إرهاب في صورة مختلفة.. وربما أكثر خطورة

المثلث العملاق: امتداد جغرافي مقلق للقوى المرتبطة بتنظيم القاعدة

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم {داعش}
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم {داعش}
TT

إرهاب في صورة مختلفة.. وربما أكثر خطورة

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم {داعش}
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم {داعش}

يبدو أن حالة النكران التي كان من الواضح أنها تهيمن على تقييم معظم القادة الأميركيين والأوروبيين لوضع تنظيم القاعدة خلال السنوات الثلاث الماضية قد انتهت؛ فقد أشار اثنان من كبار المسؤولين بالاستخبارات الأميركية خلال الشهر الماضي بوضوح أمام الكونغرس إلى أن التنظيم يشهد تحولا جذريا حيث تتزايد الجماعات التابعة له ويوسع نفوذه على الساحة العالمية. وبالمثل، تحدث رئيس المخابرات البريطانية الخارجية (إم آي 6)، جون سويرز، إلى البرلمان البريطاني قائلا: «علينا التعامل مع بزوغ تنظيم القاعدة وإنشائه لأفرع جديدة في عدد من البلدان الجديدة»، مضيفا: «ليس هناك أدنى شك أن الخطر يتزايد».
مما لا شك فيه أن هذه التقييمات مختلفة تماما عن النبرة التي كنا نستمع إليها قبل سنة على كلا جانبي الأطلسي، فقد ظهر الخطاب الذي يروج إلى أفول نجم تنظيم القاعدة في العواصم الغربية في بداية عام 2011، حيث بثت الشهور الأولى لما يطلق عليه الربيع العربي الأمل في نفوس المراقبين الغربيين وهم يشهدون آلاف المتظاهرين في أنحاء العالم العربي يقاتلون من أجل الديمقراطية ولا يتبنون شعارات «القاعدة» أو مثلها. وكانوا يقولون إن رسالة «القاعدة» منيت أخيرا بالهزيمة، مؤكدين أن الديمقراطيات التي ستبزغ من رماد الأنظمة الطغيانية لمبارك وبن علي والقذافي سوف تدفع العرب والمسلمين بعيدا عن قيم ذلك التنظيم.
بالإضافة إلى أن مقتل أسامة بن لادن في مايو (أيار) 2011 عزز ذلك الخطاب الحالم، حيث نظر إلى الواقعة باعتبارها المسمار الأخير الذي جرى دقه في نعش «القاعدة». ووفقا لهذا الخطاب، لم يمن التنظيم فقط بالهزيمة على المستوى الآيديولوجي عبر خروج جماهير المسلمين إلى الميادين للمطالبة السلمية بالديمقراطية. ولكن التنظيم أصبح أيضا على المحك حيث لم يعد بإمكان قياداته تنفيذ أي هجمات مؤثرة، بل إنهم أصبحوا يختبئون لحماية أنفسهم. وبناء عليه فإن الحرب على الإرهاب (الذي أصبح ينظر إليه باعتباره مصطلحا بائدا وعتيق الطراز) يمكن أن يستبدل بها عمليات متفرقة محدودة النطاق تستهدف أفرادا أو جماعات محددة؛ فقد كان الغرب الذي رزح تحت وطأة عقد كامل من المواجهات العسكرية والسياسية تواقا لتقليل خطر إرهاب «القاعدة» إلى المستوى الذي كان عليه قبل الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) والذي كان يقتصر على كونه إزعاجا ومسألة تتعلق بإنفاذ القانون ليس لها سوى أهمية ثانوية. وتزعم أوباما، الذي كان دائما ما يعرب عن انتقاده الواضح لرد الفعل الأميركي المبالغ فيه في أعقاب هجمات 11-9 ويؤكد على رغبته في توجيه الاهتمام إلى الاقتصاد المحلي والأجندة الاجتماعية، ذلك الاتجاه. وبالمثل كان الأوروبيون الذين تأثروا على نحو أكبر بالأزمة المالية والتوترات الناجمة عن الحرب على الإرهاب داخل جالياتهم المسلمة، تواقين لتقليل أهمية القضية.
