هيغل وإذابة الخصومة بين الدين والفلسفة

ركز على حقيقة المشترك بينهما .. الروح المطلقة

هيغل وإذابة الخصومة بين الدين والفلسفة
TT

هيغل وإذابة الخصومة بين الدين والفلسفة

هيغل وإذابة الخصومة بين الدين والفلسفة

ينطلق تفكير هيغل من تقليب طبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة، بغية تجاوز المنظور الأنواري للدين، واللغط الكبير الذي حيق حول جدوى حضوره في تجربة الحياة البشرية، وكذلك سعيه نحو تنبيه كل من استمرأ النظر إليه بازدراء، كأدنى أشكال التفكير الإنساني الذي ينم عن عجز طافح في إعمال العقل، والتأمل المجرد في الذات والحياة والوجود، لا سيما أن معظم الفلاسفة الأنواريين، عدوه مجرد تفكير جنيني وطفولي، يفتقر إلى النضج العقلاني النظري والمنطقي. ذلك الموقف المعهود في النزعة الإنسية والمادية للحداثة الغربية، يشي بنزعة متمركزة حول الذات الأوروبية التي ترفع من مقام الحصيلة التاريخية والفكرية للحداثة، مزينة إياها برداء السمو والرفعة والمثلنة، وملبسة غيرها من التجارب الحضارية والثقافية لباس التخلف والدونية والجمود. ما أحال الحضور الديني لدى الإنسان، إلى مسألة عابرة ومؤقتة. ولعل هذا الأمر من القضايا التي تنبه إليها هيغل مبكرا، وجعله ينزع نحو التأصيل لرؤية فلسفية جذرية جديدة، تتجاوز منطق التضاد والصراع والتناقض بغية احتواء الفهم السليم للدين ضمن منطق جدلي وشمولي، ونسق فلسفي عام.
فلا مجال متاحًا في نسق هيغل الفلسفي لفهم بسيط للدين، ولا لصراع بين الفلسفة والأديان أو عداء بينهما: فالخطاب الفلسفي لا يتدخل في المسائل الدينية لإفسادها، أو هدم اعتقاداتها الإطلاقية وتدنيسها. مثلما لا يجوز التوجس المستديم من الخطاب الديني لحظة انكبابه على القضايا الفلسفية بتعطيلها أو تحريم تداولها.
ولتصحيح تلك العلاقة التاريخية العرضية بين الدين والفلسفة، التي أريد لها أن تُشحذ بنوازع الصراع، يقترح هيغل التركيز على حقيقة الموضوع المشترك بين الدين والفلسفة، المتمثل، أساسا، في الحقيقة الخالدة، أو ما يُصطلح لديه بالروح المطلق. فالفلسفة لا تعدو كونها حكمة عن العالم، أو معارف تكتفي بحدود المادة والحياة المباشرة للإنسان والموجودات عموما، بقدر ما هي خطاب معرفي منشغل أيما انشغال، بسؤال المطلق وكل ما ينهض ببيان طبيعته، على الرغم من الاختلاف الذي قد نلحظه في كيفيات تناول المطلق، وخصوصية معانيه لكل منهما.
أما الدين، فلهيغل تصور مائز عنه في تاريخ الفلسفة عموما، بكونه الروح الذي أدرك وعيه بجوهره، وارتقى من ربقة المتناهي إلى شواسع اللامتناهي. ما ينم عن انشغال عميق لدى الإنسان بالسعي الدؤوب وراء المطلق، حتى وإن نتج عنه تعدد في الديانات وتباعد في نظرتها للروح المطلقة. فكيف يمكن تفسير هذا التعدد في الأديان؟
جوابا على هذا الإشكال الديني - التاريخي، ارتأى هيغل البحث في قضية السمو وعلاقتها بالدين وأشكاله وأنواعه. فإذا كان هذا الأخير يمثل وعي الروح بماهيتها، فإن ما يشكل أساسه هو هذا الارتقاء والسمو التلقائي للإنسان نحو الله، ما يعمق الاختلاف الوجودي بينه وبين الحيوان، ويجدر تميزه عنه عبر الفكر. يقول هيغل: «نحن المختلفون عن الطبيعة المادية الخارجية، نستشعر هذا السمو الديني في عالمنا الداخلي، وخارج محدوديتنا ندرك أننا نحتل وضعا خاصا يفصلنا عن الأشياء، ويدعونا إلى تشكيل مضمون للإله. إلا أن طبيعة هذا السمو وحقيقته، مستقلة تماما عن كل ما يستقيه الإنسان من ممارساته الدينية الأمبريقية المباشرة. فالإدراك المباشر، أو الوعي الداخلي بالله في تاريخ الفكر الإنساني، هو ما يشكل، حسب هيغل، الأساس الكوني للأديان. كما لو أن الأمر يتعلق بحركة الفكر، أي بعقلنة ضمنية تسمو بالفرد نحو المطلق بالحس أو بالشعور أو بالخيال.
وبحكم طبيعة الدين هذه، وجب نقل علاقة الدين بالفلسفة من مجال الصراع حول الأحقية في الوجود، إلى ميدان الاتفاق والتعاضد، والمراهنة على وحدة الموضوع والمقاصد والغايات المشتركة بينهما. فالحق كحق واحد في ذاته ولأجل ذاته، ما يدعو إلى الإقرار بأننا أمام الموضوع نفسه والمضمون نفسه، وإن حصل الاختلاف في الآليات المنهجية وطرق التعبير والتفسير وكيفيات حضورهما معا في حياة الإنسان.
