من داخل صحيفة الـ«نيويورك تايمز»

شعار ضخم معلق على الحائط الأمامي يذكرك بأول أعدادها عام 1856

من داخل صحيفة الـ«نيويورك تايمز»
TT

من داخل صحيفة الـ«نيويورك تايمز»

من داخل صحيفة الـ«نيويورك تايمز»

في قلب العاصمة الأميركية واشنطن، وعلى بعد أميال قليلة من البيت الأبيض، يقع مبنى مكتب جريدة الـ«نيويورك تايمز». المدخل القديم الذي يشبه مداخل الفنادق الكلاسيكية الأوروبية لا يعكس ما يحدث في الداخل. الأجواء الباردة في الخارج تصبح أكثر سخونة بمجرد أن تدخل إلى المكتب وتشاهد عشرات الكتاب والمراسلين الباحثين عن التقارير والمقالات التي ستشعل مزاج واشنطن في اليوم التالي.
شعار ضخم للصحيفة معلق على الحائط الأمامي يذكرك بعمر هذه الصحيفة التي نشرت أول أعدادها في عام 1856. العديد من قصاصات السبق و«الخبطات» الصحافية لصقها الصحافيون الفخورون بإنجازاتهم. المراسلون يلقون التحية بسرعة وهم يضغطون هواتفهم المحمولة على آذانهم في مكالمات يراودك شعور بأنها طويلة ومضنية بحثا عن معلومة جديدة. محررون آخرون يكتبون على أجهزة الكومبيوتر لكنهم يفعلونها واقفين هذه المرة. استجابة سريعة لعلامة الاستغراب على وجهي، تضع الصحافية إليزابيث بوميلر، نائبة رئيس المكتب، نصف ابتسامة على شفتيها، وتشرح لماذا توضع هذه الكومبيوترات في هذه الأمكنة المرتفعة بالقول «هذه مخصصة لكتابة الأخبار العاجلة». قهقهة خافتة تنفلت منها وتضيف ممازحة «نجعلهم يقفون هنا حتى ينتهوا بسرعة من الكتابة ويعودوا للجلوس». يسمع الصحافي الذي كان يكتب واقفا هذا التعليق الساخر ويكتفي بهز رأسه بالموافقة التي تعني العكس. هناك عدد من الكراسي الفارغة التي تركها الصحافيون والمراسلون بحثا عن الأخبار لدى البيت الأبيض والـ«سي آي إيه» والبنتاغون أو الكونغرس وعدد آخر من أهم الوزارات والمؤسسات التي تشكل جسد المؤسسة السياسية الأميركية.
نمر بجانب استوديو التصوير التلفزيوني. في هذا المكان تقوم المحطات الفضائية باستضافة صحافيي وكتّاب الجريدة. بنبرة منزعجة من طلبات المحطات الفضائية يعلق الصحافي بيتر بيكر، المختص بتغطية شؤون البيت الأبيض، قائلا «لم يعد من المجدي الذهاب للمحطات الفضائية وإضاعة الوقت في الطريق، من هنا يمكن التسجيل على الهواء للتعليق على الأخبار التي ننشرها في الصحيفة». ويضيف متهكما «لكنهم لا يعطوننا أي مال مقابل هذا الظهور. هم يتحدثون عن القصص المنشورة في الصحيفة، ونحن بدورنا نروج لها». تقطع حديثه بوميلر بسرعة «لا، هم يعطون المال فقط إذا سألت عن ذلك وإلا فسوف سيصمتون». ترتسم علامات الدهشة على وجهه ويطلق نصف صرخة «حقا! حقا». تفرقع ضحكات في المكان، وبعد أن يهدأ إيقاعها قليلا يكمل «لماذا لم أسأل إذن؟!».. ليصعد إيقاع الضحكات من جديد. يضم المكتب ركنا مخصصا للكتب والمراجع التي يحتاجها العاملون. ولكن يبدو أنه لا أحد يستعين بالكتب المتراصة بسبب تسارع وتيرة العمل وسهولة البحث في مواقع الإنترنت. تؤكد بوميلر هذه المعلومة وتضيف أنهم سيقومون قريبا بإزالتها وخلق مساحة أوسع للعمل، وتضيف «توجد مكتبات إلكترونية الآن. لم يعد أحد يأتي إلى هنا».
في الطابق السفلي يوجد المكتب الواسع لنائبة الرئيس. لا تمكث هناك إلا قليلا، وإنما تفضل البقاء في الأعلى والعمل مع بقية الصحافيين في التحضير والتخطيط للمواضيع المقرر نشرها في اليوم التالي. في الطريق إلى غرفة الاجتماعات الواسعة تومئ بيدها إلى مكتبها الذي تضيئه بقية أشعة الشمس المتثاقلة التي اخترقت الغيوم الشتائية الكثيفة، وتقول «إذا جلست هناك مع أحد الصحافيين، ففي الغالب أننا نتشاجر حول مشكلة ما. هذا هو مكتب الأزمات». قبل لحظات فقط كنت تشعر بأنها أكثر الشخصيات لطفا التي تقابلها في حياتك، لكنها كشفت بسرعة عن وجه الشخصية القيادية الباردة التي لا تعرف العواطف.
في غرفة الاجتماعات تقف بوميلر ذات الطلة «الميركلية» على رأس الطاولة وتعيد من جديد رسم الابتسامة الودودة، ولكن من الصعب تجاهل الرائحة الحادة للقادة الأذكياء التي تنبعث منها. عملت بوميلر بعد تخرجها في جامعة كولومبيا في مجال الصحافة لجريدة الـ«واشنطن بوست» في طوكيو، ومن ثم نيودلهي. ومن ثم انتقلت للعمل في الـ«نيويورك تايمز» في واشنطن. بدأت عملها في الصحيفة في العاشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001. في صباح اليوم التالي اخترقت الطائرات المدنية برجي التجارة العالمي، وضربت إحداها مبنى وزارة الدفاع، البنتاغون. شاركت بعدها في تغطية موسعة ومتواصلة للأحداث التي أعقبتها اعتُبرت من أميز التغطيات التي قامت بها وسائل الإعلام. قامت بعدها بمتابعة عمل مستشارة الأمن القومي للرئيس بوش حينذاك كوندوليزا رايس، وخصصت وقتها لكتابة سيرة ذاتية عنها. بعد العمل لسنوات كمراسلة داخل الولايات المتحدة وخارجها تقول إنها تشتاق للخروج من جديد من المبنى والعمل في الخارج، لكنها تضيف «لكني أستمتع بعملي الحالي الذي يشبه عمل المدرب في الفرق الرياضية. من الرائع أن تقوم بصناعة مواد صحافية ومشاركة الزملاء في الأفكار والمشاريع التي يريدون إنجازها».
