إعلان بلفور الحلقة 1-3: «إعلان بلفور» وليس «وعده».. مشروع طبخه طهاة صهاينة

مستفيدين من قناعات ومصالح بريطانية

لقطة من «المؤتمر الصهيوني السادس» المنعقد في بازل عام 1903
لقطة من «المؤتمر الصهيوني السادس» المنعقد في بازل عام 1903
TT

إعلان بلفور الحلقة 1-3: «إعلان بلفور» وليس «وعده».. مشروع طبخه طهاة صهاينة

لقطة من «المؤتمر الصهيوني السادس» المنعقد في بازل عام 1903
لقطة من «المؤتمر الصهيوني السادس» المنعقد في بازل عام 1903

تبدأ «الشرق الأوسط» اليوم نشر سلسلة من ثلاث حلقات حول «إعلان بلفور»، بمناسبة ذكرى 100 عام عليه. وتقدم الحلقات الثلاث معلومات مثيرة عن خلفيات الإعلان الذي أسهم إسهامًا مباشرة في رسم سياسات العالم العربي المعاصرة. ولكن، بداية، لا بد من التوضيح بأن ترجمة كلمة DECLARATION الإنجليزية بالعربية هي «إشهار» أو «إعلان» وليست «وعدًا». وبين الوعد والإعلان مسافة شاسعة لا ينبغي الاستهانة بها، ومن ثم، فإهمالها أو ضياعها يفقد عالم اليقين التوثيقي أهم ركائزه، وعلينا التعرف على أصول المفردات ومعاني ترجمتها قبل حشرها ومن ثم تكرارها، لأن المعنى الصحيح هو وحده يورث القدرة على التأثير. والواقع أنه ينظر إلى الترجمة عندنا على أنها جزء من الحراك المعرفي، وإن كانت تعيش في مأزق ثقافي يترتب عليه تأصيل الخطأ، وهو ما يطلق عليه (الترجمة الخفية) Covert Translation التي لا تذكر الأصل فتكون قريبة إلى «ترجمة زائفة» Pseudo – translation وهي تعتمد على الاشتقاقات والمقاربات، فتغدو بعيدة عن المعنى المطلوب أصلاً، كما تتضح تلك الظاهرة أيضًا وبشكل واسع عند نقل الأسماء الأجنبية التي تضيع بين حروف تعطي نطقًا شاذًا يصعب فهمه لدى أصحابها يقود حتمًا إلى اغتراب ثقافي وقطيعة تؤدي نتيجتها إلى ضياع المعنى. في مثل هذا الموقف يبرز بكل قوة المثل الإيطالي «المترجمون خونة» Traduttore Traditore، والمقصود بـ«الخيانة» هنا خيانة التعبير.
عادة ما يكون اندلاع الحروب نذير شؤم حينما تحسم مصائر شعوب الدول المدحورة، بفرض شروط وأحكام وسياسات تطبق عليها قسرًا، مخلِّفة تغيّرات جوهرية تترك نتائجها آثارًا عميقة تنقش في الوعي السياسي والاجتماعي فتغيّر مجريات التاريخ لأمد طويل. ولا أكثر مما خلّفته الحرب العالمية الأولى منذ اندلاعها في منتصف ليل 4 أغسطس (آب) 1914 - بتوقيت العاصمة الألمانية برلين - حين وطأت جحافل الجيوش الألمانية أراضي بلجيكا المحايدة ثم هاجمت فرنسا، في عملية خُطط لها قبل عقد من الزمن وتحديدًا عام 1906، ويومها أطلق عليها «خطة شليفتن» نسبة لاسم الجنرال الذي رسمها. حصل كل ذلك نتيجة طلقتين من مسدس إرهابي صربي لم يبلغ التاسعة عشر من عمره حين اغتال الأرشيدوق فرانز فرديناند ولي عهد إمبراطورية النمسا والمجر صبيحة 28 يونيو (حزيران) 1914 في مدينة سراييفو، معلنة اشتعال النار في كل أوروبا. ولم تتوقف ألسنة اللهب عند حدودها بل امتدت فبلغت بلاد العرب التي لم تخبُ نيران حروبها إلى يومنا هذا، فباتت «بلقان القرن الـ21». وعلى حد قول برنار باجوليه، مدير الاستخبارات الفرنسية: «الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة».
