من داخل صحيفة الـ«نيويورك تايمز»

شعار ضخم معلق على الحائط الأمامي يذكرك بأول أعدادها عام 1856

من داخل صحيفة الـ«نيويورك تايمز»
TT

من داخل صحيفة الـ«نيويورك تايمز»

من داخل صحيفة الـ«نيويورك تايمز»

في قلب العاصمة الأميركية واشنطن، وعلى بعد أميال قليلة من البيت الأبيض، يقع مبنى مكتب جريدة الـ«نيويورك تايمز». المدخل القديم الذي يشبه مداخل الفنادق الكلاسيكية الأوروبية لا يعكس ما يحدث في الداخل. الأجواء الباردة في الخارج تصبح أكثر سخونة بمجرد أن تدخل إلى المكتب وتشاهد عشرات الكتاب والمراسلين الباحثين عن التقارير والمقالات التي ستشعل مزاج واشنطن في اليوم التالي.
شعار ضخم للصحيفة معلق على الحائط الأمامي يذكرك بعمر هذه الصحيفة التي نشرت أول أعدادها في عام 1856. العديد من قصاصات السبق و«الخبطات» الصحافية لصقها الصحافيون الفخورون بإنجازاتهم. المراسلون يلقون التحية بسرعة وهم يضغطون هواتفهم المحمولة على آذانهم في مكالمات يراودك شعور بأنها طويلة ومضنية بحثا عن معلومة جديدة. محررون آخرون يكتبون على أجهزة الكومبيوتر لكنهم يفعلونها واقفين هذه المرة. استجابة سريعة لعلامة الاستغراب على وجهي، تضع الصحافية إليزابيث بوميلر، نائبة رئيس المكتب، نصف ابتسامة على شفتيها، وتشرح لماذا توضع هذه الكومبيوترات في هذه الأمكنة المرتفعة بالقول «هذه مخصصة لكتابة الأخبار العاجلة». قهقهة خافتة تنفلت منها وتضيف ممازحة «نجعلهم يقفون هنا حتى ينتهوا بسرعة من الكتابة ويعودوا للجلوس». يسمع الصحافي الذي كان يكتب واقفا هذا التعليق الساخر ويكتفي بهز رأسه بالموافقة التي تعني العكس. هناك عدد من الكراسي الفارغة التي تركها الصحافيون والمراسلون بحثا عن الأخبار لدى البيت الأبيض والـ«سي آي إيه» والبنتاغون أو الكونغرس وعدد آخر من أهم الوزارات والمؤسسات التي تشكل جسد المؤسسة السياسية الأميركية.
نمر بجانب استوديو التصوير التلفزيوني. في هذا المكان تقوم المحطات الفضائية باستضافة صحافيي وكتّاب الجريدة. بنبرة منزعجة من طلبات المحطات الفضائية يعلق الصحافي بيتر بيكر، المختص بتغطية شؤون البيت الأبيض، قائلا «لم يعد من المجدي الذهاب للمحطات الفضائية وإضاعة الوقت في الطريق، من هنا يمكن التسجيل على الهواء للتعليق على الأخبار التي ننشرها في الصحيفة». ويضيف متهكما «لكنهم لا يعطوننا أي مال مقابل هذا الظهور. هم يتحدثون عن القصص المنشورة في الصحيفة، ونحن بدورنا نروج لها». تقطع حديثه بوميلر بسرعة «لا، هم يعطون المال فقط إذا سألت عن ذلك وإلا فسوف سيصمتون». ترتسم علامات الدهشة على وجهه ويطلق نصف صرخة «حقا! حقا». تفرقع ضحكات في المكان، وبعد أن يهدأ إيقاعها قليلا يكمل «لماذا لم أسأل إذن؟!».. ليصعد إيقاع الضحكات من جديد. يضم المكتب ركنا مخصصا للكتب والمراجع التي يحتاجها العاملون. ولكن يبدو أنه لا أحد يستعين بالكتب المتراصة بسبب تسارع وتيرة العمل وسهولة البحث في مواقع الإنترنت. تؤكد بوميلر هذه المعلومة وتضيف أنهم سيقومون قريبا بإزالتها وخلق مساحة أوسع للعمل، وتضيف «توجد مكتبات إلكترونية الآن. لم يعد أحد يأتي إلى هنا».
في الطابق السفلي يوجد المكتب الواسع لنائبة الرئيس. لا تمكث هناك إلا قليلا، وإنما تفضل البقاء في الأعلى والعمل مع بقية الصحافيين في التحضير والتخطيط للمواضيع المقرر نشرها في اليوم التالي. في الطريق إلى غرفة الاجتماعات الواسعة تومئ بيدها إلى مكتبها الذي تضيئه بقية أشعة الشمس المتثاقلة التي اخترقت الغيوم الشتائية الكثيفة، وتقول «إذا جلست هناك مع أحد الصحافيين، ففي الغالب أننا نتشاجر حول مشكلة ما. هذا هو مكتب الأزمات». قبل لحظات فقط كنت تشعر بأنها أكثر الشخصيات لطفا التي تقابلها في حياتك، لكنها كشفت بسرعة عن وجه الشخصية القيادية الباردة التي لا تعرف العواطف.
في غرفة الاجتماعات تقف بوميلر ذات الطلة «الميركلية» على رأس الطاولة وتعيد من جديد رسم الابتسامة الودودة، ولكن من الصعب تجاهل الرائحة الحادة للقادة الأذكياء التي تنبعث منها. عملت بوميلر بعد تخرجها في جامعة كولومبيا في مجال الصحافة لجريدة الـ«واشنطن بوست» في طوكيو، ومن ثم نيودلهي. ومن ثم انتقلت للعمل في الـ«نيويورك تايمز» في واشنطن. بدأت عملها في الصحيفة في العاشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001. في صباح اليوم التالي اخترقت الطائرات المدنية برجي التجارة العالمي، وضربت إحداها مبنى وزارة الدفاع، البنتاغون. شاركت بعدها في تغطية موسعة ومتواصلة للأحداث التي أعقبتها اعتُبرت من أميز التغطيات التي قامت بها وسائل الإعلام. قامت بعدها بمتابعة عمل مستشارة الأمن القومي للرئيس بوش حينذاك كوندوليزا رايس، وخصصت وقتها لكتابة سيرة ذاتية عنها. بعد العمل لسنوات كمراسلة داخل الولايات المتحدة وخارجها تقول إنها تشتاق للخروج من جديد من المبنى والعمل في الخارج، لكنها تضيف «لكني أستمتع بعملي الحالي الذي يشبه عمل المدرب في الفرق الرياضية. من الرائع أن تقوم بصناعة مواد صحافية ومشاركة الزملاء في الأفكار والمشاريع التي يريدون إنجازها».