تتحدث بعد ذلك الصحافية الملحاحة، والتي دخلت في نقاش ساخن في إحدى المرات مع السيناتور الجمهوري جون ماكين، بتفصيل أكثر عن عمل المكتب اليومي الذي يعد الأبرز بعد المقر الرئيس في نيويورك، حيث يعمل فيه ما يقارب الخمسين صحافيا، في مختلف المجالات «كنا في السابق نبدأ العمل باجتماع التحرير عند الساعة الثانية عشرة، ولكن مع تسارع وتيرة الأخبار والأحداث بشكل غير مسبوق أصبحنا نجتمع الساعة التاسعة صباحا للحديث بشكل عام عن أبرز القضايا التي ننوي تغطيتها يوم الغد أو الأيام القادمة. ومن ثم هناك اجتماع آخر الساعة الثانية عشرة نتحدث فيه عن المواضيع التي وردت في الساعات الثلاث الماضية. في العادة تتغير خططنا لأن عملنا ليس فقط مرتبطا في واشنطن فقط ولكن في العالم كله. ما يقوله الرئيس الأفغاني كرزاي عن الوجود الأميركي العسكري لا يخص فقط مراسل الـ«نيويورك تايمز» في كابل، بل علينا أن نقوم بتغطية ردود الفعل داخل البيت الأبيض أو البنتاغون. هذا مثال واحد وينطبق على أحداث كبيرة». تلتقط نسخة ورقية من الجريدة ملقاة على الطاولة، ومن ثم تواصل حديثها «في العادة هناك ثلاثة أو أربعة مواضيع في الصفحة من إنتاج مكتب واشنطن. اليوم لا يوجد إلا موضوع واحد، ولكن غدا ستكون هناك أكثر من مادة تحريرية. نحن نوجد بالقرب من البيت الأبيض وأهم الوزارات والمؤسسات. علينا الكثير لنفعله كل يوم».
تمسك بورقة بيضاء مليئة بالخربشات غير المفهومة. هذه الخربشات، كما تشرح، كلمات مختصرة وشفرات خاصة للعاملين في المكتب، عن أبرز المواضيع التي ستنفرد فيها الجريدة. تعتذر عن عدم تمريرها للحاضرين لأنها تحوي «أسرار الجريدة» كما تقول، ولكن من هذه «الأكواد» الأشبه بالطلاسم تتشكل خلاصة المواد التي ستكون مدار حديث الملايين حول العالم والتي جعلت الـ«نيويورك تايمز» تفوز بأكثر من 112 جائزة «بوليتزر». «ما هو آخر موعد محدد لإرسال الأخبار قبل الطبع؟»، عن هذا السؤال تجيب «نحن ككل الصحافيين في صراع غير منته مع الوقت. إذا أتت الساعة السادسة والنصف يتعالى صراخ الزملاء في المكتب الرئيس طلبا للأخبار التي وعدناهم بها. يتصاعد التوتر والضغط العصبي، لكنه ينتهي في الساعة السابعة مساء حيث يجب أن ننهي ما في أيدينا ونبعث به لهم بأسرع وقت. في الغد تبدأ دورة أخرى من التوتر والجدل، لكنه ممتع لأن هناك شيئا جديدا كل مرة. أنا شخصيا لا أغادر إلا نحو الساعة الثامنة والنصف أو التاسعة بعد أن أكون قد أعددت الخطوط العريضة لما بعد الغد». لكن هناك من يبقى في المكتب حتى أوقات متأخرة في الليل وهم الصحافيون المختصون بنشر الأخبار العاجلة على موقع الجريدة الإلكتروني. تعلق «عملنا بمعنى ما لا ينتهي، خصوصا مع تصاعد التنافس بين مواقع الصحف. في العادة هناك أخبار عاجلة كل ليلة، وندخل في جدل كل ليلة حول هل هي جديرة بالنشر في الموقع أم لا».
الـ«نيويورك تايمز» تعد من أكثر الصحف توزيعا داخل الولايات المتحدة حيث توزع يوميا ما يقارب المليون نسخة. موقعها الإلكتروني يعد من بين الأشهر عالميا بحيث يستقطب أكثر من ثلاثين مليون زائر شهريا. بنجاحها على المستويين الورقي والإلكتروني، يبدو أن الجريدة غير معنية بالصراع الذي تعيشه العديد من الصحف والذي دفع بعضها للتخلي تماما عن النسخة الورقية. تشرح بوميلر هذه المسألة بالقول «نحن نهتم بالنسخة الورقية مع وجود كم كبير من المشتركين والقراء الذي يفضلون الورق. نحترم هؤلاء المتابعين المحبين للنسخة الورقية. نظرة المحررين للصفحة الأولى الورقية لم تتغير. نشر أخبارهم وتقاريرهم في الصفحة الأولى علامة على النجاح والتفرد. ولكن بالطبع موقع الجريدة الإلكتروني يستقطب ملايين القراء كل شهر وهو أيضا يحظى بمزيد من المتصفحين حول العالم».
قبل أن تكمل إجابتها يدخل بتمهل إلى غرفة الاجتماعات الصحافي بيتر بيكر المراسل المسؤول عن تغطية البيت الأبيض وإدارة الرئيس باراك أوباما. بيتر عمل في صحيفة الـ«واشنطن بوست» في السابق، وغطى إدارة الرئيس بيل كلينتون، وشارك بالكشف عن فضيحة مونيكا لوينسكي التي كادت تطيح بالرئيس. كما قام بتغطية أخبار إدارة الرئيس جورج بوش، ونشر كتابا يوصف بالأكثر موضوعية عن عهد الرئيس بوش بعنوان «أيام النار: بوش وتشيني في البيت الأبيض». تدعوه بوميلر للحديث وتقوله عنه إنه «الصحافي الوحيد الذي نجتمع لمحاولة إضافة أو تعديل كلمة على مواضيعه الصحافية، لكننا نفشل كل مرة. بعد أن نصاب باليأس نقوم فقط بإضافة فاصلة حتى نشعر بأننا قمنا بشيء ما». يرد بيكر هذه الدعابة الممزوجة بالإطراء بخط نصف ابتسامة ساخرة على شفتيه ويبدأ بعدها بالحديث عن تجربته في تغطية البيت الأبيض لسنوات طويلة. يقول بيكر «الحقيقة أن تغطية شؤون البيت الأبيض أصبحت أصعب مع الوقت. مع كل رئيس جديد يكون الوضع أكثر تعقيدا. يعتقد الناس أن تغطية البيت الأبيض هي المؤتمرات الصحافية التي يعقدها الرئيس وتبثها التلفزيونات. صحيح أن مثل هذا الاستعراض يعشقه مراسلو المحطات الإخبارية، لكنه غير ذي أهمية بالنسبة لنا. نحن نبحث عن أخبار ومعلومات من الداخل لا ترغب الإدارة في الإفصاح عنها. ليس لدي تفسير محدد لماذا أصبحت تغطية شؤون الرئاسة أكثر صعوبة، ولكن ربما لأن مدينة واشنطن كعاصمة سياسية تغيرت في العقد الأخير وأصبحت أكثر صعوبة وتعقيدا».
يبدو بيتر بيكر منزعجا من التعامل مع إدارة الرئيس باراك أوباما التي يصفها بالمتكتمة والراغبة دائما في أن ينشر المراسلون ما تريد هي وليس ما يريدونه هم، ويضيف «إذا كان لديهم مشروع لإصلاح التعليم أو سن نظام جديد للصحة، فكل ما يريدونه من الصحافة هو أن تركز فقط على هذا الموضوع وليس على قضايا أخرى لا يفضلونها. منذ سنوات لم ألتق مع الرئيس. المعلومات الخاصة التي أحصل عليها من أعضاء في الإدارة يطلب مني أن تظهر دون الإشارة إلى مصدر المعلومة. ولكن ليس من الجيد أن تكثر الاعتماد على مصادر مجهولة في التقرير الصحافي. القراء لا يفضلون هذا النوع من المواضيع ولا يميلون إلى تصديقها. عندما نعترض على التكتم الذي ليس له مبرر في كثير من الأحيان يكون رد الإدارة هو نفسه: هذا ما نريده! كيف يمكن أن ترد على جواب من هذا النوع؟».