القوى المرتبطة بـتنظيم القاعدة
ومع ذلك، حذر الكثيرون، بداية من وكالات الاستخبارات الغربية وصولا إلى القيادات العربية، من ذلك التفكير الحالم، وأثبتت أحداث العام ونصف العام الماضي أنهم كانوا محقين في تلك التحذيرات. ومع ذلك، حاول المسؤولون الأميركيون تصوير حقيقة أن القوى المرتبطة بـ«القاعدة» تستحوذ على مساحات واسعة من الأراضي في الصحراء الكبرى واليمن باعتبارها نكسات مؤقتة للربيع العربي. كما حاولوا أيضا التقليل من شأن هجمات سبتمبر 2012 على القنصلية الأميركية في بنغازي التي أسفرت عن مقتل السفير ستيفنز باعتبارها أعمال شغب عفوية ضد فيلم مسيء للإسلام. ولكن تلك الحالة من النكران لم تعد قابلة للاستمرار في ظل الأخبار التي تتردد يوميا من جميع أنحاء العالم والتي تؤكد أن تنظيم القاعدة في حالة تعاف.
والحقيقة هي أن تنظيم القاعدة يشهد ازدهارا يمتد جغرافيًّا من السواحل الأطلسية لأفريقيا ويمتد إلى كبرى مدن باكستان بالإضافة إلى بعض المناطق المتفرقة في الغرب.
وربما تكون أكبر المكاسب التي حققها التنظيم تلك التي كانت في القارة الأفريقية، حيث تنشط الجماعات المرتبطة بـ«القاعدة» في المثلث العملاق الذي تحده من الشرق سيناء وتنزانيا، وتحده نيجيريا وموريتانيا من الغرب. فقد تمكنت الكثير من الجماعات الجهادية من توسيع نشاطاتها في تلك الحدود الواسعة والغامضة التي لا تحظى بحماية أمنية، مستفيدة من الاضطرابات السياسية والفقر والموارد المحدودة للحكومات التي تهددها. ورغم هزيمتها على يد الجيش الفرنسي في مالي، ما زال تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وفروعه يجوب أنحاء الصحراء الأفريقية محققا المكاسب من الكثير من الأنشطة غير القانونية، ومدد الأسلحة الليبية الذي سهل الحصول عليه بعد سقوط القذافي. وقد أظهر هجوم يناير (كانون الثاني) 2013 على مجمع البترول بأميناس بوضوح أنه حتى أقوى الدول بالمنطقة، وهي الجزائر، يمكنها أن تتعرض لضربات حادة من التنظيم. وبالمثل، كانت الحكومة التونسية تخوض معركة شرسة ضد الميليشيات الجهادية العاملة في الجبال.
وبالاتجاه شرقا، نجد الكثير من الميليشيات الجهادية التي تمارس نفوذا قويا في جميع أنحاء ليبيا خاصة في منطقة «درنة» وتمثل خطرا جديا على الحكومة الوطنية الهشة. وتشير التطورات الأخيرة إلى أن الجماعات الجهادية تعزز أنشطتها في مصر، حيث لم تعد تهاجم فقط المنشآت الحكومية، ولكن أنشطتها امتدت إلى السائحين في إعادة إنتاج للآليات الكارثية التي كانت تمارسها في التسعينات من القرن الماضي. وفي أفريقيا جنوب الصحراء، تمثل آليات التنظيم القدر نفسه من الخطر. فرغم أن حركة الشباب لم تعد تسيطر على مقديشو وقطاعات واسعة من البلاد فإنها ما زالت قادرة على أن تمثل خطرا محدقا سواء داخل الصومال وفي الدول المجاورة (كما حدث في هجوم سبتمبر 2013 على المركز التجاري «وستجيت» بنيروبي). وفي نيجيريا، يبدو أن السلطات غير قادرة على السيطرة على «بوكو حرام» وعمليات القتل الواسعة التي تمارسها ضد المدنيين المسلمين والمسيحيين.

