يعني أننا لسنا أحرار إلا نادرا!.
مراجع: ميشال مافيزولي، «تأمل العالم، الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية»، ترجمة فريد الزاهي، الرباط، منشورات المعهد الجامعي، سلسلة ترجمات، 2005. سيغموند فرويد، «علم النفس الجماهيري»، ترجمة جورج طرابيشي، «دار الطليعة»، بيروت، 2006. سعيد بنكراد، «الصورة الإشهارية»، الرباط، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى. شاكر عبد الحميد، «عصر الصورة»، الكويت، سلسلة «عالم المعرفة»، العدد 311 سنة 2005.

* أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بالمغرب



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