مكيافيللي ولابويسييه.. كتاب للأمير وكتاب للشعب

جدل يترك بصمات قوية على مجمل الفكر السياسي الحديث

كتاب «الأمير» لمكيافيللي
كتاب «الأمير» لمكيافيللي
TT

مكيافيللي ولابويسييه.. كتاب للأمير وكتاب للشعب

كتاب «الأمير» لمكيافيللي
كتاب «الأمير» لمكيافيللي

يتضمن تاريخ الفلسفة السياسية، تراثا مؤسسا أثر في مسار تفكيرنا في السياسية كممارسة أو السياسة كمفهوم. ومن بين الأعمال المؤسسة في مجال السياسة والسلطة السياسية، نجد عملا عميقا سوف يغير الفكر السياسي برمته، وهو كتاب «الأمير» لمكيافيللي، الذي قدم فيه خلاصات تفكيره في السياسة، لمن يرغب في إحكام قبضته على الدولة وتوحيدها، خاصة أن مكيافيللي كان جد متأثر بالهشاشة التي تعانيها السلطة في إيطاليا، ما يجعلها عرضة للهزات والتدخلات من طرف العائلات والدوقات النبيلة. ورغبة منه في رؤية إيطاليا موحدة، بنى مكيافيللي تفكيره للسياسة والسلطة السياسية بشكل محكم، بلغة الواقع وليس بلغة التنظير. لكن البعض اعتبر هذا التنظير عائقا أمام الحرية، وطريقا ملكيا نحو الاستبداد والتسلط على الشعوب، ما سوف يدفع بفيلسوف إيطالي آخر، هو إيتيان دو لابويسييه، إلى وضع كتاب نقيض لـ«الأمير»، يعطي فيه العدة للشعب كي يدافع عن حريته، باعتبارها مطلبا أساسيا لا يمكن التخلي عنه تحت أي ذريعة كانت. وهكذا أصبحنا أمام كتاب للأمير وضعه مكيافيللي لتقوية سلطة الأمير كطاغية مستبد، وكتاب للشعب مع لابويسييه لتقوية مقاومة الشعب ونضاله، ودفاعا عن الحرية ضد الطغاة.
هو الفيلسوف نيكولا دي برناردو دي مكيافيللي، 1469 – 1527، واحد من رواد عصر النهضة الأكثر تأثيرا في العالم الجديد، الناهض من رحم العصور الوسطى. الفيلسوف الذي سوف يضع بصمته القوية على الفكر السياسي بصفة خاصة، حين يقوم بتدوين أفكاره وتجاربه في كتاب سوف يسميه «الأمير»، عله يفيد في تحقيق هدفه المنشود، وهو خلق الأمير القادر على الحكم، ويعمل على توجيهه إلى أمير حديث تولى ولاية موروثة عن آبائه، وهو الأمير لورنزو من عائلة آل ميديتشي، مجيبا فيه عن الأسئلة التالية:
من هو الأمير؟ وكيف ينبغي له أن يكون؟ كيف يكون بإمكانه الحفاظ على ملكه وبسط سيادته على شعبه؟ كيف يصبح الرجل الأقوى الذي يهابه الجميع وتكون له القدرة على دحر الخصوم؟
انطلاقا من تحليلات واستنتاجات عميقة للطبيعة البشرية والتاريخ والتجربة، سيصوغ مكيافيللي كل الوسائل والتوجيهات الأساسية، التي يكون بإمكانها خلق أمير طاغية يستطيع، بسهولة، الحفاظ على ملكه، أمير تكون له القدرة على ممارسة الاستبداد، والاتصاف بكل الصفات، ما دامت الغاية التي هي الحفاظ على الملك، تبرر الوسائل التي عليه استعمالها كافة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، خاصة أن مكيافيللي، هذا الناصح الأمين، لم يخجل من ذكر نصائحه صراحة ومن دون مواربة، أو محاولة لتغطية ما فيها من معاني الخسة والانتهازية وعدم احترام حقوق الآخرين. فالناس في نظره بسطاء