* «القاعدة القديمة»

* وليس من الصواب أن ننظر إلى كل هذه الجماعات باعتبارها تابعة لتنظيم القاعدة، حيث إن درجة ولاء تلك الجماعات للتنظيم الذي يقوده حاليا أيمن الظواهري تتفاوت إلى حد كبير، كما أن لكل منها أجندتها المحلية التي تعتمد على تكتيكات مختلفة. ولكن في الوقت نفسه، تتعاون تلك الجماعات من وقت لآخر بعضها مع بعض كما تتبنى جميعها آيديولوجيا التنظيم ورؤيته العالمية. ويبدو أن عدم القدرة على استيعاب هذه الفكرة الأخيرة هو ما دفع الكثيرين في الغرب إلى تبني الرؤية المتفائلة المتعلقة بأفول تنظيم القاعدة.
وبالفعل، وكما كان أوباما يكرر بحماس لسنوات طويلة، فإن تنظيم القاعدة في حالة تراجع. ولكن ذلك صحيح فقط فيما يتعلق بـ«القاعدة القديمة»؛ تلك الجماعة المنظمة التي نفذت عمليات 11-9 والتي تعرضت لأزمة كبرى إثر عدد لا يحصى من عمليات القوات الخاصة وهجمات الدرون في أفغانستان وباكستان. ولكن سيكون من الحمق أن نتجاهل حقيقة أن «القاعدة الجديدة» هي لغم غير مركزي من الجماعات الحرة التي تتبنى آيديولوجيا «القاعدة» وترى نفسها جزءا من الحركة العالمية التي يبدو أيضا أن الظواهري لا يملك سوى قدر محدود من السيطرة عليها. وفي هذا السياق يمكننا القول إن تنظيم القاعدة في طريقه إلى الأفول، ولكن «القاعدية» في طريقها للازدهار.
ورغم أن البعض يرى أن انعدام القيادة المركزية هو أحد دلالات ضعف التنظيم، يبدو أن الجهاديين لا ينظرون للأمر على النحو نفسه؛ ففي عام 2000، قال أبو مصعب السوري، الذي يعد أحد أهم المنظرين للحركة الجهادية خلال السنوات العشرين الماضية، إن تنظيم القاعدة ينظر إليه ككيان مؤقت، حيث إن وجوده مؤقت بغرض خلق المزيد من الجماعات الجهادية المستقلة في جميع أنحاء العالم، مضيفا: «القاعدة ليس تنظيما، وليست جماعة، ونحن لا نريدها كذلك. القاعدة دعوة ومرجع ومنهج».
وعلى نحو ما، جرى تحقيق ذلك الهدف؛ حيث إن كل جماعة تعمل تحت مظلة «القاعدة» تتحرك محليا وتفكر عالميا وتركز معظم قواها على قتال الأعداء المحليين، ولكنها في الوقت نفسه تشن هجمات على المصالح الغربية وتتبنى فكرة إنشاء الدولة الإسلامية العالمية.
ويبدو أن تأسيس الدولة، على الأقل على المستوى المحلي، هو هدف كل الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة. وفعليا، أشار الظواهري في كتابه الصادر في عام 2011 تحت عنوان «فرسان تحت راية النبي» إلى تأسيس الدولة باعتباره أكثر الأهداف الاستراتيجية أهمية بالنسبة لتنظيم القاعدة. وخلال السنوات القليلة الماضية في الصومال وشمال مالي، وفي مقاطعة أبين اليمنية، كلما سنحت فرصة نتيجة الفراغ السياسي، استحوذت الجماعات الجهادية على بعض المناطق وأعلنت على الفور تشكيل إمارة بها.
ولتحقيق ذلك الهدف، تحولت الكثير من الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة من كونها جماعات إرهابية تعمل عبر خلايا صغيرة تختبئ في الكهوف أو في المباني السكنية إلى قوات منظمة شبه عسكرية تشارك في التمرد. واليوم، وبفضل عملية التحول تلك وضعف القوى التي تواجهها، تمكنت القوات الجهادية من السيطرة على مساحات من الأراضي أكثر مما حدث في أي وقت سابق.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن كل تلك الجماعات ترتكب الخطأ نفسه، ففور تمكنها من السيطرة على مساحة من الأراضي، سرعان ما تفقد تلك الجماعات الدعم الذي كانت تحظى به في البداية من السكان المحليين نظرا لفرضها تطبيق تفسيرها المتشدد من الشريعة بالقبضة الحديدية. وكان ذلك الخطأ، الذي جعل تنظيم القاعدة يفقد دعم القبائل السنية في الأنبار في 2006، يتكرر مرارا وتكرارا. وكان آخر تكرار لذلك الخطأ هو ما حدث في شمال سوريا حيث أدت الأساليب الوحشية التي اتبعتها «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ليس فقط إلى إثارة غضب الشعب السوري لها، بل حتى الجماعات الأخرى التابعة لتنظيم القاعدة مثل جبهة النصرة والظواهري نفسه.

