مكيافيللي ولابويسييه.. كتاب للأمير وكتاب للشعب

جدل يترك بصمات قوية على مجمل الفكر السياسي الحديث

كتاب «الأمير» لمكيافيللي
كتاب «الأمير» لمكيافيللي
TT

مكيافيللي ولابويسييه.. كتاب للأمير وكتاب للشعب

كتاب «الأمير» لمكيافيللي
كتاب «الأمير» لمكيافيللي

يتضمن تاريخ الفلسفة السياسية، تراثا مؤسسا أثر في مسار تفكيرنا في السياسية كممارسة أو السياسة كمفهوم. ومن بين الأعمال المؤسسة في مجال السياسة والسلطة السياسية، نجد عملا عميقا سوف يغير الفكر السياسي برمته، وهو كتاب «الأمير» لمكيافيللي، الذي قدم فيه خلاصات تفكيره في السياسة، لمن يرغب في إحكام قبضته على الدولة وتوحيدها، خاصة أن مكيافيللي كان جد متأثر بالهشاشة التي تعانيها السلطة في إيطاليا، ما يجعلها عرضة للهزات والتدخلات من طرف العائلات والدوقات النبيلة. ورغبة منه في رؤية إيطاليا موحدة، بنى مكيافيللي تفكيره للسياسة والسلطة السياسية بشكل محكم، بلغة الواقع وليس بلغة التنظير. لكن البعض اعتبر هذا التنظير عائقا أمام الحرية، وطريقا ملكيا نحو الاستبداد والتسلط على الشعوب، ما سوف يدفع بفيلسوف إيطالي آخر، هو إيتيان دو لابويسييه، إلى وضع كتاب نقيض لـ«الأمير»، يعطي فيه العدة للشعب كي يدافع عن حريته، باعتبارها مطلبا أساسيا لا يمكن التخلي عنه تحت أي ذريعة كانت. وهكذا أصبحنا أمام كتاب للأمير وضعه مكيافيللي لتقوية سلطة الأمير كطاغية مستبد، وكتاب للشعب مع لابويسييه لتقوية مقاومة الشعب ونضاله، ودفاعا عن الحرية ضد الطغاة.
هو الفيلسوف نيكولا دي برناردو دي مكيافيللي، 1469 – 1527، واحد من رواد عصر النهضة الأكثر تأثيرا في العالم الجديد، الناهض من رحم العصور الوسطى. الفيلسوف الذي سوف يضع بصمته القوية على الفكر السياسي بصفة خاصة، حين يقوم بتدوين أفكاره وتجاربه في كتاب سوف يسميه «الأمير»، عله يفيد في تحقيق هدفه المنشود، وهو خلق الأمير القادر على الحكم، ويعمل على توجيهه إلى أمير حديث تولى ولاية موروثة عن آبائه، وهو الأمير لورنزو من عائلة آل ميديتشي، مجيبا فيه عن الأسئلة التالية:
من هو الأمير؟ وكيف ينبغي له أن يكون؟ كيف يكون بإمكانه الحفاظ على ملكه وبسط سيادته على شعبه؟ كيف يصبح الرجل الأقوى الذي يهابه الجميع وتكون له القدرة على دحر الخصوم؟
انطلاقا من تحليلات واستنتاجات عميقة للطبيعة البشرية والتاريخ والتجربة، سيصوغ مكيافيللي كل الوسائل والتوجيهات الأساسية، التي يكون بإمكانها خلق أمير طاغية يستطيع، بسهولة، الحفاظ على ملكه، أمير تكون له القدرة على ممارسة الاستبداد، والاتصاف بكل الصفات، ما دامت الغاية التي هي الحفاظ على الملك، تبرر الوسائل التي عليه استعمالها كافة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، خاصة أن مكيافيللي، هذا الناصح الأمين، لم يخجل من ذكر نصائحه صراحة ومن دون مواربة، أو محاولة لتغطية ما فيها من معاني الخسة والانتهازية وعدم احترام حقوق الآخرين. فالناس في نظره بسطاء