غدا التركيز في بداية الحرب على بلجيكا في محنتها. وبقدر ما كان الرأي العام في بريطانيا قليل الاكتراث طوال أكثر من شهر بما كان يحدث في البلقان، فدنوّ الحرب من أرضه في دولة ضمنت حيادها واستقلالها اتفاقية لندن عام 1839، جعلت من هربرت آسكويث، رئيس وزراء بريطانيا (1908 حتى 1916) وزعيم حزب الأحرار، بطلاً قوميًا خلال أيام بعدما كان مستقبله السياسي مهددًا بالانهيار. فخطاب آسكويث في مجلس العموم يوم 16 أغسطس 1914 - حول دخول بريطانيا الحرب صدًا لغزو ألمانيا بلجيكا وتمزيق معاهدة حمايتها - جاء قويًا لا يمكن لأحد الرد عليه إلا بالتأييد، مما جعل رئيس تحرير جريدة «التايمز» العريقة يكتب في أحد مقالاته بعد ثلاثة أسابيع، مبيّنًا ردود الفعل بتأييده في جميع الأوساط، إلى الاقتراح «بنشر تلك الكلمات وتعليقها في كل مدينة وقرية في جميع الجزر البريطانية».
هكذا كانت أجواء الحرب مسيطرة على أفئدة الرأي العام، وهو مما دفع زعماء الحركة الصهيونية الوليدة من اليهود - مدعومة من أصحاب القرار والنفوذ البريطانيين – إلى استغلالها لتقديم برامجهم وطموحاتهم وتحقيقها على أرض الواقع «حينما تصمت المدافع، تطير الطيور بأرزاقها».
* بدايات التحشيد الصهيوني
ولقد كان المشهد ملائمًا حين انهمرت المطالبات والمراسلات، مما حدا بهربرت صمويل، أحد الوزراء البريطانيين اليهود وأول وزير منهم 1906 - 1915، بإعداد تقرير بعنوان «عن مستقبل فلسطين» يركّز فيه على التعرف على الصهيونية والفوائد الاستراتيجية التي ستجنيها بريطانيا عند انتصارها في الحرب واندحار الدولة العثمانية، وما يتبع انسحابها من الأقطار التي تحت هيمنتها بأن تجعل بريطانيا، فلسطين، تحت حمايتها، وأن تشجع المهاجرين اليهود على الاستقرار فيها حتى يشكلوا نسبة عالية من السكان، لضمان بقائها تحت هيمنة التاج البريطاني. وللعلم، بلف تعداد اليهود مع النازحين من روسيا وشرق أوروبا في فلسطين بداية القرن العشرين بحدود 55 ألف نسمة - وقد تكون في هذا الرقم مبالغة - بينما كان عدد السكان العرب أكثر من 660 ألف نسمة. وهذه الأرقام صرّح بها العضو المشارك في المؤتمر الصهيوني الثاني ليو موتزكين عام 1898 (راجع «كتاب إسرائيل وتاريخها» لمارتن غيلبرت - دبل دي - نيويورك 1998). كما قدّر جيمس آرثر بلفور، صاحب الإعلان الشهير، عدد السكان العرب فيها بـ700 ألف نسمة كما جاء في مذكرة له. وللتوضيح لم تكن هناك إحصائيات دقيقة إبان الحكم العثماني، ولكن كتاب «سكان فلسطين» لمؤلفه جاستن ماكارثي يذكر أن نسبة اليهود آنذاك بحدود 3 في المائة. وكانت تلك الأقلية تتوزّع بأعداد بسيطة في المدن فقط، ولا سيما القدس وطبرية وصفد. ومنهم بقايا هجرات «العالية الأولى» 1882 - 1903، التي عاد فهاجر منها نحو 70 في المائة إلى أميركا. ويذكر ديفيد بن غوريون في يومياته: «إن نصف المهاجرين ألقى نظرة واحدة على الوضع، ثم غادر إلى أوروبا بالسفينة نفسها»، حيث لم تكن فلسطين أرض اللبن والعسل حينذاك!
وحسب يوسف حايم بيرنر في كتابه بالعبرية «ماييم لا باييم» (أي بين الماء والماء)، فإن «العائلة اليهودية المهاجرة تترك من أفرادها كبار السن والعجزة ومن لا قيمة لهم منهم (شمندريك) في فلسطين، وترحل إلى أميركا. كما حدا بأثرياء اليهود إغراء المهاجرين بالبقاء في فلسطين عبر تأسيس بنك لتمويل توطين المهاجرين تحت اسم «صندوق الاستيطان اليهودي»، من خلال توصية «المؤتمر الصهيوني الخامس» 1899. كذلك أسس في أواخر 1901 صندوق آخر باسم «الصندوق اليهودي الوطني» (كيرن كيمت).
