إعلان بلفور الحلقة 1-3: «إعلان بلفور» وليس «وعده».. مشروع طبخه طهاة صهاينة

مستفيدين من قناعات ومصالح بريطانية

لقطة من «المؤتمر الصهيوني السادس» المنعقد في بازل عام 1903
لقطة من «المؤتمر الصهيوني السادس» المنعقد في بازل عام 1903
TT

إعلان بلفور الحلقة 1-3: «إعلان بلفور» وليس «وعده».. مشروع طبخه طهاة صهاينة

لقطة من «المؤتمر الصهيوني السادس» المنعقد في بازل عام 1903
لقطة من «المؤتمر الصهيوني السادس» المنعقد في بازل عام 1903

تبدأ «الشرق الأوسط» اليوم نشر سلسلة من ثلاث حلقات حول «إعلان بلفور»، بمناسبة ذكرى 100 عام عليه. وتقدم الحلقات الثلاث معلومات مثيرة عن خلفيات الإعلان الذي أسهم إسهامًا مباشرة في رسم سياسات العالم العربي المعاصرة. ولكن، بداية، لا بد من التوضيح بأن ترجمة كلمة DECLARATION الإنجليزية بالعربية هي «إشهار» أو «إعلان» وليست «وعدًا». وبين الوعد والإعلان مسافة شاسعة لا ينبغي الاستهانة بها، ومن ثم، فإهمالها أو ضياعها يفقد عالم اليقين التوثيقي أهم ركائزه، وعلينا التعرف على أصول المفردات ومعاني ترجمتها قبل حشرها ومن ثم تكرارها، لأن المعنى الصحيح هو وحده يورث القدرة على التأثير. والواقع أنه ينظر إلى الترجمة عندنا على أنها جزء من الحراك المعرفي، وإن كانت تعيش في مأزق ثقافي يترتب عليه تأصيل الخطأ، وهو ما يطلق عليه (الترجمة الخفية) Covert Translation التي لا تذكر الأصل فتكون قريبة إلى «ترجمة زائفة» Pseudo – translation وهي تعتمد على الاشتقاقات والمقاربات، فتغدو بعيدة عن المعنى المطلوب أصلاً، كما تتضح تلك الظاهرة أيضًا وبشكل واسع عند نقل الأسماء الأجنبية التي تضيع بين حروف تعطي نطقًا شاذًا يصعب فهمه لدى أصحابها يقود حتمًا إلى اغتراب ثقافي وقطيعة تؤدي نتيجتها إلى ضياع المعنى. في مثل هذا الموقف يبرز بكل قوة المثل الإيطالي «المترجمون خونة» Traduttore Traditore، والمقصود بـ«الخيانة» هنا خيانة التعبير.
عادة ما يكون اندلاع الحروب نذير شؤم حينما تحسم مصائر شعوب الدول المدحورة، بفرض شروط وأحكام وسياسات تطبق عليها قسرًا، مخلِّفة تغيّرات جوهرية تترك نتائجها آثارًا عميقة تنقش في الوعي السياسي والاجتماعي فتغيّر مجريات التاريخ لأمد طويل. ولا أكثر مما خلّفته الحرب العالمية الأولى منذ اندلاعها في منتصف ليل 4 أغسطس (آب) 1914 - بتوقيت العاصمة الألمانية برلين - حين وطأت جحافل الجيوش الألمانية أراضي بلجيكا المحايدة ثم هاجمت فرنسا، في عملية خُطط لها قبل عقد من الزمن وتحديدًا عام 1906، ويومها أطلق عليها «خطة شليفتن» نسبة لاسم الجنرال الذي رسمها. حصل كل ذلك نتيجة طلقتين من مسدس إرهابي صربي لم يبلغ التاسعة عشر من عمره حين اغتال الأرشيدوق فرانز فرديناند ولي عهد إمبراطورية النمسا والمجر صبيحة 28 يونيو (حزيران) 1914 في مدينة سراييفو، معلنة اشتعال النار في كل أوروبا. ولم تتوقف ألسنة اللهب عند حدودها بل امتدت فبلغت بلاد العرب التي لم تخبُ نيران حروبها إلى يومنا هذا، فباتت «بلقان القرن الـ21». وعلى حد قول برنار باجوليه، مدير الاستخبارات الفرنسية: «الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة».