تتحدث بعد ذلك الصحافية الملحاحة، والتي دخلت في نقاش ساخن في إحدى المرات مع السيناتور الجمهوري جون ماكين، بتفصيل أكثر عن عمل المكتب اليومي الذي يعد الأبرز بعد المقر الرئيس في نيويورك، حيث يعمل فيه ما يقارب الخمسين صحافيا، في مختلف المجالات «كنا في السابق نبدأ العمل باجتماع التحرير عند الساعة الثانية عشرة، ولكن مع تسارع وتيرة الأخبار والأحداث بشكل غير مسبوق أصبحنا نجتمع الساعة التاسعة صباحا للحديث بشكل عام عن أبرز القضايا التي ننوي تغطيتها يوم الغد أو الأيام القادمة. ومن ثم هناك اجتماع آخر الساعة الثانية عشرة نتحدث فيه عن المواضيع التي وردت في الساعات الثلاث الماضية. في العادة تتغير خططنا لأن عملنا ليس فقط مرتبطا في واشنطن فقط ولكن في العالم كله. ما يقوله الرئيس الأفغاني كرزاي عن الوجود الأميركي العسكري لا يخص فقط مراسل الـ«نيويورك تايمز» في كابل، بل علينا أن نقوم بتغطية ردود الفعل داخل البيت الأبيض أو البنتاغون. هذا مثال واحد وينطبق على أحداث كبيرة». تلتقط نسخة ورقية من الجريدة ملقاة على الطاولة، ومن ثم تواصل حديثها «في العادة هناك ثلاثة أو أربعة مواضيع في الصفحة من إنتاج مكتب واشنطن. اليوم لا يوجد إلا موضوع واحد، ولكن غدا ستكون هناك أكثر من مادة تحريرية. نحن نوجد بالقرب من البيت الأبيض وأهم الوزارات والمؤسسات. علينا الكثير لنفعله كل يوم».
تمسك بورقة بيضاء مليئة بالخربشات غير المفهومة. هذه الخربشات، كما تشرح، كلمات مختصرة وشفرات خاصة للعاملين في المكتب، عن أبرز المواضيع التي ستنفرد فيها الجريدة. تعتذر عن عدم تمريرها للحاضرين لأنها تحوي «أسرار الجريدة» كما تقول، ولكن من هذه «الأكواد» الأشبه بالطلاسم تتشكل خلاصة المواد التي ستكون مدار حديث الملايين حول العالم والتي جعلت الـ«نيويورك تايمز» تفوز بأكثر من 112 جائزة «بوليتزر». «ما هو آخر موعد محدد لإرسال الأخبار قبل الطبع؟»، عن هذا السؤال تجيب «نحن ككل الصحافيين في صراع غير منته مع الوقت. إذا أتت الساعة السادسة والنصف يتعالى صراخ الزملاء في المكتب الرئيس طلبا للأخبار التي وعدناهم بها. يتصاعد التوتر والضغط العصبي، لكنه ينتهي في الساعة السابعة مساء حيث يجب أن ننهي ما في أيدينا ونبعث به لهم بأسرع وقت. في الغد تبدأ دورة أخرى من التوتر والجدل، لكنه ممتع لأن هناك شيئا جديدا كل مرة. أنا شخصيا لا أغادر إلا نحو الساعة الثامنة والنصف أو التاسعة بعد أن أكون قد أعددت الخطوط العريضة لما بعد الغد». لكن هناك من يبقى في المكتب حتى أوقات متأخرة في الليل وهم الصحافيون المختصون بنشر الأخبار العاجلة على موقع الجريدة الإلكتروني. تعلق «عملنا بمعنى ما لا ينتهي، خصوصا مع تصاعد التنافس بين مواقع الصحف. في العادة هناك أخبار عاجلة كل ليلة، وندخل في جدل كل ليلة حول هل هي جديرة بالنشر في الموقع أم لا».
الـ«نيويورك تايمز» تعد من أكثر الصحف توزيعا داخل الولايات المتحدة حيث توزع يوميا ما يقارب المليون نسخة. موقعها الإلكتروني يعد من بين الأشهر عالميا بحيث يستقطب أكثر من ثلاثين مليون زائر شهريا. بنجاحها على المستويين الورقي والإلكتروني، يبدو أن الجريدة غير معنية بالصراع الذي تعيشه العديد من الصحف والذي دفع بعضها للتخلي تماما عن النسخة الورقية. تشرح بوميلر هذه المسألة بالقول «نحن نهتم بالنسخة الورقية مع وجود كم كبير من المشتركين والقراء الذي يفضلون الورق. نحترم هؤلاء المتابعين المحبين للنسخة الورقية. نظرة المحررين للصفحة الأولى الورقية لم تتغير. نشر أخبارهم وتقاريرهم في الصفحة الأولى علامة على النجاح والتفرد. ولكن بالطبع موقع الجريدة الإلكتروني يستقطب ملايين القراء كل شهر وهو أيضا يحظى بمزيد من المتصفحين حول العالم».
قبل أن تكمل إجابتها يدخل بتمهل إلى غرفة الاجتماعات الصحافي بيتر بيكر المراسل المسؤول عن تغطية البيت الأبيض وإدارة الرئيس باراك أوباما. بيتر عمل في صحيفة الـ«واشنطن بوست» في السابق، وغطى إدارة الرئيس بيل كلينتون، وشارك بالكشف عن فضيحة مونيكا لوينسكي التي كادت تطيح بالرئيس. كما قام بتغطية أخبار إدارة الرئيس جورج بوش، ونشر كتابا يوصف بالأكثر موضوعية عن عهد الرئيس بوش بعنوان «أيام النار: بوش وتشيني في البيت الأبيض». تدعوه بوميلر للحديث وتقوله عنه إنه «الصحافي الوحيد الذي نجتمع لمحاولة إضافة أو تعديل كلمة على مواضيعه الصحافية، لكننا نفشل كل مرة. بعد أن نصاب باليأس نقوم فقط بإضافة فاصلة حتى نشعر بأننا قمنا بشيء ما». يرد بيكر هذه الدعابة الممزوجة بالإطراء بخط نصف ابتسامة ساخرة على شفتيه ويبدأ بعدها بالحديث عن تجربته في تغطية البيت الأبيض لسنوات طويلة. يقول بيكر «الحقيقة أن تغطية شؤون البيت الأبيض أصبحت أصعب مع الوقت. مع كل رئيس جديد يكون الوضع أكثر تعقيدا. يعتقد الناس أن تغطية البيت الأبيض هي المؤتمرات الصحافية التي يعقدها الرئيس وتبثها التلفزيونات. صحيح أن مثل هذا الاستعراض يعشقه مراسلو المحطات الإخبارية، لكنه غير ذي أهمية بالنسبة لنا. نحن نبحث عن أخبار ومعلومات من الداخل لا ترغب الإدارة في الإفصاح عنها. ليس لدي تفسير محدد لماذا أصبحت تغطية شؤون الرئاسة أكثر صعوبة، ولكن ربما لأن مدينة واشنطن كعاصمة سياسية تغيرت في العقد الأخير وأصبحت أكثر صعوبة وتعقيدا».
يبدو بيتر بيكر منزعجا من التعامل مع إدارة الرئيس باراك أوباما التي يصفها بالمتكتمة والراغبة دائما في أن ينشر المراسلون ما تريد هي وليس ما يريدونه هم، ويضيف «إذا كان لديهم مشروع لإصلاح التعليم أو سن نظام جديد للصحة، فكل ما يريدونه من الصحافة هو أن تركز فقط على هذا الموضوع وليس على قضايا أخرى لا يفضلونها. منذ سنوات لم ألتق مع الرئيس. المعلومات الخاصة التي أحصل عليها من أعضاء في الإدارة يطلب مني أن تظهر دون الإشارة إلى مصدر المعلومة. ولكن ليس من الجيد أن تكثر الاعتماد على مصادر مجهولة في التقرير الصحافي. القراء لا يفضلون هذا النوع من المواضيع ولا يميلون إلى تصديقها. عندما نعترض على التكتم الذي ليس له مبرر في كثير من الأحيان يكون رد الإدارة هو نفسه: هذا ما نريده! كيف يمكن أن ترد على جواب من هذا النوع؟».