أيضًا، كان اليهود قبيل الهجرة الأولى يملكون نحو 10 آلاف دونم (أي ما يعادل 0.003 في المائة) من أرض فلسطين مقابل 26.3 مليون دونم يملكها العرب مسيحيين ومسلمين. ولكن في نهايتها ارتفعت ملكية اليهود إلى 400 ألف دونم (1.6 في المائة)، وبلغ تعدادهم 55 ألف نسمة. وكانت غالبية الأراضي مسجلة بأسماء منظمات ومؤسسات أجنبية تتمتع برعاية قناصل الدول الأوروبية الكبرى.
* حزب الأحرار البريطاني
رافق التقرير الآنف الذكر الذي قدّمه الوزير هربرت صمويل - وعلى منواله حملة إعلامية بدأتها جريدة «مانشستر غارديان» الليبرالية («الغارديان» حاليًا) المملوكة والمدارة من قبل تشارلز برستويك (سي بي) سكوت، الصحافي المشهور المقرّب من حزب الأحرار (الليبرالي) وزعيمه ديفيد لويد جورج، ذي الميول الصهيونية، الذي تولى رئاسة الوزراء في نهاية عام 1916، واستمرت وزارته حتى عام 1922. وأسهمت علاقة سكوت بلويد جورج في فتح أبواب أصحاب القرار والتواصل مع زعماء الحركة الصهيونية مثل الدكتور حاييم وايزمن، الذي أصبح بعدها من المقرّبين من لويد جورج، ومن ثم جاءت علاقته الراسخة مع بلفور الذي تسلم وزارة الخارجية، كما سيأتي ذلك لاحقًا.
وكانت «الغارديان» تستكتب وتستقطب أقلامًا صحافية مؤثّرة من اليهود ومؤيديهم من الصهاينة مثل هربرت بوثام الذي كان يكتب مقالات تهيئ الرأي العام لمؤازرة المشروع الصهيوني باستيطان فلسطين. ومنها «مذكرة حول السياسة البريطانية» أثارت الانتباه والجدل عام 1915، بالإضافة إلى افتتاحيات الجريدة التي كان يكتبها الصحافي والكاتب اليهودي هاري ساخر، وهو من جملة من أسهموا بوضع مسوّدة صياغة «إعلان بلفور» قبل تقديمها في يوليو (تموز) 1917.
وكان ساخر هذا همزة الوصل بين سكوت ووايزمن، وكذلك مع مجموعة ما أطلق عليها «مدرسة يهود مانشستر الصهيونية» ذات التأثير القوي. وكان محرّك المجموعة الديناميكي حاييم وايزمن بمعيّة ليون سايمون وسايمون ماركس وإسرائيل سيف وناحوم سوكولوف وآحاد حاعام، على الرغم من قلة أعداد مؤيدي الحركة الصهيونية من اليهود، الذين ما كانوا يتعدون 10 آلاف عضو من مجموع الجالية اليهودية المقيمة في بريطانيا البالغ عددها 300 ألف نسمة. وتوزّع هؤلاء في المدن الكبرى، مثل لندن التي تؤوي معظمها، بالإضافة إلى مانشستر وليفربول وليدز وبرمنغهام. ومنهم من الجيل الأول للمهاجرين الروس الذي فروا منها نتيجة موجات العنف التي أطلق عليها اليهود الأوروبيون (الأشكيناز) اسم «بوغروم» (أي مجازر ما بعد اغتيال قيصر روسيا الإسكندر الثاني عام 1881).
ما لا يُنكر تاريخيًا أن التأثير اليهودي الأقوى جاء من العوائل الثرية التي كان يطلق عليها «أبناء العمومة» التي تمتعت بوجود مالي وصناعي لا يستهان به جعلها مقبولة للطبقة الأرستقراطية البريطانية وتتزاوج معها أحيانًا، ومنها روتشيلد ومونتيفيوري وصامويل مونتيغيو وموكاتا وكوهين وغولدسميث وساسون وغيرهم.