غدا التركيز في بداية الحرب على بلجيكا في محنتها. وبقدر ما كان الرأي العام في بريطانيا قليل الاكتراث طوال أكثر من شهر بما كان يحدث في البلقان، فدنوّ الحرب من أرضه في دولة ضمنت حيادها واستقلالها اتفاقية لندن عام 1839، جعلت من هربرت آسكويث، رئيس وزراء بريطانيا (1908 حتى 1916) وزعيم حزب الأحرار، بطلاً قوميًا خلال أيام بعدما كان مستقبله السياسي مهددًا بالانهيار. فخطاب آسكويث في مجلس العموم يوم 16 أغسطس 1914 - حول دخول بريطانيا الحرب صدًا لغزو ألمانيا بلجيكا وتمزيق معاهدة حمايتها - جاء قويًا لا يمكن لأحد الرد عليه إلا بالتأييد، مما جعل رئيس تحرير جريدة «التايمز» العريقة يكتب في أحد مقالاته بعد ثلاثة أسابيع، مبيّنًا ردود الفعل بتأييده في جميع الأوساط، إلى الاقتراح «بنشر تلك الكلمات وتعليقها في كل مدينة وقرية في جميع الجزر البريطانية».
هكذا كانت أجواء الحرب مسيطرة على أفئدة الرأي العام، وهو مما دفع زعماء الحركة الصهيونية الوليدة من اليهود - مدعومة من أصحاب القرار والنفوذ البريطانيين – إلى استغلالها لتقديم برامجهم وطموحاتهم وتحقيقها على أرض الواقع «حينما تصمت المدافع، تطير الطيور بأرزاقها».
* بدايات التحشيد الصهيوني
ولقد كان المشهد ملائمًا حين انهمرت المطالبات والمراسلات، مما حدا بهربرت صمويل، أحد الوزراء البريطانيين اليهود وأول وزير منهم 1906 - 1915، بإعداد تقرير بعنوان «عن مستقبل فلسطين» يركّز فيه على التعرف على الصهيونية والفوائد الاستراتيجية التي ستجنيها بريطانيا عند انتصارها في الحرب واندحار الدولة العثمانية، وما يتبع انسحابها من الأقطار التي تحت هيمنتها بأن تجعل بريطانيا، فلسطين، تحت حمايتها، وأن تشجع المهاجرين اليهود على الاستقرار فيها حتى يشكلوا نسبة عالية من السكان، لضمان بقائها تحت هيمنة التاج البريطاني. وللعلم، بلف تعداد اليهود مع النازحين من روسيا وشرق أوروبا في فلسطين بداية القرن العشرين بحدود 55 ألف نسمة - وقد تكون في هذا الرقم مبالغة - بينما كان عدد السكان العرب أكثر من 660 ألف نسمة. وهذه الأرقام صرّح بها العضو المشارك في المؤتمر الصهيوني الثاني ليو موتزكين عام 1898 (راجع «كتاب إسرائيل وتاريخها» لمارتن غيلبرت - دبل دي - نيويورك 1998). كما قدّر جيمس آرثر بلفور، صاحب الإعلان الشهير، عدد السكان العرب فيها بـ700 ألف نسمة كما جاء في مذكرة له. وللتوضيح لم تكن هناك إحصائيات دقيقة إبان الحكم العثماني، ولكن كتاب «سكان فلسطين» لمؤلفه جاستن ماكارثي يذكر أن نسبة اليهود آنذاك بحدود 3 في المائة. وكانت تلك الأقلية تتوزّع بأعداد بسيطة في المدن فقط، ولا سيما القدس وطبرية وصفد. ومنهم بقايا هجرات «العالية الأولى» 1882 - 1903، التي عاد فهاجر منها نحو 70 في المائة إلى أميركا. ويذكر ديفيد بن غوريون في يومياته: «إن نصف المهاجرين ألقى نظرة واحدة على الوضع، ثم غادر إلى أوروبا بالسفينة نفسها»، حيث لم تكن فلسطين أرض اللبن والعسل حينذاك!
وحسب يوسف حايم بيرنر في كتابه بالعبرية «ماييم لا باييم» (أي بين الماء والماء)، فإن «العائلة اليهودية المهاجرة تترك من أفرادها كبار السن والعجزة ومن لا قيمة لهم منهم (شمندريك) في فلسطين، وترحل إلى أميركا. كما حدا بأثرياء اليهود إغراء المهاجرين بالبقاء في فلسطين عبر تأسيس بنك لتمويل توطين المهاجرين تحت اسم «صندوق الاستيطان اليهودي»، من خلال توصية «المؤتمر الصهيوني الخامس» 1899. كذلك أسس في أواخر 1901 صندوق آخر باسم «الصندوق اليهودي الوطني» (كيرن كيمت).