عندما تريد الإدارة أن تمرر معلومات خاصة للصحافيين تقوم بجمع العشرات منهم ونقلها لهم. يسخر بيكر الذي تمرس في العمل الصحافي ليس فقط في واشنطن ولكن أيضا في موسكو حيث غطى بدايات صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأفغانستان بعد الحرب الأميركية عام 2001 من هذه الممارسة، ويضيف بنبرة ساخرة «فكرتي عن الأخبار الخاصة والسرية تتمثل في (الحنجرة العميقة) التي كانت المصدر الرئيس لفضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس نيكسون. ولكن جمع عشرات الصحافيين بمكان واحد وتزويدهم بمعلومات عامة ليس عملا صحافيا». هذا التكتم والسرية لا يخصان فقط أخبار الرئيس، بل وحتى السيدة الأولى ميشيل أوباما التي يجد الصحافيون صعوبة كبيرة في التواصل معها أو الالتقاء بها. تعقد بوميلر حاجبيها وتعلق «الطلبات التي تدخل مكتبها لا تخرج بعد ذلك».
أكثر من يستطيع وصف هذا التكتم المتزايد هو كبير المراسلين الصحافي ديفيد سينغر الذي نشر العديد من الكتب والتغطيات الصحافية اللافتة، كانت أبرزها تغطيته للمسببات الحقيقية خلف انفجار المركبة الفضائية تشالنغر بعد لحظات من إقلاعها، وفاز بسببها بجائزة بوليتزر للصحافة. يقول سينغر الذي تعامل مع العديد من الإدارات «إن الفترة الرئاسية الأولى للرئيس تكون الأصعب على الصحافيين. الفريق المنتصر في الانتخابات يشعر بأنه حقق معجزة بالفوز والذهاب إلى البيت الأبيض، لذا لا يريد أي شيء من الصحافة ولا يرغب في التواصل معها. لكن هذا الغرور والتعالي يتلاشى تدريجيا مع عجز الإدارة عن تحقيق المشاريع التي وعدت بها. الفترة الرئاسية الثانية هي الأفضل لأن القادمين الجدد للإدارة يرغبون في الكشف عن عيوب الراحلين ويسعون لأن يدشنوا بداية جديدة لا تحملهم أخطاء من سبقهم. من هنا يكون التعاون أسهل».
لكن سينغر لا يشتغل كثيرا الآن على البيت الأبيض، بل تركيزه منصب على قضية أخرى يعدها أكثر أهمية من أخبار الرئيس والسيدة الأولى والكونغرس، وهي قضية الحرب الإلكترونية التي نشر عنها العديد من التغطيات في الصحافية، وخصص كتابا كاملا عنها. يقول سينغر إن ما فعله إدوارد سنودن وقبله جوليان أسانج لفت انتباه الناس أكثر للحرب المعلوماتية الإلكترونية لكنها قائمة منذ مدة. ويضيف «يفكر الناس في الحرب عبر إلقاء القنابل من حاملات الطائرات وإطلاق الصواريخ، لكن الحرب الإلكترونية يمكن أن تسبب العديد من الأضرار الجسيمة. ليس فقط أن تقوم بسرقة معلومات من دولة معادية، بل يمكن أن تبعث بنظامها وتعطلها وتشل قدراتها عبر فيروسات شديدة التدمير».
تركز الـ«نيويورك تايمز» أكثر على هذه القضايا التي لا تحظى بانتباه وسائل الإعلام الأخرى لكنها تجذب عددا متزايدا من القراء الباحثين عن معلومات وتحليلات معمقة حولها. من أبرز هذه القضايا قضية البيئة والطاقة. هذا ما تخصصت فيه الصحافية الشابة كارول دافنبورت التي بدأت عملها في الـ«نيويورك تايمز» قبل عدة أشهر، لكنها نشرت ثلاث قصص مهمة على الصفحة الأولى، الأمر الذي تعتبره رئيستها بوميلر «أمرا لا مثيل له ولم يحدث من قبل»، لكنها تستدرك «مع أن عبارة - لا مثيل له - ممنوعة من الاستخدام في الصحيفة فإن هذه هي الحقيقة». دافنبورت التي تتحدث بحماس وحب عن عملها وأفكارها عملت في أماكن عدة قبل انضمامها للصحيفة. من أبرز هذه الأماكن الصحيفة الإلكترونية الشهيرة «بلتكو». تقدم نصيحتها للصحافيين الشباب الراغبين في العمل في الصحف الكبرى بأن يقوموا بـ«إرسال أفضل مواضيعهم عبر البريد أو (تويتر) إلى المسؤولين عن هذه الصحف بغرض لفت انتباههم. هذا ما فعلته مع الـ(نيويورك تايمز) التي أرسلت لها مواضيعي التي اعتقدت أنها مميزة. قمت بمراسلة أحد المسؤولين في الصحيفة الذي أبدى إعجابه بما أكتبه لكنه لم يقدم لي أي عرض. بعد مدة وجدت أن الـ(نيويورك تايمز) تقوم بنشر مواد صحافية عن الطاقة والبيئة وعلاقتها بالاقتصاد هي تقريبا نفس أفكار مواضيعي التي نشرتها سابقا. راسلت هذا المسؤول وكتبت له: أُفضل أن أكتب مواضيعي بـ(التايمز) بنفسي !». نجحت هذه الرسالة الشريرة الذكية في ضمها للصحيفة الأكثر شهرة في الولايات المتحدة.
وعن عملها تقول كارول إن قضايا الطاقة والبيئة والاحتباس الحراري ذات أهمية كبيرة على مستوى الاقتصاد ومستقبل العالم، وتعمل لأن تجعل منها محط اهتمام القراء. لكنها أيضا تعاني من مشكلة شح المعلومات التي تقدمها الحكومة والبيت الأبيض، لكن لديها طريقتها الخاصة للحصول عليها، وذلك عبر «الموظفين الراحلين من البيت الأبيض أو الحكومة أو الشخصيات من الخارج التي تعقد اجتماعات مع أعضاء من الإدارة. هذه الشخصيات أقل تحفظا للإدلاء بمعلومات. دائما العمل من الخارج إلى الداخل مفيد للصحافي إذا سُدت الطرق بوجهه».
هناك العديد من الأسئلة المتبقية، لكن الساعة الآن الثانية ظهرا. الاتصالات العاجلة من المقر الرئيس ستبدأ بعد قليل بالانهيال على المكتب طلبا للمواضيع الجديدة. قلق الصحافيين المعروف من تفويت الوقت وخسارة المنافسة مع الآخرين يلتمع في أعين بوميلر وزملائها. بمجرد أن انتهى الحوار هرع الجميع لمكاتبهم الصغيرة. عندما خرجت كان الجو أكثر برودة قبل دخولي أو هكذا تخيلت.



