اختلافات أحوال مسلمي أميركا عن نظرائهم في أوروبا تقلل فرص نشوء بيئة حاضنة للإرهاب في الولايات المتحدة

على الرغم من الزيادة الملحوظة لأعداد المتطرفين.. واستغلالهم وسائط التواصل الاجتماعي

من الواضح أن مسلمي أميركا «لا يبدون متأثرين بإغراءات (داعش) ودعايته المبنية على الإبادة الجماعية على عكس مسلمي أوروبا» ({نيويورك تايمز})
من الواضح أن مسلمي أميركا «لا يبدون متأثرين بإغراءات (داعش) ودعايته المبنية على الإبادة الجماعية على عكس مسلمي أوروبا» ({نيويورك تايمز})
TT

اختلافات أحوال مسلمي أميركا عن نظرائهم في أوروبا تقلل فرص نشوء بيئة حاضنة للإرهاب في الولايات المتحدة

من الواضح أن مسلمي أميركا «لا يبدون متأثرين بإغراءات (داعش) ودعايته المبنية على الإبادة الجماعية على عكس مسلمي أوروبا» ({نيويورك تايمز})
من الواضح أن مسلمي أميركا «لا يبدون متأثرين بإغراءات (داعش) ودعايته المبنية على الإبادة الجماعية على عكس مسلمي أوروبا» ({نيويورك تايمز})