أيضًا، كان اليهود قبيل الهجرة الأولى يملكون نحو 10 آلاف دونم (أي ما يعادل 0.003 في المائة) من أرض فلسطين مقابل 26.3 مليون دونم يملكها العرب مسيحيين ومسلمين. ولكن في نهايتها ارتفعت ملكية اليهود إلى 400 ألف دونم (1.6 في المائة)، وبلغ تعدادهم 55 ألف نسمة. وكانت غالبية الأراضي مسجلة بأسماء منظمات ومؤسسات أجنبية تتمتع برعاية قناصل الدول الأوروبية الكبرى.
* حزب الأحرار البريطاني
رافق التقرير الآنف الذكر الذي قدّمه الوزير هربرت صمويل - وعلى منواله حملة إعلامية بدأتها جريدة «مانشستر غارديان» الليبرالية («الغارديان» حاليًا) المملوكة والمدارة من قبل تشارلز برستويك (سي بي) سكوت، الصحافي المشهور المقرّب من حزب الأحرار (الليبرالي) وزعيمه ديفيد لويد جورج، ذي الميول الصهيونية، الذي تولى رئاسة الوزراء في نهاية عام 1916، واستمرت وزارته حتى عام 1922. وأسهمت علاقة سكوت بلويد جورج في فتح أبواب أصحاب القرار والتواصل مع زعماء الحركة الصهيونية مثل الدكتور حاييم وايزمن، الذي أصبح بعدها من المقرّبين من لويد جورج، ومن ثم جاءت علاقته الراسخة مع بلفور الذي تسلم وزارة الخارجية، كما سيأتي ذلك لاحقًا.
وكانت «الغارديان» تستكتب وتستقطب أقلامًا صحافية مؤثّرة من اليهود ومؤيديهم من الصهاينة مثل هربرت بوثام الذي كان يكتب مقالات تهيئ الرأي العام لمؤازرة المشروع الصهيوني باستيطان فلسطين. ومنها «مذكرة حول السياسة البريطانية» أثارت الانتباه والجدل عام 1915، بالإضافة إلى افتتاحيات الجريدة التي كان يكتبها الصحافي والكاتب اليهودي هاري ساخر، وهو من جملة من أسهموا بوضع مسوّدة صياغة «إعلان بلفور» قبل تقديمها في يوليو (تموز) 1917.
وكان ساخر هذا همزة الوصل بين سكوت ووايزمن، وكذلك مع مجموعة ما أطلق عليها «مدرسة يهود مانشستر الصهيونية» ذات التأثير القوي. وكان محرّك المجموعة الديناميكي حاييم وايزمن بمعيّة ليون سايمون وسايمون ماركس وإسرائيل سيف وناحوم سوكولوف وآحاد حاعام، على الرغم من قلة أعداد مؤيدي الحركة الصهيونية من اليهود، الذين ما كانوا يتعدون 10 آلاف عضو من مجموع الجالية اليهودية المقيمة في بريطانيا البالغ عددها 300 ألف نسمة. وتوزّع هؤلاء في المدن الكبرى، مثل لندن التي تؤوي معظمها، بالإضافة إلى مانشستر وليفربول وليدز وبرمنغهام. ومنهم من الجيل الأول للمهاجرين الروس الذي فروا منها نتيجة موجات العنف التي أطلق عليها اليهود الأوروبيون (الأشكيناز) اسم «بوغروم» (أي مجازر ما بعد اغتيال قيصر روسيا الإسكندر الثاني عام 1881).
ما لا يُنكر تاريخيًا أن التأثير اليهودي الأقوى جاء من العوائل الثرية التي كان يطلق عليها «أبناء العمومة» التي تمتعت بوجود مالي وصناعي لا يستهان به جعلها مقبولة للطبقة الأرستقراطية البريطانية وتتزاوج معها أحيانًا، ومنها روتشيلد ومونتيفيوري وصامويل مونتيغيو وموكاتا وكوهين وغولدسميث وساسون وغيرهم.