هل تعيد التطورات الرقمية تشكيل أخلاقيات الإعلام؟

التطورات الرقمية تثير معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل (رويترز)
التطورات الرقمية تثير معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل (رويترز)
TT

هل تعيد التطورات الرقمية تشكيل أخلاقيات الإعلام؟

التطورات الرقمية تثير معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل (رويترز)
التطورات الرقمية تثير معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل (رويترز)

بينما تتسارع التطورات الرقمية في عصر الذكاء الاصطناعي، وتلقي بظلالها على عملية إنتاج المحتوى الإعلامي، يبرز السؤال حول مدى تأثير ذلك على القواعد المهنية، وما إذا كان التحول الرقمي سيعيد تشكيل أخلاقيات الإعلام؟

وبينما اتفق خبراء على أن التحولات الرقمية ألقت بظلالها بالفعل على القواعد المهنية، شددوا على ضرورة إعادة هيكلة تلك الإرشادات لإعطائها قدراً من المرونة يمكّنها من التعاطي مع التطورات التكنولوجية المتسارعة.

دورية «كولومبيا جورناليزم ريفيو» التي تصدرها كلية الصحافة في جامعة كولومبيا بنيويورك، قالت في تقرير نشرته أخيراً، إن «الوقت يتغير وكذلك القواعد الأخلاقية»، مشيرة إلى أن «الصحافة تحتاج إلى أدلة استرشادية أخلاقية جديدة للتعاطي مع التحديات التكنولوجية المتسارعة»، حيث تثير التطورات الرقمية «معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل».

الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، أكد أن «التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي يعيدان تشكيل أخلاقيات الإعلام بطرق عميقة». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «أخلاقيات الإعلام التقليدية مثل الدقة والإنصاف والمساءلة، صُمِّمت لبيئة إخبارية بطيئة تعتمد على العامل البشري، في حين أدخل التحول الرقمي ديناميكيات جديدة في ظل زيادة حدة التنافس الإعلامي في السعي وراء السبق والخبر العاجل، ما يجعل النشر السريع يفوق الدقة والتحقق».

