اليمين الفرنسي المتطرف وإرهاب 13 نوفمبر

على الرغم من نجاح القوى السياسية الرئيسية في احتواء الخطر مؤقتًا

رئيسة حزب الجبهة الفرنسية ماريون لوبن تتحدث لوسائل الإعلام بعد الإعلان عن الجولة الثانية للانتخابات المحلية (أ.ب)
رئيسة حزب الجبهة الفرنسية ماريون لوبن تتحدث لوسائل الإعلام بعد الإعلان عن الجولة الثانية للانتخابات المحلية (أ.ب)
TT

اليمين الفرنسي المتطرف وإرهاب 13 نوفمبر

رئيسة حزب الجبهة الفرنسية ماريون لوبن تتحدث لوسائل الإعلام بعد الإعلان عن الجولة الثانية للانتخابات المحلية (أ.ب)
رئيسة حزب الجبهة الفرنسية ماريون لوبن تتحدث لوسائل الإعلام بعد الإعلان عن الجولة الثانية للانتخابات المحلية (أ.ب)

منذ الإعلان عن نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الإقليميّة الفرنسيّة وفرنسا تعيش حالة من «الصدمة»، مع تحقيق اليمين المتطرف اختراقا تاريخيّا، محتلا بلوائحه موقع الصدارة في 6 أقاليم من أصل 13 في الدورة الأولى. والواقع أنه لا يمكن فصل هذه النتائج على الإطلاق عن الهجمات التي وقعت في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في العاصمة الفرنسية باريس وتبناها تنظيم داعش، وتسببت في مقتل 130 شخصا فضلا عن مئات الجرحى الأبرياء. ولقد فرض هذا العمل الإرهابي قراءة جديدة للهجمات التي نفذها فرنسيون وبلجيكيون من أصل عربي، كما قد تكون له تداعيات كبيرة على المسلمين في فرنسا.
مع أن حزب «الجبهة الوطنية» (Front national) الفرنسي اليميني المتطرف لم يتمكن من الفوز، وبالتالي السيطرة، في أي إقليم من أقاليم فرنسا الـ13 خلال الجولة الثانية والحاسمة من الانتخابات، فإنه استطاع كسب العديد من الأصوات. والأرقام تتحدث عن نفسها بحيث حصد الحزب المعادي للمهاجرين الذي تتزعمه مارين لوبن 6 ملايين وثمانمائة ألف صوت، أي أفضل بكثير من النتائج التي حققها عام 2012.
بين الجولتين الأولى والثانية، تقدم «الجبهة الوطنية» بقيادة لوبن - وهي ابنة الزعيم السابق المؤسس جان ماري لوبن - في كل مكان ما عدا إقليمي إيل دو فرانس (محيط العاصمة باريس) وجزيرة كورسيكا، وحتى في هاتين المنطقتين جاءت النتائج أفضل من السنين السابقة، وزاد عدد الأصوات المؤيدة للحزب اليميني المتطرّف. ومن ناحية ثانية، كانت ماريون ماريشال لوبن، حفيدة الزعيم المؤسس وابنة أخت الزعيمة الحالية، قد صرّحت في مقابلة قبل الإعلان عن النتائج بأنه سيكون من «السخرية أو حتى الانتهازية» القول إن حزب «الجبهة الوطنية» قد «استفاد من الهجمات»، مضيفة مع ذلك أنه من الضروري الاعتراف بأن الحزب يحذّر منذ سنوات من «التطرف الإسلامي»، ويدعو إلى عدم التسامح مع المخلين وإلى إغلاق ومراقبة الحدود.
غير أن أحد محللي السياسة الفرنسية، وقد تحدث إلى «الشرق الأوسط» شرط التكتم على هويته، أشار من جهته إلى أن الهجمات التي وقعت الشهر الماضي في باريس أسهمت في النتائج التي أحرزها «الجبهة الوطنية» من دون أن تؤدي إلى تحوِّل جذري وشامل للفرنسيين باتجاه الحزب اليميني المتطرف، بحيث كان التقدم تدريجيا إلى حد ما. وعلى الرغم مما شهدته الجولة الثانية من الانتخابات الإقليمية من انتفاضة للشعب الفرنسي ضد الخطاب اليميني المتطرف، فإن هجمات 13 نوفمبر ونتائج الانتخابات التي تلتها عبرت خير تعبير عن الانزعاج والاختلافات الاجتماعية المتصاعدة في فرنسا، أقله في بعض المناطق.
وفي هذا السياق، يعتبر رومان كاييه، الباحث في «الحركات المتشددة باسم الإسلام»، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن ثمة نقاط تشابه واضحة وسهلة التحديد بين مرتكبي هجمات 13 نوفمبر. فأحد المتهمين وهو صلاح عبد السلام رجل فرنسي الجنسية، يبلغ 26 سنة، ويقيم في حي مولينبيك بشمال غربي العاصمة البلجيكية بروكسل، مع شقيقه إبراهيم، الذي فجر نفسه في باريس. كذلك من أبناء حي مولينبيك متهم آخر هو محمد أبرني، البلجيكي من أصل مغربي الذي يبلغ 30 سنة، والذي شوهد بصحبة عبد السلام قبل يومين من هجمات باريس الإرهابية. وحسب المعلومات المتوافرة فإن أبرني صديق لصلاح عبد السلام، وله سجل حافل من السرقات والتوقيفات في السجون البلجيكية، ويُعتقد أنه زار سوريا في صيف 2015. أما عبد الحميد أبا عود، الذي يشتبه في أنه «العقل المدبر» لهجمات باريس، فهو أيضا بلجيكي من أصل مغربي. وهناك غيرهم مثل بلال حدفي (20 سنة) وسامي عميمور (28 سنة) وإسماعيل عمر مصطفى (29 سنة) وفؤاد محمد أغاد، وكلهم من الفرنسيين والبلجيكيين المتحدرين من أصول شمال أفريقية وسبق لهم أن شاركوا في الحرب الدائرة في سوريا.