عندما تريد الإدارة أن تمرر معلومات خاصة للصحافيين تقوم بجمع العشرات منهم ونقلها لهم. يسخر بيكر الذي تمرس في العمل الصحافي ليس فقط في واشنطن ولكن أيضا في موسكو حيث غطى بدايات صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأفغانستان بعد الحرب الأميركية عام 2001 من هذه الممارسة، ويضيف بنبرة ساخرة «فكرتي عن الأخبار الخاصة والسرية تتمثل في (الحنجرة العميقة) التي كانت المصدر الرئيس لفضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس نيكسون. ولكن جمع عشرات الصحافيين بمكان واحد وتزويدهم بمعلومات عامة ليس عملا صحافيا». هذا التكتم والسرية لا يخصان فقط أخبار الرئيس، بل وحتى السيدة الأولى ميشيل أوباما التي يجد الصحافيون صعوبة كبيرة في التواصل معها أو الالتقاء بها. تعقد بوميلر حاجبيها وتعلق «الطلبات التي تدخل مكتبها لا تخرج بعد ذلك».
أكثر من يستطيع وصف هذا التكتم المتزايد هو كبير المراسلين الصحافي ديفيد سينغر الذي نشر العديد من الكتب والتغطيات الصحافية اللافتة، كانت أبرزها تغطيته للمسببات الحقيقية خلف انفجار المركبة الفضائية تشالنغر بعد لحظات من إقلاعها، وفاز بسببها بجائزة بوليتزر للصحافة. يقول سينغر الذي تعامل مع العديد من الإدارات «إن الفترة الرئاسية الأولى للرئيس تكون الأصعب على الصحافيين. الفريق المنتصر في الانتخابات يشعر بأنه حقق معجزة بالفوز والذهاب إلى البيت الأبيض، لذا لا يريد أي شيء من الصحافة ولا يرغب في التواصل معها. لكن هذا الغرور والتعالي يتلاشى تدريجيا مع عجز الإدارة عن تحقيق المشاريع التي وعدت بها. الفترة الرئاسية الثانية هي الأفضل لأن القادمين الجدد للإدارة يرغبون في الكشف عن عيوب الراحلين ويسعون لأن يدشنوا بداية جديدة لا تحملهم أخطاء من سبقهم. من هنا يكون التعاون أسهل».
لكن سينغر لا يشتغل كثيرا الآن على البيت الأبيض، بل تركيزه منصب على قضية أخرى يعدها أكثر أهمية من أخبار الرئيس والسيدة الأولى والكونغرس، وهي قضية الحرب الإلكترونية التي نشر عنها العديد من التغطيات في الصحافية، وخصص كتابا كاملا عنها. يقول سينغر إن ما فعله إدوارد سنودن وقبله جوليان أسانج لفت انتباه الناس أكثر للحرب المعلوماتية الإلكترونية لكنها قائمة منذ مدة. ويضيف «يفكر الناس في الحرب عبر إلقاء القنابل من حاملات الطائرات وإطلاق الصواريخ، لكن الحرب الإلكترونية يمكن أن تسبب العديد من الأضرار الجسيمة. ليس فقط أن تقوم بسرقة معلومات من دولة معادية، بل يمكن أن تبعث بنظامها وتعطلها وتشل قدراتها عبر فيروسات شديدة التدمير».
تركز الـ«نيويورك تايمز» أكثر على هذه القضايا التي لا تحظى بانتباه وسائل الإعلام الأخرى لكنها تجذب عددا متزايدا من القراء الباحثين عن معلومات وتحليلات معمقة حولها. من أبرز هذه القضايا قضية البيئة والطاقة. هذا ما تخصصت فيه الصحافية الشابة كارول دافنبورت التي بدأت عملها في الـ«نيويورك تايمز» قبل عدة أشهر، لكنها نشرت ثلاث قصص مهمة على الصفحة الأولى، الأمر الذي تعتبره رئيستها بوميلر «أمرا لا مثيل له ولم يحدث من قبل»، لكنها تستدرك «مع أن عبارة - لا مثيل له - ممنوعة من الاستخدام في الصحيفة فإن هذه هي الحقيقة». دافنبورت التي تتحدث بحماس وحب عن عملها وأفكارها عملت في أماكن عدة قبل انضمامها للصحيفة. من أبرز هذه الأماكن الصحيفة الإلكترونية الشهيرة «بلتكو». تقدم نصيحتها للصحافيين الشباب الراغبين في العمل في الصحف الكبرى بأن يقوموا بـ«إرسال أفضل مواضيعهم عبر البريد أو (تويتر) إلى المسؤولين عن هذه الصحف بغرض لفت انتباههم. هذا ما فعلته مع الـ(نيويورك تايمز) التي أرسلت لها مواضيعي التي اعتقدت أنها مميزة. قمت بمراسلة أحد المسؤولين في الصحيفة الذي أبدى إعجابه بما أكتبه لكنه لم يقدم لي أي عرض. بعد مدة وجدت أن الـ(نيويورك تايمز) تقوم بنشر مواد صحافية عن الطاقة والبيئة وعلاقتها بالاقتصاد هي تقريبا نفس أفكار مواضيعي التي نشرتها سابقا. راسلت هذا المسؤول وكتبت له: أُفضل أن أكتب مواضيعي بـ(التايمز) بنفسي !». نجحت هذه الرسالة الشريرة الذكية في ضمها للصحيفة الأكثر شهرة في الولايات المتحدة.
وعن عملها تقول كارول إن قضايا الطاقة والبيئة والاحتباس الحراري ذات أهمية كبيرة على مستوى الاقتصاد ومستقبل العالم، وتعمل لأن تجعل منها محط اهتمام القراء. لكنها أيضا تعاني من مشكلة شح المعلومات التي تقدمها الحكومة والبيت الأبيض، لكن لديها طريقتها الخاصة للحصول عليها، وذلك عبر «الموظفين الراحلين من البيت الأبيض أو الحكومة أو الشخصيات من الخارج التي تعقد اجتماعات مع أعضاء من الإدارة. هذه الشخصيات أقل تحفظا للإدلاء بمعلومات. دائما العمل من الخارج إلى الداخل مفيد للصحافي إذا سُدت الطرق بوجهه».
هناك العديد من الأسئلة المتبقية، لكن الساعة الآن الثانية ظهرا. الاتصالات العاجلة من المقر الرئيس ستبدأ بعد قليل بالانهيال على المكتب طلبا للمواضيع الجديدة. قلق الصحافيين المعروف من تفويت الوقت وخسارة المنافسة مع الآخرين يلتمع في أعين بوميلر وزملائها. بمجرد أن انتهى الحوار هرع الجميع لمكاتبهم الصغيرة. عندما خرجت كان الجو أكثر برودة قبل دخولي أو هكذا تخيلت.



بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
TT

بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)

أقفل الإعلامي اللبناني الراحل بسّام برَّاك باب العربية الفصحى وراءه ومشى. أصدقاؤه وزملاؤه، عندما تسألهم من يرشحون لحمل إرثه، يردّون: لا أحد. حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه. أبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته. ألقابه ترتبط ارتباطاً مباشراً بها، وهي كثيرة. فهو «الأستاذ» و«المعلّم» و«عاشق اللغة» و«حارسها». كثيرون من أهل الإعلام والصحافة يعدّونه شخصية لن تتكرر في لبنان. وكان برَّاك قد رحل بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز الـ53 عاماً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

حالة العشق هذه لم يكن يخفيها عن أحد. يفتخر بإجادة العربية وبالتحدث بها في أي مكان ومناسبة. حتى عندما يحاور أولاده في البيت كان يتكلّم معهم بالفصحى، وهو على يقين بأن زرع بذور العربية في أعماقهم، لا بدّ أن تتفتّح براعمها عند الكبر.

الإعلامية لينا دوغان رافقته في مشوار إعلامي طويل (الشرق الأوسط)

جائزة بسام برَّاك للغة العربية

حلم الإعلامي الراحل بتنظيم جائزة يكرّم من خلالها اللغة المغرم بها. فهو تربّى في منزل يهوى أفراده، من والدين وأخوة، العربية. نشأ على حبها والإعجاب بها. حاول أكثر من مرة إطلاق الجائزة، غير أن ظروفاً عاكسته. وعندما أصابه المرض وبدأت صحته تتراجع، أوصى زوجته دنيز بأن تنفذها بعد مماته.

تقول دنيز لـ«الشرق الأوسط»: «كان يطرب للعربية فيقرأها بنهم، ويتحدث بها بشغف. كانت فكرة الجائزة تراوده دائماً. وعندما مرض أوكل هذه المهمة لي. وسنعلن عن هذه الجائزة في الذكرى السنوية الأولى لوفاته، ونقدمها لمن يستحقها».

المناسبة الثانية التي سيتم تكريم بسام برَّاك خلالها تقام في 18 ديسمبر (كانون الأول)، ويصادف اليوم العالمي للغة العربية. تنظّم مدرسة العائلة المقدسة التي كان أستاذ الصفوف العربية فيها، يوماً كاملاً لاستذكاره.

كان الراحل برّاك يلقب بـ"عاشق اللغة العربية وحارسها" (الشرق الأوسط)

بسام الزميل الخلوق

عندما تسأل أصدقاء الراحل بسام برَّاك عنه تأتيك أجوبة متشابهة، وجميعها تصب في خانة «الزميل الخلوق». يؤكدون كذلك أنه إعلامي متميّز بشدة حبّه للعربية الفصحى.

الإعلامية لينا دوغان التي رافقت برَّاك في مشوارٍ مهني طويل، تعدّه مثلها الأعلى في اللغة العربية. وتضيف لـ«الشرق الأوسط»: «كان دقيقاً جداً في ملاحظاته للأخطاء في العربية. فعندما تسمع أذنه أي لفظ أو إلقاء أو خطأ يقترفه مذيع أخبار، يبادر إلى تصحيحه بشكل تلقائي».

وعن التأثير الذي تركه بسام على الذاكرة الجماعية من خلال اللغة، تردّ: «لقد قام بخطوة استثنائية في هذا الخصوص. أطلق مسابقة (الإملاء باللغة العربية). ووضع حجر الأساس للغة نحكيها، ولا نجيد قواعدها ولا كتابة ألفاظها. حتى أنه كان من النادر جداً في المسابقة المذكورة، أن ينجح أحد فيها، مع أن المتسابقين من الطراز الأول، ويتألفون من دكاترة واختصاصيين في العربية، إضافة إلى أدباء ووزراء ونواب».