جدا، لا داعي لأن يجهد الأمير نفسه في محبتهم. فهم يتقبلون الولاء، ويغريهم الطمع، ويطمحون إلى ما ليس في أيديهم. وبالتالي فإن تعويل الأمير على محبتهم، هو طريق غير مضمون. أما التخويف، فهو طريقة لا تفشل أبدا، كما أن من الأفضل له أن يكون شحيحا، على أن يكون كريما. مهابا أفضل له من أن يكون محبوبا. لأن العامة - في نظره - ينكرون المعروف، ويحبون المراوغة في الحديث، حيث يقول عنهم: و«إنهم يفدونك بأموالهم ودمائهم حين لا يكون هناك داعٍ، لكن إذا اقتربت الأخطار انقلبوا عليك..» ويضيف، بأن أعظم الأمراء إنجازا هم أولئك الذين لم يصونوا العهد إلا قليلاً ممن تمكنوا من اللعب بالعقول.
سيذهب مكيافيللي بعيدا في توجيهاته للأمير. فيعتبر أن قتل الأبرياء شيء طبيعي، ومن الممكن فعله من أجل الحفاظ على الملك. كما ينصحه علانية، بأن يجمع كل الصفات الحميدة التي يفتخر بها الرجال، ويلتزم بها أمام الناس، ويبذل كل ما في وسعه كي يشتهر بها. لكنه يشدد على أن يستخدم الأمير عكس كل هذه الصفات عند الحاجة من دون خجل من ذلك. ولعل استحضاره لقصة أجاثوكل الصقلي، الذي انتزع السلطان بدهائه وحيلته، ودافع عن حكمه بالحديد والنار، وأراق دماء كثيرة، لدلالة كبيرة على ما يجب أن يكون الأمير عليه، كما يرى مكيافيللي. بل سيقدم للأمير حتى كيفية ارتكابه لجرائمه. فهي، في نظره، يجب أن ترتكب مرة واحدة، وأن تكون الأخطاء كذلك دفعة واحدة، حتى تكون أقل تأثيرا من واقعات متعددة تبقى آثارها. وكذا ضرورة التوفر على القوانين الجيدة، والأسلحة الجيدة، وأن تكون غايته الأساسية هي الحرب التي يجب أن تبقى دائما نصب عينيه.
هكذا يكون مكيافيللي قد أنهى حزمة توجيهاته نحو ميلاد أمير طاغية، وحاكم مستبد، لا يتخذ إلا الدهاء والحرب والقتل سبيلا. ففي نظره، هذا هو الأمير الأصلح والأجدر بالملك، أمير يهابه الجميع، الأصدقاء والخصوم، يستعمل الوسائل كافة من أجل الوصول إلى غاياته، ولو على حساب دماء الآخرين وجثثهم. لكن هذا الكلام لم يبق هو الرؤية الوحيدة السائدة والنهائية في عصر النهضة. فليس بعيدا عن مكيافيللي، نجد في إيطاليا نفسها، فيلسوفا آخر معاصر له، هو إيتيان دو لابويسييه، 1530 – 1563، سيعتبر الأمير وبهذه المواصفات، لا يمكن له أن يكون كذلك، إلا في اللحظة التي يرضى فيها الشعب بأن يكون عبدا ذليلا، ويبحث فيبحث هذا الأخير، في مسألة هامة جدا، وهي هذا الخضوع، وهذا الخنوع الذي يجعل الحاكم مستبدا أسدا. وإذا كان الحاكم لا يمكن أن يكون إلا إذا وجد شعب يرضى بعبودبته، فلنبحث في هذه العبودية. وإذا كان مكيافيللي يقدم للأمير كل السبل، ليجعل شعبه بأكمله عبدا، فلابويسييه، في كتابه مقال العبودية الطوعية، سوف يقدم كل الوسائل للشعب لكي يكون سيدا، لا مجرد عبد. فينتصب في هذا الكتاب وكأنه يرد على كلام مكيافيللي حرفا حرفا، حيث سيعيد طرح أسئلة مكيافيللي بشكل مقلوب، فيقول: كيف يتخلى شعب بأكمله عن كرامته، ويستغني عن ذكائه، ويصبح عبدا مطيعا لحاكم هو الأقل ذكاء والأكثر جبنا؟ عبد الرجل لم يسبق له أن استنشق رائحة البارود أو غبار المعارك، ولا يقدر على تلبية حتى مطالب أضعف امرأة؟