وتابع كاييه: «لفترة طويلة، وخوفا من اتهامنا بالعنصرية، كنا نردد أن الحركيين المتشددين في سوريا هم من خلفيات متعددة ويضمون فرنسيين اعتنقوا الإسلام حديثا وفرنسيين من أصول مغربية وشبانا يعيشون صراعا في مجتمعاتهم. غير أنه منذ الهجمات التي نفذها محمد مراح (المسؤول عن هجمات تولوز عام 2012) وأحمدي كوليبالي (المسؤول عن هجمات يناير - كانون الثاني، 2015 في باريس)، بتنا نلاحظ أن مرتكبي الهجمات يتشاركون كلهم صفات محددة، وهم بغالبيتهم من أصول مغاربية (أو شمال أفريقية) أو أفريقية»، وفق كاييه.
واستطرد الباحث كاييه: «كما أنه لكي تبلغ هذه الشخصيات المتشددة مرحلة النضوج القتالي الإرهابي كان عليها المرور بسوريا. ومن هنا يشكل المتشددون الذين توجهوا إلى سوريا، منذ عام 2012 مصدر القلق الرئيسي لأجهزة مكافحة الإرهاب، علما بأن فرنسا وبلجيكا هما البلدان الأوروبيان المهددان أكثر من سواهما. ذلك أن العديد من الأشخاص الذين وردت أسماؤهم على اللائحة «س» التي أعدتها المديرية العامة للأمن الداخلي الفرنسية في عام 2010 والذين تتم ملاحقاتهم منذ ذلك الحين، توجهوا بالفعل إلى سوريا في عام 2014».
يكمل كاييه شارحا أن «(داعش) وبعض الفرنسيين من أصل مغربي يلتقون حول مصالح مشتركة. فـ(داعش) لديه سياسة خارجية موجهة ضد فرنسا، والمتشددون من أصل فرنسي لهم مطالب اجتماعية ضد بلدهم». ويضيف: «الفرنسيون الذين اعتنقوا الإسلام حديثا يمكنهم أن ينفذوا بسهولة أكبر العمليات الانتحارية ضد الميليشيات الشيعية في العراق (من حيث البعد الآيديولوجي). أما الفرنسيون المتحدرون من أصل عربي - ومغاربي - من ناحيتهم فيمكنهم أن يقوموا بعمليات في بلدهم، وذلك لدوافع عدة: مثل التهميش الذين يعانون منه بحيث يتعرض المواطنون الفرنسيون من أصل مغربي أو عربي في فرنسا لتمييز عنصري عشر مرات أكثر من المواطنين السود في الولايات المتحدة. كما أن بعضا من الفرنسيين من أصول مغاربية يرون أن فرنسا لديها واجب التعويض عليهم بسبب سياستها الاستعمارية، علما بأنه من المستبعد جدا أن يكون منفذو هجمات 13 نوفمبر يشعرون حقا بالانتماء إلى فرنسا»، وفق كاييه.
في المقلب الآخر، يتبنى أوليفييه روي، أستاذ العلوم السياسية والمتخصص بشؤون الإسلام، نهجا مختلفا عن كاييه في مقال نشرته صحيفة «لوموند» (Le Monde) الفرنسية بحيث يرى أن «التحاق هؤلاء الشباب بـ(داعش) تصرف انتهازي: فبالأمس كانوا مع تنظيم القاعدة (1995)، وقبل ذلك كانوا يؤيدون ولو بشكل غير علني (الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية)، أو سبق لهم أن شاركوا في القتال في البوسنة أو أفغانستان أو الشيشان. وغدا سيقاتل هؤلاء مع فريق آخر، إلا إذا كان مصيرهم الموت أثناء القتال أو التقدم بالسن أو خيبة الأمل التي ستفرغ صفوفهم كما حصل مع اليسار المتطرف في السبعينات». ووفقا لروي: «(داعش) يغرف من نبع الشباب الفرنسي المتطرف الذي، بغض النظر عما سيحدث في الشرق الأوسط، دخل في حالة من النقمة باحثا عن قضية أو شعار أو معركة كبيرة يضع عليها بصماته الملطخة بالدماء وثورته الشخصية».
في مطلق الأحوال، وبغض النظر عن الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة، تمكن تنظيم داعش من استغلال غضب، وفق كاييه.
إن التقدم الذي يحققه حزب «الجبهة الوطنية» مرتبط إذن بالنسيج الاجتماعي والإثني الفرنسي، وفق كاييه الذي يشرح قائلا: «إننا نلاحظ أن الفرنسيين من أبناء الطبقات الفقيرة العاجزين عن العيش في الأحياء المدينية الغنية يتفادون السكن في الأحياء المختلطة (حيث يقطن الفرنسيون من أصل عربي أو مغاربي) في الضواحي ويفضلون الأرياف.. في هذه المناطق بالذات يمكن لـ(الجبهة الوطنية) أن يحرز تقدما حيث يخيل إلينا أن الناس ما عادوا يعيشون أو يختلطون مع بعضهم البعض».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.