تروي لينا دوغان أنه لبالغ ولعه بالفصحى، كان يتكلمها مع أطفاله. «تخيلي كان عندما يتوجه لابنه الصغير الذي يؤدي بالفرنسية أغنية طفولية معروفة (Tape les mains) يقول له: (صفّق صفّق). كان حارساً للغة، يعدّها أساسية في هويتنا العربية». وتضيف: «لقد كان إعلامياً مثقفاً جداً ومهذباً، خلوقاً. وهو ما بتنا نفتقده اليوم في مهنتنا».

وعما تعلّمته منه تردّ: «الكثير وأهمها الدقّة في العمل. ولا سيما قراءة النص أكثر من 10 مرات كي أتقّن إذاعته. كما تعلمت منه المثابرة في العمل. فبسام كان يملك تقنية إلقاء مثالية. ومرات كثيرة يرتجل مباشرة على المسرح في مناسبة يطلب منه تقديمها».

الإعلامي جورج صليبي كان رفيق دربه في المهنة وفي حب فيروز (الشرق الأوسط)

فيروز ألهمته فرحل وهو يردد «إيماني ساطع»

علاقة وطيدة كانت تربط بين بسام برَّاك والسيدة فيروز. وكان يردد بأنه عشق العربية من خلالها. كان صوتها يلهمه للبحث في هذه اللغة، وكذلك إتقان مخارج الحروف وعملية تحريك النص. آخر مشوار للقائها، قام به بمناسبة تقديم التعازي لفيروز بوفاة نجلها زياد الرحباني، رافقه فيه زميله وصديقه الإعلامي جورج صليبي. وتشير زوجته دنيز إلى أنه كان على علاقة وثيقة بـ«سفيرتنا إلى النجوم». «كانا يتبادلان الهدايا في المناسبات، ومن بينها ربطة عنق أوصاني بأن يرتديها عندما يرحل. وكان يزورها بين وقت وآخر. أما أغنيتها (إيماني ساطع) فقد بقي يسمعها حتى لحظاته الأخيرة». وتتابع: «صوت فيروز كان يرافقنا دائماً، في البيت كما في السيارة، وفي أي مناسبة أخرى. فلا يتعب ولا يملّ من سماعه وكأنه خبزه اليومي».

ولكن من ترشّح زوجته ليكمل طريق بسام في العربية؟ تجاوب: «في الحقيقة لا أعرف من يمكن أن يحمل هذا الإرث. بسام كان يبدي إعجابه بكثيرين يجيدون العربية الفصحى قراءة ولفظاً، ومن بينهم زملاء كالإعلاميين يزبك وهبي وماجد بو هدير وجورج صليبي ومنير الحافي والمؤرّخ الدكتور إلياس القطار وغيرهم، وجميعهم ضليعون بالعربية ويحبونها».

أصدر بسّام برَّاك كتاباً واحداً من تأليفه بعنوان «توالي الحبر»، وتضمن صوراً أدبية كثيرة، وضعها تحت عنوان الحبر، ومن بينها «حبر الحب» و«حبر الوطن» و«حبر فيروز». كما كتب مؤلفاً بعنوان «أسطورة المال والأعمال»، يحكي فيه سيرة عدنان القصار كرجل أعمال وسياسي. والجدير ذكره أن الإعلامي الراحل تأثر كثيراً بأستاذه الراحل عمر الزين. فهو من وضعه على سكة الفصحى المتقنة خلال عمله الإذاعي عبر أثير «صوت لبنان». وعندما رحل الزين أوصى بمنح برَّاك مكتبته المؤلفة من مجلدات ومؤلفات عربية، وكذلك من مدونات، وقصاصات، ورقية وخواطر. واليوم يترك بسام خلفه، إرثين، أحدهما يخصه، والآخر ورثه عن عمر الزين.

صداقة وزمالة وذكريات مع بسام برَّاك

كل من عرف الراحل بسام برَّاك عن قرب من زملاء وأصدقاء، يحدثك عنه بحماس. فالإعلامي يزبك وهبي يعتبره نابغة في مجاله، وكذلك زافين قيومجيان الذي قال عند رحيله إن اللغة العربية أصبحت يتيمة، بينما وصفه الرئيس اللبناني العماد جوزيف عون بأنه كان «الصحّ دوماً».

حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه، فأبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته

من جهته، يقول زميله جورج صليبي الذي بقي على اتصال به حتى لحظاته الأخيرة، بأنه الزميل الصديق والوفي. كانت تربطه به علاقة مميزة، عمرها 33 سنة، منذ عملهما سوياً في إحدى الإذاعات اللبنانية في أوائل التسعينات. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لجيلنا كان الراحل برَّاك مرجعنا الوحيد للعربية. نتصل به ونستفهم منه حول كيفية تحريك عبارة ما. وحتى عن معنى كلمة تصادفنا لأول مرة. كان موسوعة متنقلة للغة العربية. وأعتبره مقاتلاً شرساً في سبيلها».

ويستطرد صليبي: «كان يبالغ أحياناً في اعتماده الفصحى في أي زمان ومكان. وأذكر مرة عندما أهداني ربطة عنق، اتصلت به لأشكره، قال لي: لا نسميها كرافات أو ربطة عنق، بل (الإربة). فلا أحد يضاهيه في ثقافته وغوصه في هذه اللغة».

ترافق صليبي وبرَّاك في حبّهما لفيروز. الاثنان مولعان بها ويحبان أغنياتها ويحضران حفلاتها، فيلحقان بها أينما كانت حتى خلال تقديمها تراتيل كنائسية. «أول حفلة حضرناها معاً لفيروز، كانت في 17 سبتمبر (أيلول) من عام 1994 وسط بيروت. وبقينا نتذكر هذا التاريخ في موعده من كل عام. فيروز كانت تمثّل له العالم الذي يعشقه تماماً، كما اللغة العربية. وحتى عندما كنا نزورها سوياً، كان يخرج من عندها مفعماً بالفرح والإعجاب».

التقاه صليبي قبل 36 ساعة من وفاته: «حزن كثيراً لمصابه، فمرضه العضال أفقده القدرة على النطق. وهو ما كان يعدّه النقطة الأساسية في مهنته. فكان يحزّ في قلبه كثيراً هذا السكوت الذي ابتلي به وفُرض عليه. المرض أفقده صوته وشغفه بالإلقاء. وكان يعبّر عن هذا الأمر بلوم وعتب. وفي آخر لقاء معه كان شبه فاقد لوعيه، ولا أعرف إذا ما كان يسمعني، أخبرته عن ذكرياتي معه، وعن فيروز وأمور أخرى يحبها».