وأشار إلى أن «ظهور (القبائل الرقمية) أو (غرف الصدى) بات نتيجة مباشرة لطبيعة استهداف المستخدم بناء على بياناته وتخصيص محتوى لفئات معينة دون غيرها، ما يضع تحديات أمام مبدأ خدمة المصلحة العامة». ويقول إن «التقنيات الرقمية باتت تحجب الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال ما يتطلب معايير أخلاقية مهنية جديدة»، موضحاً أنه «في ظل تحكم الخوارزميات في نشر المحتوى فإن المسؤولية الأخلاقية تمتد لتشمل شركات التكنولوجيا إلى جانب الصحافيين».

حقاً، كان الاعتقاد السائد أن «تغيّر الزمن لا يستدعي تغيّر الأخلاقيات، فقواعد الإعلام مثل الصدق والشفافية والاستقلال ثابتة مهما تغيّرت صناعة الإعلام». بحسب «كولومبيا جورناليزم ريفيو»، لكنها تشير إلى «تغير هذا الاعتقاد السائد، فالقواعد الأخلاقية القديمة تتطلب إعادة تقييم لمواجهة المعضلات الرقمية الجديدة».

وفي رأي الصحافي اللبناني المدرّب في مجال التحقق من المعلومات، محمود غزيل، فإن «التطورات التي حدثت في الإعلام وتقنيات النشر تركت أثراً واسعاً على الرسالة الإعلامية وطرق استهلاكها، والأهداف التي ترنو إليها الجهات الإعلامية». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «ما شهده العالم في الأعوام الثلاثة الأخيرة، منذ توسع مفهوم الذكاء الاصطناعي التوليدي مع الإطلاق الرسمي لمنصة (تشات جي بي تي) وانضمام العديد من حول العالم، ومن بينهم الصحافيون، إليها، واختبار مزايا الذكاء الاصطناعي التوليدي بمختلف أطيافه، جعلت العالم يقف للحظة لمراجعة قرارته وخطواته بما يتعلق بكيفية وشروط النشر».

وأضاف أنه «إلى جانب مشكلة توليد النصوص والمواد المكتوبة عن طريق الذكاء الاصطناعي، وما قد يعتريها من (هلوسة) معلومات ومصادر، هناك أيضاً تحديات أخلاقية مختلفة، من بينها استخدام الفيديوهات والصور المولدة بالذكاء الاصطناعي»، موضحاً أنه «إن كان بعض أهل الصحافة والإعلام يقعون في فخ عدم التمييز بين الحقيقي والمزور، فمن الطبيعي على القارئ والمتابع أن يرتكب الخطأ نفسه، ما يجعل هناك أزمة معرفة».

وأكد أنه «يتوجب على وسائل الإعلام التي تلجأ إلى التقنيات الحديثة من أجل توليد المشاهد البصرية بسياق رمزي أو أرشيفي، توضيح ذلك للقارئ». وقال إن «الشفافية يجب أن تكون موجودة، مع العودة لمبادئ الصحافة المطبوعة في وصف الصورة ومصدرها».

وأشار غزيل إلى أن المسؤولية النهائية تظل على كاهل الصحافيين المحترفين، فلا يُعدّ أي محتوى إخبارياً ما لم يخضع لتدقيق وتحرير بشري، أي أن الفكرة تبدأ بالصحافي وتنتهي معه».

نقطة أخرى تطرق لها الصحافي اللبناني في حديثه تتعلق بمبدأ «الخصوصية»، حيث أثّرت التطورات التكنولوجية على خصوصية البيانات و«أصبح الصحافي قادراً على جمع المعلومات عبر منصات التواصل دون الحصول على إذن صاحبها ما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى ضرر معنوي ونفسي قد لا تكون القوانين المحلية حالياً قادرة على معالجته»، وشدد على «ضرورة التزام الصحافيين بمواثيق الشرف والقواعد الأخلاقية مهما بلغت التطورات التكنولوجية».

وتثير مسألة خصوصية البيانات كثيراً من الجدل في ظل محاولات دول عدة وضع قواعد وقوانين لحماية بيانات المستخدمين، في وقت ترى فيه منصات التواصل الاجتماعي وشركات التكنولوجيا في ذلك «تقييداً لعملها».

وفي هذا الإطار، أكد نائب رئيس جامعة «شرق لندن» بالعاصمة البريطانية، الدكتور حسن عبد الله، لـ«الشرق الأوسط»، أن «التطورات التكنولوجية الرقمية أعادت بالفعل تشكيل أخلاقيات الإعلام»، مشيراً إلى أن «منصات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، وتقنيات التزييف العميق وغيرها أدت إلى تسريع وتيرة إنتاج وتوزيع المعلومات، تزامناً مع طمس الحدود التقليدية بين الصحافيين والمنصات والجمهور».

وقال إن «التحولات الرقمية فاقمت التحديات الأخلاقية المرتبطة بالدقة، والخصوصية، والمساءلة، والتحيز، لا سيما ما يتعلق بانتشار (المعلومات المضللة) و(غرف الصدى)، والتلاعب بالرأي العام»، مشدداً على أن «هذه التطورات المتسارعة تتطلب إعادة صياغة لأخلاقيات الإعلام، حيث لم تعد الأطر التقليدية كافية في منظومة تهيمن عليها الخوارزميات وصنّاع المحتوى»، مشيراً إلى امتداد المسؤولية الأخلاقية إلى «شركات التكنولوجيا وعلماء البيانات ومصممي المنصات».

ويضرب نائب رئيس جامعة «شرق لندن» عدداً من الأمثلة على «عدم قدرة الأخلاقيات المهنية على التعاطي السريع مع التطورات التكنولوجية، من بينها انتشار المعلومات المضللة خلال حرب غزة التي لم تتمكن المنصات من احتوائها ومعالجتها بالسرعة الكافية، وقضية الإعلانات السياسية الموجهة وقدرتها على التلاعب وتوجيه الرأي العام معتمدة على بيانات المستخدمين».