جدا، لا داعي لأن يجهد الأمير نفسه في محبتهم. فهم يتقبلون الولاء، ويغريهم الطمع، ويطمحون إلى ما ليس في أيديهم. وبالتالي فإن تعويل الأمير على محبتهم، هو طريق غير مضمون. أما التخويف، فهو طريقة لا تفشل أبدا، كما أن من الأفضل له أن يكون شحيحا، على أن يكون كريما. مهابا أفضل له من أن يكون محبوبا. لأن العامة - في نظره - ينكرون المعروف، ويحبون المراوغة في الحديث، حيث يقول عنهم: و«إنهم يفدونك بأموالهم ودمائهم حين لا يكون هناك داعٍ، لكن إذا اقتربت الأخطار انقلبوا عليك..» ويضيف، بأن أعظم الأمراء إنجازا هم أولئك الذين لم يصونوا العهد إلا قليلاً ممن تمكنوا من اللعب بالعقول.
سيذهب مكيافيللي بعيدا في توجيهاته للأمير. فيعتبر أن قتل الأبرياء شيء طبيعي، ومن الممكن فعله من أجل الحفاظ على الملك. كما ينصحه علانية، بأن يجمع كل الصفات الحميدة التي يفتخر بها الرجال، ويلتزم بها أمام الناس، ويبذل كل ما في وسعه كي يشتهر بها. لكنه يشدد على أن يستخدم الأمير عكس كل هذه الصفات عند الحاجة من دون خجل من ذلك. ولعل استحضاره لقصة أجاثوكل الصقلي، الذي انتزع السلطان بدهائه وحيلته، ودافع عن حكمه بالحديد والنار، وأراق دماء كثيرة، لدلالة كبيرة على ما يجب أن يكون الأمير عليه، كما يرى مكيافيللي. بل سيقدم للأمير حتى كيفية ارتكابه لجرائمه. فهي، في نظره، يجب أن ترتكب مرة واحدة، وأن تكون الأخطاء كذلك دفعة واحدة، حتى تكون أقل تأثيرا من واقعات متعددة تبقى آثارها. وكذا ضرورة التوفر على القوانين الجيدة، والأسلحة الجيدة، وأن تكون غايته الأساسية هي الحرب التي يجب أن تبقى دائما نصب عينيه.
هكذا يكون مكيافيللي قد أنهى حزمة توجيهاته نحو ميلاد أمير طاغية، وحاكم مستبد، لا يتخذ إلا الدهاء والحرب والقتل سبيلا. ففي نظره، هذا هو الأمير الأصلح والأجدر بالملك، أمير يهابه الجميع، الأصدقاء والخصوم، يستعمل الوسائل كافة من أجل الوصول إلى غاياته، ولو على حساب دماء الآخرين وجثثهم. لكن هذا الكلام لم يبق هو الرؤية الوحيدة السائدة والنهائية في عصر النهضة. فليس بعيدا عن مكيافيللي، نجد في إيطاليا نفسها، فيلسوفا آخر معاصر له، هو إيتيان دو لابويسييه، 1530 – 1563، سيعتبر الأمير وبهذه المواصفات، لا يمكن له أن يكون كذلك، إلا في اللحظة التي يرضى فيها الشعب بأن يكون عبدا ذليلا، ويبحث فيبحث هذا الأخير، في مسألة هامة جدا، وهي هذا الخضوع، وهذا الخنوع الذي يجعل الحاكم مستبدا أسدا. وإذا كان الحاكم لا يمكن أن يكون إلا إذا وجد شعب يرضى بعبودبته، فلنبحث في هذه العبودية. وإذا كان مكيافيللي يقدم للأمير كل السبل، ليجعل شعبه بأكمله عبدا، فلابويسييه، في كتابه مقال العبودية الطوعية، سوف يقدم كل الوسائل للشعب لكي يكون سيدا، لا مجرد عبد. فينتصب في هذا الكتاب وكأنه يرد على كلام مكيافيللي حرفا حرفا، حيث سيعيد طرح أسئلة مكيافيللي بشكل مقلوب، فيقول: كيف يتخلى شعب بأكمله عن كرامته، ويستغني عن ذكائه، ويصبح عبدا مطيعا لحاكم هو الأقل ذكاء والأكثر جبنا؟ عبد الرجل لم يسبق له أن استنشق رائحة البارود أو غبار المعارك، ولا يقدر على تلبية حتى مطالب أضعف امرأة؟