كذلك كان للصحافة والصحافيين اليهود، وخصوصًا الصهيونيين منهم، واضح الأثر في جميع ما يكتب وما ينشر. ولا يمكن أن يجهل دور أقدم جريدة يهودية في العالم ولسان حال الطائفة في أنحاء الإمبراطورية البريطانية منذ صدورها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1841 وهي «الجويش كرونيكل» JEWISH CHRONICLE الأسبوعية، وخصوصًا بعدما تولى تحريرها ليوبولد غرينبرغ من عام 1907 حتى وفاته عام 1931. إذ أفاض عليها غرينبرغ الصبغة الصهيونية لقربه من المفكر الصهيوني الأبرز ثيودور هرتزل وممثله في بريطانيا. كذلك كان غرينبرغ على علاقة وطيدة بالساسة البريطانيين، ومنهم جوزيف تشمبرلين، وزير المستعمرات عام 1902، الذي قدم لهرتزل عرضَي العريش ثم أوغندا وطنًا لليهود.
وعلى الرغم من أن توزيع الجريدة كان بحدود 50 ألف نسخة، فإن اختراقها بلغ 250 ألف قارئ، مما حدا بالحكومة البريطانية أن تؤجل الكشف لإعلان بلفور والرسالة الموجهة إلى اللورد روتشيلد بتاريخ 2 نوفمبر 1917، الذي صادف موعد صدورها الأسبوعي، حتى 9 نوفمبر، معطية لها الأولوية والسبق الصحافي، حينما بشّرت اليهود في العالم بافتتاحية عنوانها «انتصار اليهود المؤزّر».
* الأسباب الحقيقية لـ«الإعلان»
لا أحد يعرف الأسباب الحقيقية التي أدت إلى «إعلان بلفور»، إذ أُهرقت بحار من الحبر وعلت جبال من الورق لكتابة نظريات واجتهادات ضاعت كما تغور سيول المزن في الصحارى الظمأى. ولكن بعد فترة خمود الحرب العالمية الأولى، ظهرت دوافع الإعلان على حقيقتها، وهو أنه جزء من مشروع خداع استراتيجي استيطاني هو ما كان يعتقده كل من عرب فلسطين وبعض سكانها القدماء من اليهود (يشوف) YISHUV. وهذا ما أيده أيضًا رئيس دولة إسرائيل إسحاق نافون (1978 – 1983) في مذكراته «كل الطريق» - وأصله من يهود إسبانيا الذين هربوا إلى إسطنبول بعد اندحار العرب، ومنها إلى القدس قبل مدة طويلة - إذ يقول في معرض كلامه عن العلاقة بين العرب واليهود: «إن أباه كان صديقًا حميمًا لجاره العربي المسلم (الحاج علي)، وكانا معًا يلعنان الاحتلال ثم الانتداب متمثلاً بعدوهما المشترك.. بريطانيا».
بات ما دبّره البريطانيون يعطي أجوبة ذلك اللغز، فالمخطّطات عادة ما تليها المؤامرات حتى تصبح أمرًا واقعًا، ولو أن اختلاق الأساطير هي الحالة الغالبة على العنصر البشري من الاستشهاد بالحقائق ودقتها. وحقًا، لم تتمكن الإدارة المدنية لبريطانيا المفروضة عام 1920 ولا جيشها إقناع أهل البلاد الأصليين بتقبّلها، رغم الوعود والإغراءات ثم الضغوط والانصياع للأمر الواقع.
فهل كانت تلك المحاولات جزءًا من تقليل الضغط السياسي والاجتماعي والديموغرافي لهجرة اليهود الكبرى من روسيا وبولندا 1881 - 1905 بعد زيادة حملات الإبادة والتهجير بأعداد غير مسبوقة، واختيار البعض بريطانيا بتشجيع من الحركة الصهيونية؟ هذا الأمر أدّى إلى ازدياد مشاعر اللاسامية في بلد صغير الرقعة الجغرافية وآثارها على التركيبة السكانية من طبقات فقيرة مسحوقة لا تربطها ببريطانيا أي وشائج على الإطلاق دينًا ولغةً وانتماءً، حتى وصل إلى حد لا يمكن السكوت عنه، وهو ما دعا إلى تشكيل جهة حكومية للنظر في الأمر عام 1902 أطلق عليها «اللجنة الملكية للحد من الهجرة الأجنبية»، وإن كان المقصود منها هي الهجرة اليهودية.