فالاختلاف المنهجي الملحوظ بين المقاربة الفلسفية والنظرة الدينية للموضوع، لا يكون حاجزا أمام الدين لاعتماد المفاهيم الفلسفية لصياغة تصوراته ورؤاه وعقائده. وبالمقابل، فإن المضمون الديني يصيب الفلسفة بالحركة والاهتزاز، «يتعذر على الفلسفة أن تشكل تصورا محددا عن فكرة الإله، وأن تحبل بشهادة حقة عن المطلق، أو أن تتمكن من تحليل مكونات الإيمان، من دون أن تتلقى أثرا ودعما وتكوينا من الدين، ففي حقول الدين يمكن للإنسان أن يقطف ثمار الفلسفة».
سيرا على منوال نسقه الفلسفي المتناسق البنيان، شيد هيغل تصوره للدين، وهو تصور قائم على الطابع العام لصيرورة الروح عبر التاريخ. ففينومينولوجيا الروح، تحكي قصة تاريخ كوني لوعي يتقدم نحو الحرية والمطلق، أي مسيرة الروح الفردية والجماعية عبر أربع مراحل: تنبلج من الوعي البسيط الحسي المادي بالأشياء، لترتقي نحو الوعي الخالص بالذات. ثم تأتي مرحلة التعقل والقدرة على الاستدلال نظريا وعمليا. وفي المرحلة الرابعة، يبلغ العقل مرتبة الروح المطلقة المميزة لكل من الدين والفلسفة، وهي مرحلة تاريخية تدمج كل المعارف السابقة عليها.
وقد أفضى تفكير هيغل في المسألة، إلى رصد تجليات الروح المطلق في كل من الفن والدين والفلسفة.
* التجليات الفنية للروح: فالتعبير الفني التمثلي للدين، هو بمثابة تعبير متناه عن اللامتناهي، يعتمد التمثيل الحسي للآلهة، كمرحلة من أهم مراحل الوعي الديني، ولحظة من لحظات مسيرة تطور الروح.
* التجليات الدينية للروح: تكمن في طريقة مجازية تمثيلية ورمزية، تطرُق حقيقة الروح باعتماد لغة استعارية ملؤها التشبيه والكناية، تحيل الدين إلى مرحلة متطورة في إدراك المطلق.
* التجليات الفلسفية للروح: تتمثل مهمتها في دراسة الفكرة المطلقة، عبر آليات تجريدية منطقية ومفاهيمية تؤسس للفكر الخالص.
بناء على هذه الرؤية الفلسفية والتاريخية، سيحتل الدين مرحلة وسطى بين الحس والفكر الخالص. وبقدر ما سيحتفظ ببعد حسي يحيله على الفن، بقدر ما سيتعلق ببعد روحي مطلق، يصله بصلب الانشغالات الفلسفية. ففي الدين، يتمكن الفرد من العبور عبر وجوده الطبيعي، نحو وعي خالص يمكن الذات من تحقيق وعيها بماهيتها وبالماهية الإلهية. وفي هذا العبور تتبلور فعليا، تربية البشرية عبر آليات وأشكال متعددة، ملؤها الشعور والحدس والتمثل، ثم المعرفة الخالصة المجردة التي تختص بها الفلسفة. لذا، فإن لكل شعب ولكل ديانة، حسب هيغل، كيفية خاصة في تمثل ماهية العالم، ما يبرر ضرورة الدين من حيث هو دين، ويستبعد بعض التأويلات والمغالطات التي تزعم أن الكهنة قد اخترعوا الأديان للنصب على الشعوب.
إن الفهم الهيغلي لحقيقة الدين ولعلاقته بالفلسفة، يجد مصداقيته في قاعدة الاتفاق حول الموضوع نفسه. أما اختلافهما، فيتصل بمسألة المنهج المتبع في إدراك تلك الروح المطلقة: فإذا كان المنهج الديني يمر عبر الخشوع والعبادة ومختلف أنماط التمثل والأساطير والقصص، حيث يكون إدراكه للموضوع خارجيا، ليتصل به، لاحقا، عبر الخشوع والعبادة، فإن المنهج الفلسفي يقوم على الوعي الجوهري الروحي الداخلي، ما يمكنه من إدراك الموضوع في لحظة واحدة، ويعزز العلاقة التضمنية بين الذات والموضوع.
ولعل أشكال التعارض والصراع بين الفلسفة والدين في تاريخ الإنسان، يرجع، حسب هيغل، إلى خصوصية المنهج المعتمد في إدراك الموضوع، على الرغم من وحدته على مستوى الماهية. فلا شك أن المعرفة الإيمانية القلبية تقوم على الحدس، وتتنكر للتجربة والإحساس والعقل، في مقابل المعرفة الفلسفية التي تنهل من المبادئ العقلية التحليلية. إلا أن حقيقة الصراع بين الدين والفلسفة، يجد تفسيره، أحيانا، في تبعية الفكر للدين، كما يتبين في تبعية الفلسفة اليونانية للديانة الجمالية، وفي تبعية الفلسفة الغربية للديانة المسيحية.
نستنتج من رؤية هيغل الفلسفية للدين، تجذر العلاقة الجدلية بين الفلسفة والدين، ووحدتهما المتمثلة في حركة التاريخ الإنساني كتجل للروح، ما خلا بعض الأعطاب التي قد تصيب بالشلل، جدل العلاقة بينهما، مثل تقاعس الدين وانحساره، أو نمو سلطان الفكر وانتصاره على حساب الجوانب الروحية الدينية، ما أفضى إلى دعم قوى الاستبداد والإرهاب، واغتراب الذات الإنسانية عن نفسها، وسيادة الخواء الروحي، وغير ذلك من تجليات تغليب كفة الفكر على كفة الدين وإهداره.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.