وفي رأي عبد الله، فإنه «لمواكبة التطورات الرقمية، يجب أن تتطور أخلاقيات الإعلام في ثلاثة اتجاهات رئيسية»، الاتجاه الأول يتعلق بـ«دمج الأطر الأخلاقية في مبادئ حوكمة التكنولوجيا، ما يعني إلزام المنصات بالشفافية بشأن الخوارزميات واستخدام البيانات».

أما الاتجاه الثاني، بحسب عبد الله، فيتعلق بـ«تعزيز التعاون المتعدد التخصصات بين الصحافيين، وخبراء الأخلاق، والتقنيين، وصناع السياسات». وثالثاً، يقترح عبد الله «المراجعة الأخلاقية المستمرة داخل المؤسسات الإعلامية، ودمجها بقدر من التنظيم القانوني، والمعايير المهنية، ومبادرات محو الأمية الإعلامية للجمهور، بحيث تصبح القواعد الأخلاقية الجامدة مرنة بدرجة تسمح لها بالاستجابة للتطورات المتسارعة».

ختاماً، فإنه وفق «كولومبيا جورناليزم ريفيو»، فإن «القواعد المهنية الأساسية للإعلام لم تتغير، فالصحافة لا تزال تؤمن بضرورة خدمة المصلحة العامة بعدالة واستقلالية وشفافية ودقة، لكن طبيعة العمل في عالم سريع التطور يفرض معضلات أخلاقية، قد يساعد وضع قواعد مهنية جديدة في التعامل معها، وهي قواعد ستتغير مع الوقت».


تعويض «غوغل» لناشرين... هل يحد من أزمة تراجع الزيارات؟

شعار شركة «غوغل» في متجر «غوغل تشيلسي» بمدينة مانهاتن (رويترز)
شعار شركة «غوغل» في متجر «غوغل تشيلسي» بمدينة مانهاتن (رويترز)
TT

تعويض «غوغل» لناشرين... هل يحد من أزمة تراجع الزيارات؟

شعار شركة «غوغل» في متجر «غوغل تشيلسي» بمدينة مانهاتن (رويترز)
شعار شركة «غوغل» في متجر «غوغل تشيلسي» بمدينة مانهاتن (رويترز)

أبرمت «غوغل» سلسلة من «الصفقات النقدية» مع مؤسسات نشر بارزة، وقالت إنها «تستهدف الدفع للناشرين مقابل حقوق العرض الموسّع وطرق إيصال المحتوى». ورأى خبراء أن هذه الخطوة «تختلف عن صفقات الذكاء الاصطناعي التي عقدتها شركات مثل (أوبن إيه آي) و(مايكروسوفت) مع ناشرين في وقت مبكر، لأنها لم تُقدم بوصفها اتفاقات لترخيص المحتوى، بل بعدّها امتداداً لشراكات تجارية قائمة بالفعل».

وأكدت «غوغل»، في بيان صحافي خلال ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أن هذه «الصفقات تأتي ضمن برنامج تجريبي جديد لاستكشاف كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في جذب جمهور أكثر تفاعلاً».

في المقابل، يربط مراقبون هذه التحركات بمحاولة «تهدئة غضب الناشرين الذين يشكون من تراجع الزيارات (لمواقعهم)، خصوصاً مع تصاعد أزمة البحث دون نقر أو ما يُعرف باسم (الزيرو كليك)، الذي ترتب على إطلاق الملخصات المعززة بالذكاء الاصطناعي التي تقدم للمستخدم إجابات مباشرة دون الحاجة إلى زيارة الموقع الأصلي».

يقول المشرف على تحرير الإعلام الرقمي في قناة «الشرق للأخبار»، حاتم الشولي، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الخطوة بشكل أساسي، هي شراكة تجارية مدفوعة، خاصة أنها عبارة عن تجربة مع كبار الناشرين مثل (الغارديان) و(واشنطن بوست) وغيرهما، وهذا دليل على أن التجربة مبنية على استهداف جمهور أكبر ومخصص، وفي حال نجاحها ستتحول تدريجياً بكل تأكيد لمشاركة الإيرادات، وقتها ستوضع قواعد جديدة قد تغيّر من شكل العملية السارية حالياً».

وتوقّع الشولي أن «نتائج هذه الصفقات ستظهر في مقالات مختارة ضمن (غوغل نيوز)»، كما أنها ستظهر من خلال «تحسّن في ظهور هذه المقالات من قبل أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي فعلياً بدأت في بعض المناطق والأسواق تظهر على شكل ملخصات، لكن هذا منفصل عن مسار التجربة القائمة حالياً؛ ولكنه الأساس الذي انطلقت منه التجربة».

وحول مدى جدوى خطوات «غوغل» التعويضية، قال الشولي، المشرف على تحرير الإعلام الرقمي، إنه «من المستحيل أن تقدم (غوغل) أي ضمان في معدل الخوارزميات، لكونها متغيّرة بشكل دائم ويستحيل أن تحافظ على ثباتها. وعليه، لا يكون هناك أي التزام من طرف (غوغل) بضمان هذه العملية». لكنه تابع أن من «المرجّح أن تتجه الشركة نحو الضمانات المالية والتعويضات المتوقعة بناء على نجاح التجربة، وهذا سيكمن في تفاصيل العقود المبرمة بين (غوغل) وصُنّاع الأخبار، وهو أمر نادراً ما يتم الإفصاح عنه».

من جانبها، ذكرت «غوغل» أنها ضمن هذا البرنامج التجريبي «تعمل مع الناشرين على اختبار مزايا جديدة داخل أخبار المنصة، من بينها ملخصات للمقالات مدعومة بالذكاء الاصطناعي تظهر على صفحات المنشورات المشاركة لتقديم سياق إضافي قبل النقر، إلى جانب موجزات صوتية لمن يفضلون الاستماع». وأكدت أن «هذه المزايا ستتضمن إسناداً واضحاً للمصدر وروابط مباشرة للمقالات».