كذلك كان للصحافة والصحافيين اليهود، وخصوصًا الصهيونيين منهم، واضح الأثر في جميع ما يكتب وما ينشر. ولا يمكن أن يجهل دور أقدم جريدة يهودية في العالم ولسان حال الطائفة في أنحاء الإمبراطورية البريطانية منذ صدورها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1841 وهي «الجويش كرونيكل» JEWISH CHRONICLE الأسبوعية، وخصوصًا بعدما تولى تحريرها ليوبولد غرينبرغ من عام 1907 حتى وفاته عام 1931. إذ أفاض عليها غرينبرغ الصبغة الصهيونية لقربه من المفكر الصهيوني الأبرز ثيودور هرتزل وممثله في بريطانيا. كذلك كان غرينبرغ على علاقة وطيدة بالساسة البريطانيين، ومنهم جوزيف تشمبرلين، وزير المستعمرات عام 1902، الذي قدم لهرتزل عرضَي العريش ثم أوغندا وطنًا لليهود.
وعلى الرغم من أن توزيع الجريدة كان بحدود 50 ألف نسخة، فإن اختراقها بلغ 250 ألف قارئ، مما حدا بالحكومة البريطانية أن تؤجل الكشف لإعلان بلفور والرسالة الموجهة إلى اللورد روتشيلد بتاريخ 2 نوفمبر 1917، الذي صادف موعد صدورها الأسبوعي، حتى 9 نوفمبر، معطية لها الأولوية والسبق الصحافي، حينما بشّرت اليهود في العالم بافتتاحية عنوانها «انتصار اليهود المؤزّر».
* الأسباب الحقيقية لـ«الإعلان»
لا أحد يعرف الأسباب الحقيقية التي أدت إلى «إعلان بلفور»، إذ أُهرقت بحار من الحبر وعلت جبال من الورق لكتابة نظريات واجتهادات ضاعت كما تغور سيول المزن في الصحارى الظمأى. ولكن بعد فترة خمود الحرب العالمية الأولى، ظهرت دوافع الإعلان على حقيقتها، وهو أنه جزء من مشروع خداع استراتيجي استيطاني هو ما كان يعتقده كل من عرب فلسطين وبعض سكانها القدماء من اليهود (يشوف) YISHUV. وهذا ما أيده أيضًا رئيس دولة إسرائيل إسحاق نافون (1978 – 1983) في مذكراته «كل الطريق» - وأصله من يهود إسبانيا الذين هربوا إلى إسطنبول بعد اندحار العرب، ومنها إلى القدس قبل مدة طويلة - إذ يقول في معرض كلامه عن العلاقة بين العرب واليهود: «إن أباه كان صديقًا حميمًا لجاره العربي المسلم (الحاج علي)، وكانا معًا يلعنان الاحتلال ثم الانتداب متمثلاً بعدوهما المشترك.. بريطانيا».
بات ما دبّره البريطانيون يعطي أجوبة ذلك اللغز، فالمخطّطات عادة ما تليها المؤامرات حتى تصبح أمرًا واقعًا، ولو أن اختلاق الأساطير هي الحالة الغالبة على العنصر البشري من الاستشهاد بالحقائق ودقتها. وحقًا، لم تتمكن الإدارة المدنية لبريطانيا المفروضة عام 1920 ولا جيشها إقناع أهل البلاد الأصليين بتقبّلها، رغم الوعود والإغراءات ثم الضغوط والانصياع للأمر الواقع.
فهل كانت تلك المحاولات جزءًا من تقليل الضغط السياسي والاجتماعي والديموغرافي لهجرة اليهود الكبرى من روسيا وبولندا 1881 - 1905 بعد زيادة حملات الإبادة والتهجير بأعداد غير مسبوقة، واختيار البعض بريطانيا بتشجيع من الحركة الصهيونية؟ هذا الأمر أدّى إلى ازدياد مشاعر اللاسامية في بلد صغير الرقعة الجغرافية وآثارها على التركيبة السكانية من طبقات فقيرة مسحوقة لا تربطها ببريطانيا أي وشائج على الإطلاق دينًا ولغةً وانتماءً، حتى وصل إلى حد لا يمكن السكوت عنه، وهو ما دعا إلى تشكيل جهة حكومية للنظر في الأمر عام 1902 أطلق عليها «اللجنة الملكية للحد من الهجرة الأجنبية»، وإن كان المقصود منها هي الهجرة اليهودية.