المسيرة انطلقت بدراسة ونقاشات مستفيضة في البرلمان، وعلى الرغم من تدخل المتنفذين من اليهود، خصوصا الناشطين في الحركة الصهيونية الجديدة وعلى رأسهم زعيمها ومؤسسها هرتزل، الذي زار لندن ثانية مرتين في صيف وخريف عام 1902 بعدما كان قدم للمرة الأولى عام 1896 من أجل الدعوة إلى المؤتمر الصهيوني الأول بسويسرا. ولقد التقى هرتزل مع «اللجنة» ووزير المستعمرات جوزيف تشمبرلين الذي عرض عليه مشروع توطين اليهود في العريش بسيناء (كانت مصر آنذاك تحت الحماية البريطانية) كما عرضت إحدى مستعمرات بريطانيا في شرق أفريقيا (أوغندا) لاستيعاب مليون مهاجر يهودي وجعلها وطنًا قوميًا لليهود تحت الحماية البريطانية. وتقبّل هرتزل الفكرة وعرضها على «المؤتمر الصهيوني السادس» في مدينة بازل السويسرية (23 أغسطس «آب» عام 1903) ففازت بقبوله بأصوات بلغ عددها 295، أما المعارضون فكان عدد أصواتهم 178 والممتنعون 99 صوتًا، وكان معظم المعارضين من الصهاينة الروس المصّرين على النص التوراتي «إذا نسيتك يا أورشليم، شلت يميني». ويومها أجابهم هرتزل بأنه سيكون «مثل موسى الذي قاد شعبه إلى هدفهم عبر انعطاف مؤقت (NACHTASYL)»، لكن المشروع مات مع موت صاحبه في 3 يوليو 1904.
* نكسة «قانون الأجانب»
وكي لا نعود إلى الاشتباك القديم، فإن السرد يختبئ وراء تلك الفترة التي امتدت مدة قاربت ثلاث سنوات حين صدر قانون تحديد الهجرة، ثم تسفير من لم تنطبق عليهم شروط قبول الاستيطان الذي لاقى رفض واستهجان مؤيدي الحركة الصهيونية. وأطلق عليه «قانون الأجانب»ALIENS ACT يوليو 1905. وما يستحق الذكر أنه خلال تلك المدة التي استغرقها قانون المنع، قال بلفور (رئيس الوزراء في حينها)، في خطاب مسهب له في مجلس العموم بتاريخ 10 يوليو (تموز) 1905، قبل الموافقة على صدور القانون، معبرًا عن الاستياء لما وصلت إليه الأمور: «إنها مصيبة لا يظاهرها شك قد وقعت على البلاد نتيجة موجة أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود». هذه الألفاظ النارية التحريضية أطلقها أكبر مسؤول سياسي في البلاد ورئيس وزرائها قبل أن ينقلب رأسًا على عقب بعد عقد ونيف، ويمنح مَن منعهم من الاستقرار في بلاده حق الاستيلاء على بلاد غيره. ولكن المصالح اليهودية البريطانية آنذاك لم تغفل عن مخاطر ما تمخّضت عنه تلك الأحداث، فأصدرت مجموعة من كبار المتنفذين فيها عبر «كتاب اليهود السنوي» عام 1905، مذكّرة موقعة من 25 شخصية بارزة من ضمنها ليوبولد روتشيلد وكلود مونتفيوري وفيليب ماغنوس وروبرت كوهين وأوزموند دافيغدور - غولدسميث، تقول فيها: «إننا نأسف لما يحدث من تراكم المخاطر التي يثيرها بعض المثقفين اليهود (الصهيونيين) التي تشجع على الاعتقاد بما يلي:
(أ) التفرد والانعزال عن بقية المواطنين البريطانيين.
(ب) تحطيم الأسس السابقة المؤدية إلى الانصهار في المجتمع مثلما وضعه على سبيل المثال اللورد ماكولي في خطابه بمجلس العموم عام 1883، والذي أكد فيه رفع الحيف عن حقوق اليهود.
(ج) رفع سقف التأجيج والكراهية بين طبقات المجتمع وأطيافه ومضارها خاصة بالنسبة إلى الطبقة العاملة المهاجرة من اليهود، مما يؤثر على مقاييس الوطنية لليهود الإنجليز.
ثم زاد على هذا التصريح الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية هيرمان آدلر الذي أيد ما سبق بقوله: «منذ تحطيم الهيكل وانتشار اليهود في العالم، فإنهم (اليهود) لا يشكلون أمة بل نحن طائفة دينية» (المرجع – «الجويش كرونيكل»، 23 أبريل «نيسان» 1909).