أثارت المذبحة التي ارتكبها سيد رضوان فاروق وزوجته الباكستانية تشفين مالك، في مدينة سان برناردينو بولاية كاليفورنيا الأميركية، مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي، جدلاً سياسيًا حاميًا حول موقع المسلمين ودورهم في الولايات المتحدة. وكان الطين قد ازداد بلة في أعقاب التصريحات المعادية لهم التي أطلقها المرشح المحافظ دونالد ترامب في سياق حملته الانتخابية الرئاسية. ولكن ثمة من يرى أنه على الرغم من عداء ترامب المكشوف تجاه المسلمين وبالذات في الولايات المتحدة، يبقى ما يسمى «خيار الجهاد» - ولو برز في الآونة الأخيرة - ظاهرة هامشية في أميركا بخلاف الحال في أوروبا.
في أعقاب المجزرة التي ارتكبها الأميركي من أصل باكستاني سيد رضوان فاروق وزوجته الباكستانية تشفين مالك، والتي أودت بحياة 14 من زملائهما في مركز صحي بضواحي مدينة سان برناردينو في جنوب ولاية كاليفورنيا، أعلن المرشح الرئاسي الجمهوري الملياردير دونالد ترامب أنه بات من الواجب النظر إلى جميع المسلمين بشك وريبة. وأردف «علينا أن ننظر في المساجد. ليس لدينا خيار آخر. علينا أن نرى ماذا يحدث هناك لأن شيئا ما يجري». ودعا ترامب أيضًا إلى «فرض حظر شامل وكامل على دخول جميع المسلمين لأراضي الولايات المتحدة إلى أن يتمكن ممثلو بلدنا (أي كبار الساسة وأعضاء الكونغرس) من معرفة ما يجري».
غير أن الحقيقة لا تبدو على هذا المستوى من «الدرامية». فمنذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، قتل 45 شخصًا نتيجة أعمال عنف متصل بمسلمين، ومات نصف هؤلاء الضحايا في حادثتي إطلاق نار: الأولى نفذها طبيب مسلم مجند في الجيش الأميركي بولاية تكساس عام 2009، والثانية الحادثة الأخيرة في سان برناردينو. وفي المقابل، على سبيل المقارنة ليس إلا، سقط في فرنسا، التي تعرضت أخيرًا لموجة من عمليات الإرهاب متصلة بمسلمين 152 شخصًا في عمليات دامية خلال عام 2015 وحده.
من جهة ثانية، أوردت وكالة «رويترز» للأنباء نقلاً عن مصدر في مجلس الشيوخ الفرنسي، أن أكثر من 1400 حركي متشدد فرنسي انضموا إلى منظمات متطرفة ترفع شعارات الإسلام في سوريا أو العراق من أصل 65 مليون نسمة. في حين لم يتخطَ في الولايات المتحدة، التي يناهز عدد سكانها الـ326 مليون نسمة، عدد الأشخاص الذين سافروا أو حاولوا السفر إلى سوريا والعراق للانضمام إلى تنظيم داعش الـ250 شخصا منذ خريف عام 2015.
الدكتور ماثيو ليفيت، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، قال خلال مقابلة مع «الشرق الأوسط» إن «مشهد المتشددين المتلبسين لبوس الإسلام في الولايات المتحدة يختلف كثيرًا عن الواقع الأوروبي». وعزا مشاركة الأميركيين الضئيلة نسبيًا في القتال الدائر في كل من سوريا والعراق إلى عدة عوامل، منها بعد المسافة بين أميركا والشرق الأوسط، «فالولايات المتحدة هي أبعد، والقدرة على السفر من أوروبا إلى الشرق الأوسط أسهل بكثير».
ثم هناك عامل ثانٍ مهم يتجسَّد في حقيقة أن مسلمي أميركا منخرطون بصورة أفضل في مجتمعاتهم مما هم عليه في فرنسا، أو دول أوروبا بشكل عام، حيث يعانون التهميش «ما يخلق في أوروبا ظاهرة اجتماعية مؤهلة أكثر لاعتناق الآيديولوجيات العنفية»، وفق الدكتور ليفيت.
وفي السياق نفسه، أشار الدكتور ليث سعود، الأستاذ المساعد للدراسات الدينية في جامعة دي بول بمدينة شيكاغو ومؤلف كتاب «مقدّمة عن الإسلام في القرن الواحد والعشرين»، خلال مقابلة مع «الشرق الأوسط» إلى «الفرق الجذري (في التركيبة السكانية) بين الولايات المتحدة وأوروبا: ففي بلد مثل ألمانيا مثلاً، 75 في المائة هم من السكان الأصليين، أما في الولايات المتحدة فالسكان بأجمعهم هم أحفاد المهاجرين، ثم إن أوروبا لم تشهد موجات هجرة إلا في الآونة الأخيرة وتحديدًا خلال السنوات الخمسين إلى المائة سنة الماضية». وأردف سعود «أضف إلى ذلك أن الأميركيين المسلمين أكثر ثراء وأفضل تعليمًا مما هم عليه في أوروبا. وعلى الرغم من أنهم لا يزيدون عن واحد في المائة من سكان الولايات المتحدة، فإنهم يمثلون 10 في المائة من الأطباء، مثلاً، والذين هاجروا خلال العقود الأخيرة إلى الولايات المتحدة حائزون على مستويات علمية متقدمة، بينما يتألف قسم كبير من مجتمع المهاجرين المسلمين إلى أوروبا من طبقة العمال الفقيرة المتحدِّرة من المستعمرات القديمة». ثم إنه من الواضح أيضًا أن مسلمي أميركا «لا يبدون متأثرين بإغراءات (داعش) ودعايته المبنية على الإبادة الجماعية على عكس مسلمي أوروبا». كذلك يلحظ الدكتور سعود عاملاً آخر على جانب من الأهمية هو أن المجتمع المسلم في الولايات المتحدة متعاون للغاية مع إجراءات تطبيق القانون، وإلى أن «نصف الهجمات قد أحُبِطَت نتيجة معلومات تقدّم بها شخص مسلم آخر».