لا يفسر لابويسييه استسلام مليون إنسان للإذلال على يد شخص واحد، إلا بجبن الناس ونذالة من يمهد له الطريق منهم، ما سيدفعه إلى القول بضرورة تفسير ذلك الجبن وتلك النذالة. ذلك أن الأمور تسير كأن أفراد الرعية يستمتعون بعبوديتهم ما داموا لا يقدمون على شيء لرفضها، وما داموا لم يرفضوها، فهم راغبون فيها. إن الشعب هو الذي يستسلم للاستعباد، وهو الذي يسلم عنقه للقطع، ولا يبذل جهدا ليعرف أن ذاك الذي يتحكم بهم ليس له سوى عينين اثنتين ويدين وجسد واحد. وليس له من شيء مغاير لما لدى أدنى رجل في ذلك العدد الكبير واللامتناهي من مدننا، سوى الميزة التي يمنحونها له كي يقوم بتدميرهم، والتي يجب أن يسلبوه إياها بوعيهم ونضالهم السياسي.
والطاغية الذي يؤسس له مكيافيللي، يظل في نظر لابويسييه، كالنار التي يشعلها هؤلاء الخاضعون بأيديهم، فتبدأ من شرارة صغيرة، تتأجج ويشتد سعيرها، فكلما وجدت حطبا أسرعت بالتهامه. لا داعي إلى رميها بالماء لإطفائها، حسبنا فقط أن نكف عن تزويدها بالحطب. وحين يكف الشعب عن إضرامها، فإنها تأكل بعضها وتغدو فارغة من كل قوة لتصير إلى العدم، فيتهاوى كتمثال عملاق نزعت قاعدته من تحته. كذلك هي حال الطغاة، فكلما نهبوا، وكلما ازداد الإغداق عليهم، تشتد سطوتهم، ويصبحون أكثر قوة على الدوام، وأكثر استعدادا لمحق كل شيء وتهديمه. وبدلا من أن يحكم يجعل نفسه سيدا. وبدلا من أن يؤدي واجبا، يمنح نفسه كل الحقوق، يظن نفسه مالكا لمملكته ورعاياه. يمارس الاحتجاز والنفي والخنق الإدانة، يضخم قوته بالوسائل الدنيئة. يحل الفساد في كل مكان، ويجرد البشر من إنسانيتهم. وينصب حتى شرك الدين، وهو الأسهل الذي يتعلق فيه الشعب بسهولة، ويصبح الأمير إلها.
يدمر لابويسييه طاغية مكيافيللي تدميرا، ويرسم للناس طرق الخلاص، فلا يبقى أمامهم إلا الاختيار والجرأة في الاختيار. فإما طريق العبودية الطوعية، أو الإيمان بالحرية والنضال من أجلها. فالطاغية لا يكون كذلك، إلا في الوقت الذي نحن نسمح له بذلك. هكذا يدعو لابويسييه الشعب إلى التخلص من غبائه والاستيقاظ من أجل نيل حريته. فالإنسان المستعبد في نظره لا تعود طبيعته طبيعة إنسان. وهذا انحراف أخلاقي وسقوط يشكل عارا على الإنسان، لأنه يعني انهيار القيم التي طمحت البشرية طموحا طبيعيا في سبيل إحيائها. فيقول عن أمير مكيافيللي: «يا له من رأس جميل تكفيه كلمة مني حتى يسقط أرضا». بالطبع كلمة لا بد أن يجرؤ هؤلاء الخاضعون الذين يرضون بعبوديتهم طوعا على قولها. ولعل هذا الجدال بين مكيافيللي ولابويسييه، هو الذي سوف يترك بصماته القوية على مجمل الفكر السياسي الحديث الذي لن يبقى إلا تحريرا للإنسان ضد كل أشكال العبودية، التي يمكن أن يزج بنفسه داخلها.



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».