أما عن إرث بسام برَّاك اللغوي والأدبي، فيعلّق صليبي: «أرشيف غني وضخم، كان يملكه زميلي الراحل بسام. وهو تضاعف بعدما أوصى عمر الزين بتحويل مكتبته الأدبية له بعد رحيله. هذان الإرثان يجب أن يتم الاهتمام بهما من قبل مؤسسة جامعية أو ثقافية، لأن الحفاظ عليهما يفوق قدرة الفرد الواحد».


استخدام الذكاء الاصطناعي في «واتساب» يُعمق الخلاف القانوني بين أوروبا و«ميتا»

شعار «ميتا» (رويترز)
شعار «ميتا» (رويترز)
TT

استخدام الذكاء الاصطناعي في «واتساب» يُعمق الخلاف القانوني بين أوروبا و«ميتا»

شعار «ميتا» (رويترز)
شعار «ميتا» (رويترز)

أثار استخدام شركة «ميتا» للذكاء الاصطناعي في تطبيق «واتساب» معركة قانونية جديدة بين شركة التكنولوجيا الأميركية والاتحاد الأوروبي، لا سيما بعدما أعلنت أوروبا فتح تحقيق مع «ميتا» بشأن احتمال انتهاكها قواعد المنافسة المتعلقة بميزات الذكاء الاصطناعي في «واتساب»، ما اعتبر بحسب خبراء «تصعيداً لنزاع قانوني قائم، وتأكيداً على اتجاه أوروبا لتنظيم مواقع التواصل»، رغم ضغوط الولايات المتحدة، واتهام الرئيس دونالد ترمب لأوروبا بـ«استهداف الصناعة الأميركية بشكل غير عادل».

ووفق المفوضية الأوروبية، فإن «السياسة الجديدة التي أعلنتها (ميتا) قد تمنع مزودي خدمات الذكاء الاصطناعي الخارجيين من تقديم خدماتهم عبر (واتساب)، ما يعد إساءة استخدام لوضع مهيمن». وقالت نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية المسؤولة عن المنافسة، تيريزا ريبيرا، في بيان صحافي الأسبوع الماضي، إن «بروكسل تريد ضمان استفادة المواطنين والشركات بشكل كامل من الثورة التكنولوجية المتعلقة بزيادة استخدام الذكاء الاصطناعي، وذلك من خلال منع أصحاب المراكز المهيمنة من استغلالها لإقصاء المنافسين».

ويتيح «واتساب» حالياً للشركات التواصل مع العملاء على التطبيق، وبعض هذه الشركات يستخدم تقنيات ذكاء اصطناعي لإجراء المحادثات، لكن مع القواعد الجديدة التي أعلنتها «ميتا» فإن هذه الشركات قد لا تستطيع استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التي طورتها، ما يصب في صالح خدمة «ميتا إيه آي». لكن «واتساب» ترى أن «انتشار روبوتات الدردشة عبر التطبيق يثقل كاهل أنظمته غير المصممة لتحمل هذا العبء، ولذلك كان ينبغي الإعلان عن تغييرات»، بحسب «وكالة الصحافة الفرنسية».

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، رأى أن «هذا التحقيق جزء من صراع قانوني متصاعد بين الاتحاد الأوروبي وشركات التكنولوجيا الكبرى وعلى رأسها (ميتا)». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «الصراع متعلق بأمور عدة؛ من بينها حماية البيانات الشخصية للمستخدمين، ومنع المحتوى المسيء، واستخدام الذكاء الاصطناعي».

وقال إن «استخدام الذكاء الاصطناعي يضر بالخصوصية، ويتيح معالجة كم هائل من البيانات في وقت قصير»، مرجحاً استمرار تصاعد الصراع القانوني بين الاتحاد الأوروبي و«ميتا».

وكانت «ميتا» قد بدأت في مارس (آذار) الماضي دمج روبوت المحادثة والمساعد الافتراضي «ميتا إيه آي» في تطبيق «واتساب» داخل الأسواق الأوروبية. وفي يوليو (تموز) الماضي، فتحت هيئة مكافحة الاحتكار الإيطالية تحقيقاً بشأن اتهامات لـ«ميتا» باستغلال قوتها السوقية عبر دمج أداة ذكاء اصطناعي في «واتساب»، وتوسع التحقيق في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لفحص ما إذا كانت «ميتا» قد انتهكت قواعد المنافسة والاحتكار.

المتخصص في الرصد والتحليل الإعلامي والصحافي المصري محمد الصاوي قال إن «التحقيق الأخير الذي أطلقه الاتحاد الأوروبي ضد (ميتا) ليس مجرد خلاف تقني، أو قانوني، بل نقطة تحوّل حقيقية في كيفية تعامل المنظمين مع هيمنة الشركات الكبرى على أدوات المستقبل، وتحديداً الذكاء الاصطناعي». وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «محاولة (ميتا) حصر استخدام الذكاء الاصطناعي ضمن منظومتها فقط قد تُفهم على أنها محاولة لبناء (بوابة مغلقة) تقيّد الابتكار، وتمنع المنافسة، ما يتنافى مع المبادئ الأساسية التي يحرص عليها الاتحاد الأوروبي». وأشار إلى أن الخلافات القانونية بين الاتحاد الأوروبي و(ميتا) ليست وليدة اللحظة، بل تمتد لسنوات مضت، بدءاً من قضايا حماية البيانات، مروراً بالتحقيقات المرتبطة بالاحتكار واستغلال الهيمنة السوقية، وانتهاءً بالخلافات حول الإعلانات الموجهة، والمحتوى السياسي.

وقال الصاوي إن هذا «النزاع المستمر بين الاتحاد الأوروبي و(ميتا) يحمل وجهين؛ فمن جهة، يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الحماية للبيانات، والخصوصية، وفرض معايير أكثر شفافية على كيفية استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. ومن جهة أخرى، قد يتسبب في تقييد بعض الخدمات، أو تعقيد تجربة الاستخدام في حال قررت (ميتا) تقليص بعض المزايا في أوروبا للامتثال للقوانين».