وبينما عدّ بعضهم خطوة «غوغل» محاولة لـ«تعويض» الناشرين، رأى مدير «إدارة المحتوى الرقمي في سي إن إن الاقتصادية»، محمود تعلب، أن «النجاح الحقيقي في زيادة الزيارات يجب أن يقاس بمؤشرات أكثر من مجرد عدد الزوار». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أنه «يجب أن تكون هناك ضمانات على ارتفاع نسبة الزيارات التي تؤدي إلى مشاهدة الصفحة الكاملة بدلاً من الزيارات القصيرة. كما ينتظر الناشرون وجود إعلانات أو اشتراكات بدلاً من الزيارات السريعة، وكذلك وجود نسبة أعلى من الزيارات من نتائج البحث التقليدي، وليس فقط من الملخصات أو إجابات الذكاء الاصطناعي».

ورغم أن تعلب عدّ خطوة «غوغل» رسالة «حُسن نية»؛ لكنه قال إن لم تتبعها خطوات تنظيمية تضمن حقوق المالك الأصيل للمحتوى «فلن تحقق المستهدف الحقيقي». وشدد على أن الضمانات يجب أن تشمل «التزاماً بعدم تقليل الزيارات بشكل مفاجئ نتيجة تغييرات خوارزمية دون إشعار مسبق»، كما من «المنتظر أن تضم آلية تقييم شفافة تربط التعويضات بحصص الزيارات الفعلية، كذلك شرط تعديل الدفع وفقاً لأثر التغييرات التقنية على الزيارات والإحالات». وأضاف: «يجب أن تكون عقود الناشرين مرتبطة بالأداء الحقيقي، وليس بنتائج ظاهرية أو مزاعم تحسين قد لا تتحقق».

وعن التأثير المتوقع من هذه الصفقات، يرى تعلب أن «من المرجح أن يكون التأثير في عملية البحث أولاً، وثانياً في (غوغل نيوز)، لأن هذه الأماكن هي التي ترتبط مباشرة بسلوك البحث التقليدي، وإحالات الزوار إلى موقع الناشرين. أما (ديسكوفر) فتظل خوارزميات التخصيص فيها أقل اعتماداً على النصوص الملخصة، وتظهر بشكل أكبر المحتوى الذي يتناسب مع اهتمامات المستخدم، لكن لا يمكن الاعتماد عليها بوصفها قناة رئيسية لتعويض الانخفاض».

وبحسب محمود تعلب، مدير «إدارة المحتوى الرقمي»، فإن «الخطوة التي تعلن عنها (غوغل) الآن ليست حلاً، بل تجربة أولى باتجاه توزيع القيمة وعلاقات الشراكة»، موضحاً أن «نجاحها يعتمد على مدى التزام (غوغل) بالتوزيع العادل للزيارات، وإدراج ضمانات أداء حقيقية في العقود، وإعادة التوازن بين التكنولوجيا ومصالح الناشرين الذين ينتجون المحتوى الذي تعتمد عليه تلك التكنولوجيا نفسها لتحقيق أرباحها».


«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE
TT

«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE

تعيش هوليوود واحدة من أكثر لحظاتها اضطراباً منذ عقود، بعدما تحوّلت صفقة الاستحواذ على «ورنر بروس ديسكفري» إلى مواجهة مفتوحة بين عملاق البث «نتفليكس» من جهة، والتحالف الذي تقوده «باراماونت – سكاي دانس» برئاسة ديفيد إليسون (نجل مؤسس «أوراكل» الملياردير لاري إليسون)، المدعوم بثروات هائلة وشبكة نفوذ سياسية، من جهة أخرى.

ورغم أن ظاهر المعركة تجاري بحت، فإن جوهرها يتجاوز حدود صناعة الترفيه ليصل إلى توازنات القوة الإعلامية في الولايات المتحدة، وإلى مقاربات البيت الأبيض التنظيمية، وربما حتى إلى علاقة الرئيس دونالد ترمب بعدد من هذه المؤسسات.

Paramount, Netflix and Warner Bros logos are seen in this illustration taken December 8, 2025. REUTERS/Dado Ruvic/Illustration

أهمية «ورنر بروس»

تعد «ورنر بروس» إحدى أثقل القلاع الثقافية والإعلامية في العالم. فإلى جانب تاريخها السينمائي العريق، تمتلك الشركة واحدة من أضخم مكتبات المحتوى التي تضم أعمالاً من «هاري بوتر» و«دي سي كوميكس» و«غيم أوف ثرونز»، إضافة إلى شبكة «إتش بي أو» ومحفظة تلفزيونية واسعة. والسيطرة عليها تمنح مالكها ثلاث ركائز جوهرية:

• محتوى ضخم عالي القيمة قادر على تغذية منصات البث لعقود مقبلة.

• حقوق بث وتوزيع دولية تتيح توسعاً كبيراً في الأسواق العالمية.

• تكامل رأسي كامل يجمع بين الإنتاج والتوزيع والبث، ويخلق قوة سوقية استثنائية.

من هنا، فإن فوز «نتفليكس» أو «باراماونت» بالاستوديو يعني تغيّراً جوهرياً في المشهد العالمي، وظهور كيان يتجاوز في وزنه معظم الشركات الإعلامية الحالية.

"باراماونت" تخوض سباقاً مع "نتفليكس" لشراء "ورنر بروس" (أ.ف.ب)

صفقة نتفليكس و«قلق» البيت الأبيض

أعلنت «نتفليكس» قبل أيام التوصل إلى اتفاق مبدئي لشراء معظم أصول «ورنر بروس ديسكفري» مقابل 83 مليار دولار (عرضت فيها 27.75 دولار للسهم)، مع إبقاء «سي إن إن» والقنوات الإخبارية والرياضية ضمن شركة مستقلة تدعى «ديسكفري غلوبال».