* أخطاء الماضي

* ومن جهة أخرى، أثبت التاريخ أن الحركات الجهادية العالمية قادرة على التكيف والوعي بأخطاء الماضي؛ فقد كشفت الوثائق التي كشف عنها بعد سقوط مدينة تمبكتو المالية العام الماضي عن أن قيادة تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي كانت تجري تحليلا استراتيجيا نقديا للأخطاء التي ارتكبتها في محاولتها تأسيس دولة في مالي؛ حيث كتب زعيم التنظيم أبو مصعب عبد الودود حول الدولة الإسلامية: «إن الطفل الحالي ما زال في الأيام الأولى يحبو ولم يقف بعد على قدميه. فإذا ما أردنا لذلك المولود أن يقف على قدميه في هذا العالم الذي يعج بالأعداء الذين يتحينون فرصة للقضاء عليه يجب أن نخفف أعباءه ونأخذ بيديه ونساعده وندعمه حتى يتمكن من الوقوف». ثم سرعان ما تبنت الجماعة توجها أكثر حنكة فيما يتعلق بالحوكمة والشريعة. وبالمثل، فإن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية كان يحاول منذ زمن بعيد تأسيس علاقات طيبة مع الكثير من القبائل اليمنية خاصة عبر الزواج. وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي وفي محاولة واضحة لتحسين صورتها بعد الكثير من الزلات، أعلنت الجماعة عن اعتذارها الرسمي عن مقتل المدنيين في الهجوم الذي شنته على المستشفى الملحق بوزارة الدفاع اليمنية.
لقد أقر الغرب أخيرا بأن تلك التطورات تعني أن تنظيم القاعدة لم ينهزم سواء على المستوى الآيديولوجي أو العملياتي، بل إنه غير شكله فقط إلى صورة مختلفة وربما أكثر خطورة. وأصبح من الواضح أن بعض الحركات التابعة للتنظيم تمثل خطرا وجوديا لمصالح الغرب وبعض حلفائه الرئيسين في العالم الإسلامي. كما أصبح من الواضح أن الأمن القومي للغرب ما زال معرضا للخطر، سواء خطر الأفراد الذين لا تربطهم صلة عملياتية بالجماعات التابعة لـ«القاعدة» ولكنهم يتبنون آيديولوجيتها (كما يتضح من حالة الإخوة تسارنييف المسؤولين عن العمليات التفجيرية بماراثون بوسطن) أو من الأفراد الذين يعودون للغرب بعد القتال إلى جانب الجماعات الجهادية (وهو ما يمكن أن يحدث بالنسبة لنحو ألفي أوروبي يقاتلون حاليا في سوريا).
ولن تتحسن قدرة الغرب على التقييم الصحيح لوضع تنظيم القاعدة إلا إذا قلل من الاهتمام الذي يوليه لتكتيكات الجماعة وركز على المناحي الآيديولوجية للحركة. وكما قال السوري، فإن جوهر «القاعدة» لا يعتمد على الأسلحة والتكتيكات العسكرية ولكنه يعتمد على الآيديولوجيا. وكما قال مايك روجرز، رئيس لجنة الاستخبارات الأميركية بمجلس النواب الأميركي والمنتقد الشرس لمقاربة إدارة أوباما تجاه الإرهاب، «فإن هزيمة الآيديولوجيا تتطلب ما هو أكثر من الهجمات بالدرون».

* باحث وكاتب إيطالي، خبير أكاديمي وأمني متخصص في الإسلام والعنف السياسي في أوروبا
وشمال أميرك



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.