ما العلاقة بين تراجع «إكس» وسياسات ماسك؟

ماسك يُشير بيده في أثناء حديثه خلال العرض الافتتاحي داخل صالة «كابيتول وان آرينا» بواشنطن في يناير (كانون الثاني) الماضي (أ.ف.ب)
ماسك يُشير بيده في أثناء حديثه خلال العرض الافتتاحي داخل صالة «كابيتول وان آرينا» بواشنطن في يناير (كانون الثاني) الماضي (أ.ف.ب)
TT

ما العلاقة بين تراجع «إكس» وسياسات ماسك؟

ماسك يُشير بيده في أثناء حديثه خلال العرض الافتتاحي داخل صالة «كابيتول وان آرينا» بواشنطن في يناير (كانون الثاني) الماضي (أ.ف.ب)
ماسك يُشير بيده في أثناء حديثه خلال العرض الافتتاحي داخل صالة «كابيتول وان آرينا» بواشنطن في يناير (كانون الثاني) الماضي (أ.ف.ب)

بعد أكثر من 3 سنوات على استحواذ الملياردير الأميركي إيلون ماسك على منصة «إكس» (تويتر سابقاً) في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، تزداد المؤشرات على تراجع المنصة من حيث «التأثير والتفاعل»، بحسب ما يقول مختصون، بالتوازي مع تجدُّد الحديث بشأن سياساتها التحريرية، وعلاقة المنصة بطموحات مالكها السياسية، وتحوُّل المعلنين عنها.

ويرى مختصون أن ما يجري على «إكس» لم يعد مجرد تغييرات تقنية أو تجارية، بل هو «انعكاس مباشر لرؤية ماسك الآيديولوجية، وطريقة توظيفه المنصة في مشروع نفوذ سياسي أوسع». ويقولون: «إن وجود علاقة مباشرة بين طموحات ماسك السياسية وسياساته التحريرية الجديدة أخرج المنصة عن مسارها».

شعار منصة "إكس" فوق أحد مقراتها في سان فرانسيسكو (رويترز)

وأشارت بيانات حديثة عدة إلى تراجع التفاعل على منصة «إكس» خلال الأعوام الأخيرة، وجاء من أبرزها تحليل إحصائي نشره موقع «بروكسيدايز (Proxidize)» في أكتوبر الماضي، تحدَّث عن تراجع معدلات التفاعل على المنصة بنحو 48.3 في المائة خلال عام واحد فقط، إذ انخفض معدل التفاعل المتوسط لكل تغريدة من 0.029 في المائة في 2024 إلى 0.015 في المائة في 2025.

كما قلصت العلامات التجارية وتيرة النشر بنحو ثُلث المحتوى تقريباً، مع انخفاض متوسط عدد التغريدات الأسبوعية من 3.31 إلى 2.16 تغريدة للحسابات التجارية. وتشير بيانات أخرى إلى تراجع متوسط زمن الاستخدام اليومي من أكثر من 30 دقيقة إلى نحو 11 دقيقة فقط، بما يعكس تغيراً في سلوك المُستخدمين، لا سيما مع صعود المنصات المُعتمِدة على الفيديو القصير.

تقارير تحدثت عن تراجع معدلات التفاعل على منصة "إكس" (رويترز)

الباحث المتخصص في التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي التوليدي، الدكتور فادي عمروش، أكد «فرضية تراجع المتابعات على المنصة النقاشية الأبرز»، ودلَّل على ذلك بالإشارة إلى «تراجع التفاعل على منصة (إكس) مقارنة بسنوات ما قبل 2022»، لافتاً إلى أن بيانات «سيميلر ويب (Similarweb)» تشير إلى هبوط مستخدمي المنصة على الهواتف المحمولة من 388.5 مليون في يونيو (حزيران) 2023 إلى 311.1 مليون في 2025، أي خسارة تتجاوز 75 مليون مستخدم، بما يقارب 20 في المائة.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «ليس هذا فحسب، إنما وُجدت أيضاً تحليلات تظهر انخفاض متوسط الإعجابات لكل منشور من 37.8 في 2023 إلى نحو 31.4 في 2024، أي تراجع نحو 17 في المائة». وأرجع هذه المؤشرات إلى أسباب، من بينها «ارتباط (إكس) باسم إيلون ماسك بعد استحواذه عليها، وما يرافق ذلك من استقطابات حادة بين مؤيدي ومعارضي آرائه، بالإضافة إلى تغييره الخوارزمية التي تعرض المنشورات عدة مرات بحجة محاربة البوتات، والتي رغم ادعائه أنها شفافة، فإن هذا الادعاء غير مُدعم بأدلة كافية بعد، خصوصاً أن ليس كل المستخدمين متساوين في فرص الوصول والتفاعل». وأشار إلى بُعد آخر قائلاً: «في منصات الأخبار السريعة، مغادرة عدد من الصحافيين والأكاديميين والخبراء قلّلت من الحوار النوعي وأضعفت حركة إعادة النشر».

وعدّ عمروش أن سياسة ماسك الربحية وتفضيله «الحسابات الموثقة المدفوعة»، مثَّلا اتجاهاً أفرغ المنصة من ركيزتها الأساسية بوصفها ساحةً للنقاش التفاعلي القائم على الأفكار، مضيفاً «إجراءات الحد من الوصول المجاني للواجهة البرمجية (API) أضعفت تجربة المتابعة والبحث، وهذا ينعكس عادة في تراجع التفاعل غير المدفوع».

ومع ذلك، لا يلقي عمروش باللوم على سياسات ماسك وحدها، إذ يعيد جانباً من تراجع التفاعل أيضاً إلى «تحوّل عادات المُستخدمين نحو الفيديو والمنصات المُعتمِدة على المقاطع القصيرة، فالسوق كلها تتجه إلى الفيديو القصير. وهذا يقلل الوقت الذهني المتاح لمنصات النصِّ السريع، خصوصاً لدى الشباب، إذ إن استخدام المراهقين لـ(إكس) أقل بكثير مما كان عليه سابقاً».

طموحات ماسك

بعيداً عن القرارات التحريرية داخل المنصة، تَزَامَنَ هذا التراجع في التفاعل مع صعود ماسك لاعباً سياسياً ثقيل الوزن في الولايات المتحدة. وتشير تحليلات صحافية من بينها «واشنطن بوست»، استناداً إلى بيانات لجنة الانتخابات الفيدرالية الأميركية، إلى أن «ماسك قدَّم خلال دورة انتخابات 2024 تبرعات سياسية تجاوزت ربع مليار دولار لدعم دونالد ترمب ومرشحين جمهوريين آخرين، ليصبح بذلك أكبر متبرع فردي في تلك الدورة الانتخابية، وفق هذه البيانات».