عدّ كثيرون الخطوة منطقية: توحيد أكبر منصة بث في العالم مع واحد من أضخم الاستوديوهات، ما يخلق عملاقاً يصعب منافسته. لكن العامل السياسي دخل ساحة المعركة بقوة. فقد صرّح الرئيس ترمب بأنه سيكون «منخرطاً» في تقييم الصفقة، ملمّحاً إلى أن الحصة السوقية لـ«نتفليكس» قد تشكل «مشكلة».

ورغم ثنائه على تيد ساراندوس، الرئيس التنفيذي المشارك للمنصة، فإن تلويحه بالتدخل التنظيمي ألقى ظلالاً من الشك على الصفقة، خصوصاً أن عرض «نتفليكس» يجمع بين النقد والأسهم، ما يعرّضه لتدقيق احتكاري واسع.

باراماونت.. عرض «عدائي» ونقد أكثر

لم تتأخر «باراماونت – سكاي دانس» في الرد. فبعد ساعات من إعلان «نتفليكس»، أطلقت عرضاً عدائياً مباشراً للمساهمين بقيمة 108.4 مليار دولار، وبسعر 30 دولاراً للسهم، أي أعلى بكثير من عرض منافستها.

ويمتاز عرض «باراماونت» بأنه أكثر نقداً وتمويلاً مباشراً، مدعوماً من ثروة عائلة إليسون وصناديق «ريدبيرد» و«أفينيتي بارتنرز»، إضافة إلى ثلاثة صناديق سيادية عربية (السعودية، الإمارات، قطر) تشارك بتمويل بلا حقوق حوكمة. ووفقاً لمصادر في الشركة، فإن عرضها «أكثر يقيناً وسرعة في التنفيذ»، مقارنة بعرض «نتفليكس» الذي يتوقع أن يواجه تدقيقاً احتكارياً وتنظيمياً معقداً.

البعد السياسي للصراع

على الرغم من محاولة الطرفين الظهور وكأن معركتهما تجارية بحتة، فإن السياسة حاضرة بكل ثقلها. ويلعب جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترمب، دوراً محورياً بصفته شريكاً مالياً في عرض «باراماونت» عبر «أفينيتي بارتنرز». وتحدثت تقارير بريطانية عن وعود من «باراماونت» بإجراء تغييرات جذرية في «سي إن إن» في حال فوزها، وهو ما يمنح الصفقة بعداً سياسياً حساساً.

في المقابل، ينتقد ترمب «باراماونت» و«سي بي إس» التابعة لها بسبب خلافات مع برنامج «60 دقيقة». ومع ذلك، صعّد ترمب هجومه المباشر على «سي إن إن»، مطالباً بتغيير مالكيها كجزء من أي صفقة لبيع «ورنر». وقال في اجتماع بالبيت الأبيض: «لا أعتقد أنه يجب السماح للأشخاص الذين يديرون (سي إن إن) حالياً بالاستمرار. يجب بيعها مع باقي الأصول». كما أكد أنه سيشارك بنفسه في قرار الموافقة على الصفقة، في خروج غير مألوف عن الأعراف التنظيمية.

هذا التناقض يكشف عن صراع مفتوح على النفوذ الإعلامي، قد يؤثر على القرار النهائي أكثر من معايير الاحتكار ذاتها، رغم أن اكتمال أي من الصفقتين، سيؤدي إلى ولادة عملاق إعلامي فائق.

منصتان فائقتان

اندماج «نتفليكس ورنر بروس» سيخلق أكبر منصة بث ومكتبة محتوى في العالم، تفوق «أمازون برايم» و«ديزني» مجتمعتين في حجم الاشتراكات والمحتوى الأصلي والحقوق. أما اندماج «باراماونت ورنر بروس» فسيكوّن أكبر استوديو سينمائي - تلفزيوني متكامل، يضم «سي بي إس» و«باراماونت» و«إيتش بي أو» و«سي إن إن» (في حال لم تُفصل)، ما يجعله النسخة الحديثة من «استوديو هوليوودي شامل». وسيعد الكيان الناتج عن أي من الصفقتين الأكبر عالمياً في مجال الإعلام والترفيه، لكن بدرجات مختلفة: «نتفليكس» ستتربع على قمة البث، و«باراماونت» على قمة الإنتاج التقليدي والخبري.

لكن المخاطر كبيرة أيضاً. فوفق محللين، قد يبتلع الاستوديو إدارة «نتفليكس» ويستهلك طاقاتها، بينما يخشى البعض من تراجع نوعية المحتوى إذا خضعت المكتبة الضخمة لمنهج المنصة القائم على الكميات الكبيرة.

ويتفق خبراء على أن كلا العرضين يواجه عوائق تنظيمية ضخمة، لكن الخطر الأكبر ليس تنظيمياً، بل سياسي، كما قال وليام باير، المدير السابق لقسم مكافحة الاحتكار في وزارة العدل. وقال لصحيفة «واشنطن بوست»: «المشكلة الحقيقية هي إن كانت القرارات ستُبنى على اعتبارات قانونية أم على مصلحة الرئيس».

بالنسبة لمحطة «سي إن إن» التي يناهضها ترمب علناً، فستكون مع عرض «نتفليكس»، جزءاً من شركة منفصلة لديها استقلال أكبر، بعيداً عن الصراع السياسي. وهو ما يعدّه كثير من العاملين فيها مخرجاً آمناً، بعد تخوفهم من احتمال أن تقود «باراماونت»، المتجهة نحو توجّهات محافظة، عمليات تغيير واسعة فيها. ومع ذلك، من الناحية الاقتصادية، سيكون مستقبل «سي إن إن» في شركة صغيرة تحدياً قد يقود إلى تقشف أكبر.

وفي النهاية، قد تكون القرارات السياسية هي العامل الحاسم في تحديد من سيضع يده على إرث «ورنر بروس» العريق.