أخيرا، ضمن العوامل المؤثرة مستوى كفاءة الأجهزة الأمنية، وحقًا تعتبر كفاءة وفعالية وكالات الأمن في الولايات المتحدة، على غرار مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) أحد أهم العوامل التي تفسِّر تدني أعداد المتشددين الإرهابيين الأميركيين المتحدرين من خلفيات مسلمة. وموظفو مكافحة الإرهاب، الذين زيد عددهم بألفي عنصر، ينكبون على ملاحقة كل ما يرتبط أو يشتبه بارتباطه بـ«داعش» في الولايات الأميركية الخمسين. وفي هذا الإطار، يعتبر ليفيت أن قوة الولايات المتحدة تكمن في نظامها التكاملي والإطار القانوني لديها. ويستطرد موضحًا «وعلى الرغم من أن مستوى وكالات مكافحة الإرهاب في أوروبا جيد، فإنه يفتقر إلى الإطار القانوني الصحيح. وكمثال على ذلك تمكن أحد المشتبه بتورطهم في عمليات باريس الدامية من الهرب لأن القانون البلجيكي لم يُجِز شن الهجمات ليلاً».
ولكن، مع أن أعداد المتطرفين من رافعي الإسلام في أميركا تظل منخفضة نسبيًا مقارنة مع أوروبا، تعاني الولايات المتحدة من زيادة ملحوظة النشاط المرتبط بالإرهاب. فوفقا لتقرير «داعش في أميركا» الذي نشرته جامعة جورج واشنطن، في العاصمة الأميركية واشنطن يجري حاليًا النظر والتحقيق في 900 حالة من المتعاطفين مع «داعش» في الولايات الأميركية الخمسين. بالإضافة إلى ذلك، اتهم 71 فردًا بالتعامل مع «داعش» اعتقل 56 منهم خلال عام 2015 وحده، وهو ما يمثل عددًا قياسيا من الاعتقالات المتعلقة بالإرهاب منذ أحداث 11 - 9، وفقا للتقرير. وتختلف أيضًا أوصاف هؤلاء المتطرفين في الولايات المتحدة وخلفياتهم، ذلك أن 40 في المائة منهم اعتنقوا الإسلام حديثًا، كما أن غالبية المتهمين يبلغون نحو الـ26 سنة من العمر، وهم بسوادهم الأعظم من الذكور (86 في المائة منهم رجال). كذلك يتبين من تقرير جامعة جورج واشنطن أن أنشطتهم تتوزّع في 21 ولاية، و51 في المائة منهم سافر أو حاول السفر إلى الخارج، وتورط 27 في المائة منهم في التحضير لشن هجمات على أراضي الولايات المتحدة.
في الولايات المتحدة، كما هو الحال في كثير من الدول الأوروبية، تلعب وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي دورًا حاسمًا في الترويج للتطرف وفي حشد المتعاطفين مع «داعش». وكان «برنامج جورج واشنطن حول التطرّف» قد رصد نحو 300 من المتعاطفين مع «داعش»، سواء من الأميركيين أو المقيمين على أراضي الولايات المتحدة، الناشطين على وسائط التواصل الاجتماعي الذين يعملون على نشر دعايات «داعش» وأشباهه من التنظيمات الإرهابية المدعية الإسلام، والتفاعل مع الأفراد الذين يشاركونهم أفكارهم المتطرفة.
وللعلم، فإن بعض أفراد هذا المجتمع قد ينتقل من النظريات من وراء الحواسيب (الكومبيوترات) إلى التنفيذ وينخرط فعليا في الحرب. ولقد أضاف التقرير أن البحث عن الانتماء أو المعنى أو الهوية يعتبر حافزًا أساسيًا لكثيرين من الأميركيين - أو الغربيين بالإجمال - الذين يعتنقون آيديولوجيا التطرف الذي يتستر بالدين لممارسة الإرهاب. ومن ثم، فإن المواقف المتطرّفة للساسة الأميركيين، وبالأخص من المرشحين الرئاسيين من أمثال دونالد ترامب، قد تخدم الدعايات التي ينشرها «داعش» وأمثاله وتعطيها صدقية لا تستحقها، وبخاصة في تعويلها على الانقسامات بين المسلمين وغيرهم من المجتمعات.
ويعتقد الدكتور سعود أن الحزب الجمهوري يعمل حاليًا على بث شعور معادٍ للإسلام بين الناخبين المسيحيين وتبنّي مواقف ضد المهاجرين سعيًا لجذب مزيد من الأصوات لمرشحيه، لكنه يستدرك قائلاً إن «الخطابات النارية والعنصرية تصل بالطبع إلى مسامع المجتمع المسلم في أميركا، إلا أنني لا أظن أن تنفيذها ممكن». وهو يرى أنه ما دامت خطابات ترامب تقتصر على الكلام، سيبقى المجتمع المسلم في الولايات المتحدة في مأمن، وفي هذه الحالة سيجد «داعش» مصاعب في رفع أعداد أتباعه ومؤيديه على الساحة الأميركية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.