وفي يوليو (تموز) 2025 أعلن ماسك عبر «إكس» تأسيس حزب سياسي جديد يحمل اسم «America Party»، في خطوة رأت فيها تقارير لوكالات كبرى مثل «رويترز» و«أسوشييتد برس» انتقالاً من دور الممول للتيار اليميني إلى «فاعل» يسعى إلى بناء مشروع سياسي مستقل يستند إلى نفوذه على المنصة.

أستاذ الإعلام الجديد والرقمي في الجامعة الكندية بدبي، الدكتور الأخضر شادلي، يرى أن منصة «إكس» شهدت أكبر تحول في تاريخها بعد استحواذ ماسك عليها؛ بسبب «خلفيته المثيرة للجدل وطموحاته السياسية المتنامية». وقال لـ«الشرق الأوسط»: «أظهر ماسك مواقف سياسية متزايدة علنية، خصوصاً فيما يتعلق بحرية التعبير، والقيود الحكومية، والانتخابات الأميركية، ودعمه لبعض التيارات، وانتقاده للإعلام التقليدي والمؤسسات الديمقراطية، وهذه الخلفية السياسية أصبحت مهمة لفهم قراراته بعد السيطرة على (إكس)».

وأضاف شادلي: «قبل استحواذ ماسك، كانت سياسات (تويتر سابقاً) مستقرَّة نسبياً، وترتكز على مكافحة خطاب الكراهية والتحريض، والحد من (المعلومات المضللة)، وكانت هناك آليات تَحقُّق صارمة للحسابات ولجان مستقلة لمراجعة المحتوى، كما ركزت الإدارة السابقة على الحفاظ على بيئة رقمية آمنة». لكنه أشار إلى أن «وجود علاقة مباشرة بين طموحات ماسك السياسية وسياساته التحريرية الجديدة أخرج المنصة عن مسارها»، إذ «تَزَامَنَ تبنيه لخطاب حرية التعبير مع تحالفاته السياسية، وظهر انحيازٌ لصالح خطاب اليمين الشعبوي، ما أضعف المعايير المهنية وفتح المجال لحملات التضليل. وأصبحت المنصة بمثابة مساحة نفوذ سياسي عالمي في يد ماسك، وليست مجرد شركة تواصل اجتماعي».

عزوف المعلنين

وأشار الصحافي المتخصص في الإعلام الرقمي بقناة «سي إن إن» العربية، الحسيني موسى، إلى أن تراجع التفاعل على منصة «إكس» انعكس مباشرةً على سياسات المعلنين وعزوف بعضهم نحو منصات أخرى.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «الأرقام تشير إلى تراجع واضح في ثقة المعلنين بـ(إكس)». وتحدَّث عن تقرير لشركة الأبحاث العالمية «Kantar»، نُشر في سبتمبر (أيلول) 2024، ذكر أن 4 في المائة فقط من المعلنين يعدّون أن «إكس» توفر بيئة «آمنة للعلامة التجارية» مقابل 39 في المائة لصالح «غوغل» و32 في المائة لـ«يوتيوب». كما يُظهر التقرير نفسه أن «26 في المائة من المُسوِّقين يخططون لخفض إنفاقهم على إعلانات (إكس) خلال 2025، في أكبر تراجع مسجَّل لأي منصة إعلانية كبرى».

وأضاف موسى أن «مجموعة من الشركات الكبرى أعلنت رسمياً وقف إعلاناتها على (إكس)، من بينها: (أبل)، و(ديزني)، و(آي بي إم)، و(باراماونت)، و(وورنر براذرز). وجاءت قرارات الإيقاف؛ نتيجة مخاوف من ظهور محتوى مثير للجدل أو معادٍ للسامية بجوار إعلاناتها، بالإضافة إلى ضبابية سياسات المحتوى تحت إدارة إيلون ماسك».

«ما يجري على إكس انعكاس مباشر لرؤية ماسك الآيديولوجية وطريقة توظيفه المنصة في مشروع نفوذ سياسي أوسع»

وشرح قائلاً: «الميزانيات غادرت (إكس) إلى منصات أكثر استقراراً من حيث سلامة العلامة وفعالية التوزيع؛ مثل منصة (يوتيوب) التي تعدّ اليوم الأكثر جذباً للمعلنين البارزين، و(تيك توك) التي تُعدّ المنصة الأعلى تأثيراً على المستهلكين الشباب، كما أن (أمازون) تستحوذ على ثقة كبيرة لدى العلامات التي تعتمد على التجارة المباشرة، وأخيراً (ميتا)، بمنصتيها (فيسبوك) و(إنستغرام)، ما زالت تحتفظ بجاذبية لدى قطاعات واسعة من المعلنين».

ويرى موسى أن «هناك فرصة لا تزال قائمة أمام (إكس) لاستعادة جزء من المستخدمين والمعلنين»، قائلاً: «العودة ممكنة، لكن المطلوب أولاً إعادة بناء ثقة العلامات التجارية عبر تحسين معايير (الأمان) وضمان استقرار سياسات المحتوى، والشفافية في عرض الإعلانات».

بالعودة إلى الباحث المتخصص في التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي الدكتور فادي عمروش، فإنه يرى أن أهم الخطوات التي تحتاج إليها «إكس» الآن لاستعادة ثقة المستخدمين هي تحقيق توازن حقيقي بين حرية التعبير وضبط المحتوى الضار. وقال إن هذه المعادلة ممكنة إذا جرى «توسيع نظام (ملاحظات المجتمع) مع شفافية أكبر، فلا تكفي مجرد إضافة الملاحظة، بل يجب نشر بيانات دورية تتضمَّن، مثلاً: كم محتوى تم تقييده؟ كم ملاحظة أُضيفت؟ وما أثرها على الانتشار؟ أعتقد أن الشفافية تقلل اتهامات التحيُّز، وتدعم حرية التعبير ضمن قواعد واضحة».

وفي ضوء كل ذلك، يقول محللون مختصون بالإعلام: «إن مستقبل (إكس) سيتحدَّد على الأرجح في المساحة الواقعة بين طموحات ماسك السياسية وحسابات السوق وصبر المُستخدمين والمعلنين على منصة تحاول أن تعرّف نفسها من جديد في عالم يتغير بسرعة».