المسيرة انطلقت بدراسة ونقاشات مستفيضة في البرلمان، وعلى الرغم من تدخل المتنفذين من اليهود، خصوصا الناشطين في الحركة الصهيونية الجديدة وعلى رأسهم زعيمها ومؤسسها هرتزل، الذي زار لندن ثانية مرتين في صيف وخريف عام 1902 بعدما كان قدم للمرة الأولى عام 1896 من أجل الدعوة إلى المؤتمر الصهيوني الأول بسويسرا. ولقد التقى هرتزل مع «اللجنة» ووزير المستعمرات جوزيف تشمبرلين الذي عرض عليه مشروع توطين اليهود في العريش بسيناء (كانت مصر آنذاك تحت الحماية البريطانية) كما عرضت إحدى مستعمرات بريطانيا في شرق أفريقيا (أوغندا) لاستيعاب مليون مهاجر يهودي وجعلها وطنًا قوميًا لليهود تحت الحماية البريطانية. وتقبّل هرتزل الفكرة وعرضها على «المؤتمر الصهيوني السادس» في مدينة بازل السويسرية (23 أغسطس «آب» عام 1903) ففازت بقبوله بأصوات بلغ عددها 295، أما المعارضون فكان عدد أصواتهم 178 والممتنعون 99 صوتًا، وكان معظم المعارضين من الصهاينة الروس المصّرين على النص التوراتي «إذا نسيتك يا أورشليم، شلت يميني». ويومها أجابهم هرتزل بأنه سيكون «مثل موسى الذي قاد شعبه إلى هدفهم عبر انعطاف مؤقت (NACHTASYL)»، لكن المشروع مات مع موت صاحبه في 3 يوليو 1904.
* نكسة «قانون الأجانب»
وكي لا نعود إلى الاشتباك القديم، فإن السرد يختبئ وراء تلك الفترة التي امتدت مدة قاربت ثلاث سنوات حين صدر قانون تحديد الهجرة، ثم تسفير من لم تنطبق عليهم شروط قبول الاستيطان الذي لاقى رفض واستهجان مؤيدي الحركة الصهيونية. وأطلق عليه «قانون الأجانب»ALIENS ACT يوليو 1905. وما يستحق الذكر أنه خلال تلك المدة التي استغرقها قانون المنع، قال بلفور (رئيس الوزراء في حينها)، في خطاب مسهب له في مجلس العموم بتاريخ 10 يوليو (تموز) 1905، قبل الموافقة على صدور القانون، معبرًا عن الاستياء لما وصلت إليه الأمور: «إنها مصيبة لا يظاهرها شك قد وقعت على البلاد نتيجة موجة أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود». هذه الألفاظ النارية التحريضية أطلقها أكبر مسؤول سياسي في البلاد ورئيس وزرائها قبل أن ينقلب رأسًا على عقب بعد عقد ونيف، ويمنح مَن منعهم من الاستقرار في بلاده حق الاستيلاء على بلاد غيره. ولكن المصالح اليهودية البريطانية آنذاك لم تغفل عن مخاطر ما تمخّضت عنه تلك الأحداث، فأصدرت مجموعة من كبار المتنفذين فيها عبر «كتاب اليهود السنوي» عام 1905، مذكّرة موقعة من 25 شخصية بارزة من ضمنها ليوبولد روتشيلد وكلود مونتفيوري وفيليب ماغنوس وروبرت كوهين وأوزموند دافيغدور - غولدسميث، تقول فيها: «إننا نأسف لما يحدث من تراكم المخاطر التي يثيرها بعض المثقفين اليهود (الصهيونيين) التي تشجع على الاعتقاد بما يلي:
(أ) التفرد والانعزال عن بقية المواطنين البريطانيين.
(ب) تحطيم الأسس السابقة المؤدية إلى الانصهار في المجتمع مثلما وضعه على سبيل المثال اللورد ماكولي في خطابه بمجلس العموم عام 1883، والذي أكد فيه رفع الحيف عن حقوق اليهود.
(ج) رفع سقف التأجيج والكراهية بين طبقات المجتمع وأطيافه ومضارها خاصة بالنسبة إلى الطبقة العاملة المهاجرة من اليهود، مما يؤثر على مقاييس الوطنية لليهود الإنجليز.
ثم زاد على هذا التصريح الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية هيرمان آدلر الذي أيد ما سبق بقوله: «منذ تحطيم الهيكل وانتشار اليهود في العالم، فإنهم (اليهود) لا يشكلون أمة بل نحن طائفة دينية» (المرجع – «الجويش كرونيكل»، 23 أبريل «نيسان» 1909).
