السعودية في مواجهة الإرهاب

حرب طويلة.. جهود متوازية.. وتجربة نجاح رائدة

في 13 نوفمبر عام 1995 أدى تفجير سيارة مفخخة في الرياض لرفع حالة التأهب لتتمركز القوات الامريكية في أبراج الخبر
في 13 نوفمبر عام 1995 أدى تفجير سيارة مفخخة في الرياض لرفع حالة التأهب لتتمركز القوات الامريكية في أبراج الخبر
TT

السعودية في مواجهة الإرهاب

في 13 نوفمبر عام 1995 أدى تفجير سيارة مفخخة في الرياض لرفع حالة التأهب لتتمركز القوات الامريكية في أبراج الخبر
في 13 نوفمبر عام 1995 أدى تفجير سيارة مفخخة في الرياض لرفع حالة التأهب لتتمركز القوات الامريكية في أبراج الخبر

عانت السعودية من الإرهاب وجرائمه كثيرا، وكبدها ذلك خسائر من أرواح أبنائها وشبابها، لكنها واجهته بحزم وقوة، وصبر وإصرار، فهزمته وانتصرت عليه، وأصبحت نموذجا يدرس وتجربة تحتذيها الدول في مكافحة الإرهاب.
اتخذت السعودية في حربها الطويلة مع الإرهاب، جهودا وخططا متوازية لم تقتصر على الجانب الأمني فقط، بل ترافق معها مشاريع فكرية واجتماعية وتوعوية، ولجان مناصحة واحتواء ورعاية للمغرر بهم من ضحايا جماعات التطرف، كما سنت عددا من التشريعات القانونية، والقضائية التي تسهم في حماية المجتمع من آثار هذه الظاهرة وتقضي عليها.
خلال خطابه بمناسبة عيد الفطر، في أغسطس (آب) الماضي، أكد خادم الحرمين الشريفين ملك المملكة العربية السعودية، التزام المملكة بمكافحة الإرهاب الدولي، داعيا الأمة الإسلامية لـ«الصمود في وجه دعاة التحريض والتضليل والضلال الذين يسعون لتشويه سمعة الإسلام».
وتأكيدا وإنفاذا لهذا العزم، قرر العاهل السعودي وفي أمر ملكي حازم - مطلع شهر فبراير (شباط) - تجريم كل من يشارك في الأعمال القتالية خارج المملكة من السعوديين، وسن قوانين للمعاقبة بالسجن على من يثبت في حقه المشاركة مع التنظيمات الإرهابية، سواء بالعمل المباشر أو الدعم المادي أو المعنوي.
يأتي هذا القرار بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات، وملايين القتلى والجرحى والمهجرين والمشردين والمفقودين السوريين، ومنذ بداية الأزمة السوداء في سوريا، والسعودية تقرع أجراس الخطر، وتنبه العالم لخطر الإهمال والتسويف، خوفا من تحول سوريا لمركز جاذب للإرهابيين بسبب عجز العالم عن حل المشكلة. لكن لم يصغ أحد.
وصل الخطر إلى نسيج المجتمعات العربية ومنها السعودية، واتخذ دعاة التطرف وأنصار الجماعات الدينية الدموية كـ«داعش» و«النصرة» من الساحة السورية مسرحا للتجنيد والتعبئة.
هنا كان الأمر الملكي السعودي الأخير، حازما وحاسما في قطع الطريق على من يريد المتاجرة بعواطف السعوديين تجاه مأساة الشعب السوري، أو حرف قضية السوريين عن مسارها الوطني الإنساني إلى مسار متطرف مغامر، يريد إشعال الحرب الدينية في كل مكان.
خلف هؤلاء المنضوين في جماعتي «داعش» و«النصرة» في سوريا، وأمثالهما في اليمن وأفغانستان والصحراء الكبرى وسيناء مصر، عمق ممتد في المجتمعات من ممولين ومجندين ومروجين للدعاية.
كان لا بد من مواجهة هؤلاء، ليس بالتلميح في فتاوى علماء الدين المناهضين لهذه الجماعات فقط، بل كان لا بد - مع هذا - من وضع مسطرة قانونية واضحة، ورسم خط بيّن على الأرض يعاقب من تعداه.
الأمر الملكي واضح وهو ينص على أنه يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على 20 سنة، كل من شارك - كائنا من كان - في القتال الخارجي أو انتمى للجماعات المتطرفة أو دعمها بالتمويل أو الدعاية أو ساهم معها بأي صفة. وإذا كان الفاعل لهذا من القوات العسكرية فتكون العقوبة أغلظ.
ومن أجل رسم خط فاصل للناس على الأرض وجّه الأمر الملكي بتشكيل لجنة حكومية تشترك فيها عدة وزارات مع الادعاء العام وديوان المظالم، تعد قائمة، يعتمدها النظر الملكي، تحدث دوريا بهذه التيارات والجماعات.