لا يفسر لابويسييه استسلام مليون إنسان للإذلال على يد شخص واحد، إلا بجبن الناس ونذالة من يمهد له الطريق منهم، ما سيدفعه إلى القول بضرورة تفسير ذلك الجبن وتلك النذالة. ذلك أن الأمور تسير كأن أفراد الرعية يستمتعون بعبوديتهم ما داموا لا يقدمون على شيء لرفضها، وما داموا لم يرفضوها، فهم راغبون فيها. إن الشعب هو الذي يستسلم للاستعباد، وهو الذي يسلم عنقه للقطع، ولا يبذل جهدا ليعرف أن ذاك الذي يتحكم بهم ليس له سوى عينين اثنتين ويدين وجسد واحد. وليس له من شيء مغاير لما لدى أدنى رجل في ذلك العدد الكبير واللامتناهي من مدننا، سوى الميزة التي يمنحونها له كي يقوم بتدميرهم، والتي يجب أن يسلبوه إياها بوعيهم ونضالهم السياسي.
والطاغية الذي يؤسس له مكيافيللي، يظل في نظر لابويسييه، كالنار التي يشعلها هؤلاء الخاضعون بأيديهم، فتبدأ من شرارة صغيرة، تتأجج ويشتد سعيرها، فكلما وجدت حطبا أسرعت بالتهامه. لا داعي إلى رميها بالماء لإطفائها، حسبنا فقط أن نكف عن تزويدها بالحطب. وحين يكف الشعب عن إضرامها، فإنها تأكل بعضها وتغدو فارغة من كل قوة لتصير إلى العدم، فيتهاوى كتمثال عملاق نزعت قاعدته من تحته. كذلك هي حال الطغاة، فكلما نهبوا، وكلما ازداد الإغداق عليهم، تشتد سطوتهم، ويصبحون أكثر قوة على الدوام، وأكثر استعدادا لمحق كل شيء وتهديمه. وبدلا من أن يحكم يجعل نفسه سيدا. وبدلا من أن يؤدي واجبا، يمنح نفسه كل الحقوق، يظن نفسه مالكا لمملكته ورعاياه. يمارس الاحتجاز والنفي والخنق الإدانة، يضخم قوته بالوسائل الدنيئة. يحل الفساد في كل مكان، ويجرد البشر من إنسانيتهم. وينصب حتى شرك الدين، وهو الأسهل الذي يتعلق فيه الشعب بسهولة، ويصبح الأمير إلها.
يدمر لابويسييه طاغية مكيافيللي تدميرا، ويرسم للناس طرق الخلاص، فلا يبقى أمامهم إلا الاختيار والجرأة في الاختيار. فإما طريق العبودية الطوعية، أو الإيمان بالحرية والنضال من أجلها. فالطاغية لا يكون كذلك، إلا في الوقت الذي نحن نسمح له بذلك. هكذا يدعو لابويسييه الشعب إلى التخلص من غبائه والاستيقاظ من أجل نيل حريته. فالإنسان المستعبد في نظره لا تعود طبيعته طبيعة إنسان. وهذا انحراف أخلاقي وسقوط يشكل عارا على الإنسان، لأنه يعني انهيار القيم التي طمحت البشرية طموحا طبيعيا في سبيل إحيائها. فيقول عن أمير مكيافيللي: «يا له من رأس جميل تكفيه كلمة مني حتى يسقط أرضا». بالطبع كلمة لا بد أن يجرؤ هؤلاء الخاضعون الذين يرضون بعبوديتهم طوعا على قولها. ولعل هذا الجدال بين مكيافيللي ولابويسييه، هو الذي سوف يترك بصماته القوية على مجمل الفكر السياسي الحديث الذي لن يبقى إلا تحريرا للإنسان ضد كل أشكال العبودية، التي يمكن أن يزج بنفسه داخلها.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.