ولإعطاء فكرة عن ازدياد أعداد اليهود في بريطانيا نتيجة هجرتهم إليها، فإن الأرقام تقول إن عددهم عام 1880 كان بين 30 و40 ألف نسمة، وهم اليهود المستقرون فيها، والمتأقلمون مع سكانها، حتى يصعب التفريق بينهم لإقامتهم الطويلة ولعدة أجيال. وقبل أفول القرن الـ19 ابتدأت الهجرة اليهودية بأعداد كبيرة فاقت 100 ألف نسمة، وما إن حل القرن الـ20 وبحسب تحديد إحصاء عام 1901 حتى أصبح عددهم 300 ألف نسمة معظمهم من يهود روسيا وشرق أوروبا ووسطها، من أصل مجموع سكان بريطانيا البالغ نحو 40 مليون نسمة.
* تشرشل ووايزمن.. والآسيتون
* يذكر لويد جورج في مذكراته «ذاكرة الحرب» أن «إعلان بلفور كان مكافأة د. وايزمن على جهوده لاختراع ساعدنا على الانتصار في الحرب، وترك بصمة دائمة على خريطة العالم».
وتكرر ذكر هذه الرواية مرات كثيرة، وقبلها البعض بأنها سبب يمكن الارتكاز عليه، لكنها حقًا من بنات أفكار لويد جورج، لأن وايزمن نفسه قال: «كان بودي أن تكون الأمور بتلك السهولة، لكنني لن أنسى الصعوبات التي زاملت مسار الإعداد من كدٍ وعملٍ شاق، والخيبة أحيانا. فالتاريخ لا يُكتب بفرك مصابيح علاء الدين» (راجع مذكرات وايزمن «التجربة والخطأ»). ولكن مما لا شك فيه أن اكتشاف وايزمن الكيماوي ساعد الحركة الصهيونية على فتح أبواب مكاتب أصحاب القرار والمجتمع البريطاني المحافظ والمصرّ على التقاليد على الرغم من صعوبتها. إذ كان وايزمن في نظرة ذلك المجتمع مجرّد مهاجر يهودي أجنبي، وإن كانت بعض العوائل اليهودية المتنفذة تنظر إليه بالمعيار نفسه.
إلا أن هذا الحال تغير فجأة عندما جاء اختراع ليمنح وايزمن فرصة العمر، ويدفعه بقوة إلى دائرة الضوء وصنع القرار في عام 1915، الذي كان من أقسى أعوام الحرب التي عاشتها بريطانيا في مجهودها الحربي، سواء كان ذلك على الجبهة الغربية (في إيبر ونوشاتيل)، أو جبهات الشرق الأوسط، وتحديدًا نكسة حصار الكوت (في العراق) وفشل حملة الدردنيل (في تركيا).
هكذا كانت الصورة قاتمة عندما قابل وينستون تشرشل، وزير البحرية حينذاك، وايزمن يوم 15 أبريل من ذلك العام. وجاء ذلك الاجتماع بعد نجاح تجارب وايزمن في إنتاج سائل الآسيتون المستخدم في صناعة المتفجرات بواسطة تخمير فضلات تصنيع الخمور، بدلاً من الطريقة الطويلة والمكلفة لتقطير الأخشاب. ويومذاك بادره تشرشل بضرورة إنتاج 30 ألف طن منه، وأمر بتهيئة كل ما يحتاجه للإسراع بتوريده. لقد كان الآسيتون العنصر الأهم لقلب موازين القوى وكانت الصناعة العسكرية بأمس الحاجة له، لإنتاج قنابل متطوّرة عديمة الضوء والدخان. وبدأ العمل بالفعل في يوليو 1915، وبحلول يناير (كانون الثاني) 1916 أمكن توفير المادة المطلوبة. وعلى الأثر، انتدب وايزمن للعمل في وزارة الحرب البريطانية في لندن، تاركًا عمله الأكاديمي بجامعة مانشستر.
وهكذا فاز وايزمن بحظوة كبيرة وكثرت علاقاته، وأصبح مستشارًا متخصصًا ذا نفوذ مكّنه من اجتياز جميع المعوقات، فكتب إلى زوجة اللورد جيمس روتشيلد الذي غدا من أقطاب الحركة الصهيونية البريطانية حينها عن اختراعه يقول: «سيفيد قضيتنا في فلسطين، وأرجو أن يساعد الحظ النجمة اليهودية» (راجع: مراسلات وايزمن 18 يوليو 1915).
*باحث كويتي



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.