السعودية هي صاحبة مبادرة المركز الدولي لمكافحة الإرهاب، وهي صاحبة الجهود المؤثرة على مستوى العالم، من خلال التعاون الأمني الاستخباري، والسياسي، لمكافحة جماعات الإرهاب الديني، بسبب الخوف على استقرار السعودية، وبسبب الخوف على سمعة الإسلام أيضا، وبسبب الخوف على الاستقرار في الإقليم والعالم. السعودية حين تكافح الإرهاب وجماعات التطرف داخليا وخارجيا، فهي تمثل نهجها وتتمثل ذاتها، وليست تناور بورقة الإرهاب كما يفعل غيرها.
ولأجل ذلك، سنت السعودية إجراءات ومشاريع شاملة لمواجهة قوى التطرف على كل المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. فعلى المستوى المحلي حاربت المملكة الإرهاب من خلال خطين متوازيين هما المعالجة الأمنية والمعالجة الوقائية الفكرية.
في مستوى المعالجة الأمنية سجلت السلطات الأمنية إنجازات غير مسبوقة تمثلت في الضربات الاستباقية وإفشال أكثر من 95 في المائة من العمليات الإرهابية، ثم اختراق الدائرة الثانية لأصحاب الفكر الضال، وهم المتعاطفون والممولون للإرهاب الذين لا يقلون خطورة عن المنفذين للعمليات الإرهابية فتم القبض على الكثير منهم.
ولهذا يؤكد كثير من المراقبين، أن تجربة المملكة في مكافحة الإرهاب وكشف المخططات الإرهابية قبل تنفيذها عكست تفوقا غير مسبوق يسجل للسعودية سبقت إليه دولا متقدمة كثيرة عانت من الإرهاب عقودا طويلة.
وفيما يتصل بالمعالجة الوقائية شكلت وزارة الداخلية السعودية (لجنة المناصحة) وهي لجنة شرعية تتكون من العلماء والدعاة والمفكرين بهدف تصحيح المفاهيم الخاطئة والمغلوطة لدى الموقوفين، فكان إنشاء (مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية) الذي يهدف لكشف الشبهات وتوضيح المنزلقات الفكرية التي يتبناها أصحاب الفكر المنحرف الذي يقود إلى الإرهاب من أجل إعادة الموقوفين إلى رشدهم وتصحيح مفاهيمهم من خلال الاستعانة بعلماء الشريعة والمختصين في العلوم الاجتماعية والنفسية والمثقفين ورجال الأعمال وإتاحة الفرصة لهم لمقابلة هذه الفئة ومناقشتهم بكل حرية والرد على شبهاتهم وانتهاج أسلوب الحوار والإقناع مع بعض أتباع هذا الفكر، وتغيير الكثير من القناعات السابقة لديهم وعرض هذه التراجعات عبر وسائل الإعلام.
وتشكلت المحاور الرئيسة التي انتهجتها المملكة في محاربة الإرهاب على خمسة محاور مهمة، وهي:
- تفنيد حججهم الفكرية.
- محاصرة منافذ التبشير بأفكارهم.
- تجفيف منابع تجنيدهم للأتباع وإغلاق مصادرهم في التمويل.
- تفكيك شبكاتهم القائمة، من خلال المبادرة بعمليات نوعية استباقية لإجهاض خلاياهم النشطة والنائمة.
- الاحتواء الإنساني بإعادة تأهيل المغرر بهم.
ولعل أبرز ما تحقق في هذا السياق تراجع الكثير من المنظرين للفكر التكفيري المنحرف عن فتاواهم التي استندت عليها عناصر الفئة الضالة في القيام بأعمالها الإجرامية وأكدوا أن فتاواهم تلك خاطئة وتراجعوا عنها وأعلنوا توبتهم.
وفي سياق الجهود العلمية والدولية، نظمت المملكة بالتزامن مع المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب حملة التضامن الوطني لمكافحة الإرهاب في مختلف مناطق المملكة دامت أسبوعا كاملا شاركت فيها جميع القطاعات التعليمية والأمنية وهدفت إلى زيادة الوعي العام في دعم التعاون بين أفراد المجتمع السعودي للتصدي للعمليات الإرهابية وتعزيز الانتماء للوطن والدفاع عنه ومكافحة الغلو والتطرف.
وأصدرت المملكة جملة من الأنظمة والتعليمات واللوائح لاستخدام شبكة الإنترنت والاشتراك فيها بهدف مواجهة الاعتداءات الإلكترونية والإرهاب الإلكتروني إضافة إلى تنظيم الجهات المعنية دورات تدريبية كثيرة عن موضوع مكافحة جرائم الحاسب الآلي لتنمية معارف العاملين في مجال مكافحة الجرائم التي ترتكب عن طريق الحاسب الآلي وتحديد أنواعها.