ولإعطاء فكرة عن ازدياد أعداد اليهود في بريطانيا نتيجة هجرتهم إليها، فإن الأرقام تقول إن عددهم عام 1880 كان بين 30 و40 ألف نسمة، وهم اليهود المستقرون فيها، والمتأقلمون مع سكانها، حتى يصعب التفريق بينهم لإقامتهم الطويلة ولعدة أجيال. وقبل أفول القرن الـ19 ابتدأت الهجرة اليهودية بأعداد كبيرة فاقت 100 ألف نسمة، وما إن حل القرن الـ20 وبحسب تحديد إحصاء عام 1901 حتى أصبح عددهم 300 ألف نسمة معظمهم من يهود روسيا وشرق أوروبا ووسطها، من أصل مجموع سكان بريطانيا البالغ نحو 40 مليون نسمة.
* تشرشل ووايزمن.. والآسيتون
* يذكر لويد جورج في مذكراته «ذاكرة الحرب» أن «إعلان بلفور كان مكافأة د. وايزمن على جهوده لاختراع ساعدنا على الانتصار في الحرب، وترك بصمة دائمة على خريطة العالم».
وتكرر ذكر هذه الرواية مرات كثيرة، وقبلها البعض بأنها سبب يمكن الارتكاز عليه، لكنها حقًا من بنات أفكار لويد جورج، لأن وايزمن نفسه قال: «كان بودي أن تكون الأمور بتلك السهولة، لكنني لن أنسى الصعوبات التي زاملت مسار الإعداد من كدٍ وعملٍ شاق، والخيبة أحيانا. فالتاريخ لا يُكتب بفرك مصابيح علاء الدين» (راجع مذكرات وايزمن «التجربة والخطأ»). ولكن مما لا شك فيه أن اكتشاف وايزمن الكيماوي ساعد الحركة الصهيونية على فتح أبواب مكاتب أصحاب القرار والمجتمع البريطاني المحافظ والمصرّ على التقاليد على الرغم من صعوبتها. إذ كان وايزمن في نظرة ذلك المجتمع مجرّد مهاجر يهودي أجنبي، وإن كانت بعض العوائل اليهودية المتنفذة تنظر إليه بالمعيار نفسه.
إلا أن هذا الحال تغير فجأة عندما جاء اختراع ليمنح وايزمن فرصة العمر، ويدفعه بقوة إلى دائرة الضوء وصنع القرار في عام 1915، الذي كان من أقسى أعوام الحرب التي عاشتها بريطانيا في مجهودها الحربي، سواء كان ذلك على الجبهة الغربية (في إيبر ونوشاتيل)، أو جبهات الشرق الأوسط، وتحديدًا نكسة حصار الكوت (في العراق) وفشل حملة الدردنيل (في تركيا).
هكذا كانت الصورة قاتمة عندما قابل وينستون تشرشل، وزير البحرية حينذاك، وايزمن يوم 15 أبريل من ذلك العام. وجاء ذلك الاجتماع بعد نجاح تجارب وايزمن في إنتاج سائل الآسيتون المستخدم في صناعة المتفجرات بواسطة تخمير فضلات تصنيع الخمور، بدلاً من الطريقة الطويلة والمكلفة لتقطير الأخشاب. ويومذاك بادره تشرشل بضرورة إنتاج 30 ألف طن منه، وأمر بتهيئة كل ما يحتاجه للإسراع بتوريده. لقد كان الآسيتون العنصر الأهم لقلب موازين القوى وكانت الصناعة العسكرية بأمس الحاجة له، لإنتاج قنابل متطوّرة عديمة الضوء والدخان. وبدأ العمل بالفعل في يوليو 1915، وبحلول يناير (كانون الثاني) 1916 أمكن توفير المادة المطلوبة. وعلى الأثر، انتدب وايزمن للعمل في وزارة الحرب البريطانية في لندن، تاركًا عمله الأكاديمي بجامعة مانشستر.
وهكذا فاز وايزمن بحظوة كبيرة وكثرت علاقاته، وأصبح مستشارًا متخصصًا ذا نفوذ مكّنه من اجتياز جميع المعوقات، فكتب إلى زوجة اللورد جيمس روتشيلد الذي غدا من أقطاب الحركة الصهيونية البريطانية حينها عن اختراعه يقول: «سيفيد قضيتنا في فلسطين، وأرجو أن يساعد الحظ النجمة اليهودية» (راجع: مراسلات وايزمن 18 يوليو 1915).
*باحث كويتي



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.