ولأجل إعادة تنظيم جمع التبرعات للأعمال الخيرية التي قد تستغل لغير الأعمال المشروعة قامت بإنشاء هيئة أهلية كبرى تتولى الإشراف والتنظيم على جميع الأعمال الإغاثية والخيرية بهدف تنظيم عمل تلك الهيئات حتى لا تذهب هذه الأموال والتبرعات لجماعات إرهابية.
كما يبرز المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب الذي دعت إليه المملكة وعقد بمدينة الرياض أوائل شهر فبراير عام 2005م واحدا من الجهود الدائبة للمملكة في مكافحة هذه الآفة العالمية في إطار دولي وجانب من جوانب عمل المملكة المستمر في محاربة الإرهاب، حيث ترى المملكة دائما أن القضاء على الإرهاب لن يجري إلا بتعاون دولي في استئصال جذوره ومعالجة أسبابه.
وبذلت المملكة جهودها لإنجاح المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب إيمانا منها بأن المؤتمر يمثل عزم الأسرة الدولية للقضاء على الإرهاب.
وعلى مستوى التشريع والقضاء، تم إنشاء محكمة خاصة للنظر في قضايا الإرهاب تحت اسم المحكمة الجزائية المتخصصة، كذلك استحداث دائرة مختصة بهيئة التحقيق والادعاء العام تحت اسم «دائرة قضايا أمن الدولة» لتتولى التعامل مع مثل هذه القضايا وتوفير جميع الضمانات التي توفر للمتهمين في قضايا الإرهاب وتمويله محاكمة عادلة بما في ذلك حقهم في الدفاع عن أنفسهم وتعويض من تثبت براءته منهم.
كما أقر مجلس الوزراء السعودي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي نظام «مكافحة الإرهاب وتمويله»، وهو يعد نظاما إجرائيا أُخذ فيه بمبدأ التوازن بين الأخطار التي تؤول إليها تلك الجرائم، وحماية حقوق الإنسان التي حفظتها وأكدت عليها الشريعة الإسلامية. وحدد النظام - بشكل دقيق - المراد بالجريمة الإرهابية بأنها «كل فعل يقوم به الجاني تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي بشكل مباشر أو غير مباشر، يُقصد به الإخلال بالنظام العام، أو زعزعة أمن المجتمع واستقرار الدولة، أو تعريض وحدتها الوطنية للخطر، أو تعطيل النظام الأساسي للحكم أو بعض مواده، أو الإساءة إلى سمعة الدولة أو مكانتها، أو إلحاق الضرر بأحد مرافق الدولة أو مواردها الطبيعية، أو محاولة إرغام إحدى سلطاتها على القيام بعمل ما أو الامتناع عنه، أو التهديد بتنفيذ أعمال تؤدي إلى المقاصد المذكورة أو التحريض عليها.
كما حدد النظام الإجراءات اللازمة والضمانات الواجبة عند التعامل مع كل من يُشتبه في ارتكابه جريمة إرهابية أو تمويلها، ومن أبرز هذه الإجراءات والضمانات، تخويل وزير الداخلية بإيقاف إجراءات الاتهام تجاه من بادر بالإبلاغ عن إحدى الجرائم الواردة في النظام - قبل البدء في تنفيذها - وتعاون مع السلطات المختصة أثناء التحقيق للقبض على مرتكبيها أو على غيرهم ممن لهم صلة بجريمة مماثلة في النوع أو الخطورة، وخول النظام كذلك وزير الداخلية بالإفراج عن الموقوف أو المحكوم عليه أثناء تنفيذ العقوبة.
جهود السعودية الحثيثة في محاربة الإرهاب، قادت الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2011 إلى التوقيع على اتفاقية تأسيس «مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب» بين السعودية ومنظمة الأمم المتحدة، بمساهمة من المملكة بمبلغ عشرة ملايين دولار للتمويل في تأسيس المركز لتؤكد أن الإرهاب لا دين له ولا يمثل الدين أو المجتمع الذي ينتمي إليه الإرهابيون. وأن المملكة من أوائل الدول تصديا للإرهاب على مختلف الصعد محليا وإقليميا ودوليا قولا وعملا، فضلا عن أنه تأكيد على اهتمام المملكة بالمساهمة في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب كظاهرة خطيرة تتعارض مع جميع القيم والمبادئ الإنسانية والشرائع السماوية.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».