أميركا وجماعة «الإخوان المسلمين»

بعدما صنفتهم مصر تنظيما إرهابيا.. هل تفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه؟

أميركا وجماعة «الإخوان المسلمين»
TT

أميركا وجماعة «الإخوان المسلمين»

أميركا وجماعة «الإخوان المسلمين»

أعلنت الحكومة المصرية الانتقالية رسميا جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية في 25 ديسمبر (كانون الأول) 2013. وجاء القرار الذي مثل صدمة بالنسبة لمعظم مراقبي الشأن المصري، بعد أيام قليلة من عملية انتحارية نفذتها جماعة تطلق على نفسها اسم «أنصار بيت المقدس» – يعتقد أنها ذات صلات بالمسلحين الفلسطينيين في غزة - ضد مقر للشرطة بمنطقة الدلتا. وعلى الرغم من عدم وجود صلة بين الجماعتين، جاءت تلك العملية كالقشة التي قسمت ظهر البعير في أعقاب أشهر من الغضب الشعبي وحنق النظام ضد جماعة الإخوان نظرا للقيام بأعمال عنف والحث عليها.
منذ أن خلع الجيش المصري الرئيس السابق، عضو جماعة الإخوان، محمد مرسي، كانت البلاد ترزح تحت وطأة العنف والصراع الطائفي والاضطرابات. وكان الخطاب السائد والناجم عن ذلك المزيج الخطر – وإن كان هذا الخطاب نسجته بعناية أعلى نخبة بالجيش – هو خطاب الحرب على الإرهاب. وفي إطار هذا الخطاب، أصبحت جماعة الإخوان المسلمين العدو الأول للشعب، خاصة وأن النظام سلط الضوء على التصريحات التي أطلقها أعضاء بجماعة الإخوان في أعقاب الانقلاب تعهدوا فيها بالاستشهاد دفاعا عن قضيتهم.

* استعادة الوضع الأميركي في مصر
* تجد الولايات المتحدة الآن نفسها في موقف ملتبس حيث يجب عليها السير بحذر وسط أرض تعج بالألغام الأرضية. وعلى الرغم من هذا الخطر، تحاول أميركا مرة أخرى أن تستعيد وضعها في مصر؛ وذلك حيث إن العلاقات الثنائية التي كانت من قبل تمثل حجر الأساس في بنية التحالف الأميركي في المنطقة كانت قد بدأت تشهد تراجعا سريعا بعدما أنتج ميدان التحرير ثورة 25 يناير (كانون الثاني). فعلى الرغم من أن الدعم الأميركي لمصر كان قد صمد أمام العديد من التغيرات في السنوات السابقة، فإنه لم يخرج منها دون أضرار، إذ ساهمت العديد من العوامل في تراجع العلاقات الأميركية - المصرية؛ يتداعى اثنان منها على وجه الخصوص إلى الأذهان حاليا. أولا، طبيعة السياسة الخارجية الأميركية تجاه مصر والمعتمدة على رد الفعل والتي كان العديد منا يرى أنها تأتي متأخرة باستمرار خطوتين عن تطور الأحداث على الأرض كما أنها لم تكن تتوافق دائما مع لب المصالح الأميركية وهو ما ساعد على احتقان العلاقات. وثانيا، تعرض ذلك التحالف للاضطرابات إثر تغير الأوضاع السريع في مصر، فبعدما كان مبارك في القمة هبط منها في غمضة عين، وبعدما كانت جماعة الإخوان المسلمين تحظى بأغلبية أصوات الناخبين؛ حيث حصلت على 51.7 في المائة من الأصوات في صندوق الاقتراع، اتهمت في اليوم التالي بأنها تحاول بناء ديكتاتورية إسلامية جديدة. وقد دفعت هذه التغيرات الرئيسة في القيادة الولايات المتحدة للتساؤل عما إذا كان التحالف مع مصر يمكن إنقاذه أم لا وما تكلفة إنقاذه.
وفي هذا السياق، يجب علينا فحص السؤال بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تؤيد قرار الحكومة المصرية بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية، والأهم من ذلك: هل تحذو حذوها. بغض النظر عن انعدام الثقة المتبادل بين الحلفاء، يجب أن نأخذ في اعتبارنا المشهد الحالي في المنطقة، وذلك حيث إن انتباه الولايات المتحدة كان مشتتا في العديد من القضايا؛ تحديدا إيران وسوريا والمشروع التاريخي لوزير الخارجية الأميركي جون كيري – مفاوضات السلام الإسرائيلية الفلسطينية - مما جعلها تبدو أكثر انشغالا من أن تولي اهتماما لمصر ناهيك عن أن تتخذ موقفا واضحا بشأن قرارها بتصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية. كما أن هناك دليلا على أن تقديم الولايات المتحدة الدعم لهذا القرار في هذه اللحظة لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة في هذه المرحلة وهو ما سأشرحه لاحقا.
على أية حال، لم يمض قرار الحكومة المصرية بتصنيف الجماعة كجماعة إرهابية تماما دون أن يلفت الأنظار في واشنطن. ومع ذلك، فإن التصريح الرسمي الوحيد حول ذلك القرار جاء من المتحدثة باسم الخارجية الأميركية التي قرأت بعناية تصريحا معدا مسبقا يتمحور حول تداعيات مثل تلك الخطوة على الحريات التي يكفلها القانون للأميركيين وليس للمصريين، فيقول التصريح:
«نحن قلقون بشأن تصنيف الحكومة المصرية الانتقالية في 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي لجماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية، بالإضافة إلى استمرار حملات اعتقال واحتجاز المتظاهرين السلميين ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء السياسيين. وما زلنا قلقين بعمق بشأن الاعتقالات والاحتجازات والاتهامات بدوافع سياسية في مصر. وكما قلنا، تثير هذه الأفعال التساؤلات حول تطبيق القانون بعدالة ودون انحياز، كما أنها لن تمضي قدما بالعملية الانتقالية».
وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يدل بأية تصريحات حول تلك القضية حتى الآن، أعرب وزير الخارجية جون كيري عن مخاوفه في مكالمة هاتفية مع نظيره المصري، وزير الخارجية نبيل فهمي قبل ذلك بأربعة أيام. وكان لهذه المكالمة هدفان: التعبير عن عزاء كيري الصادق للحكومة المصرية وأسر ضحايا الهجوم الإرهابي الذي استهدف مديرية أمن الدقهلية في المنصورة وللتأكيد على حاجة مصر إلى إقامة عملية سلام شاملة تحترم حقوق الإنسان الأساسية وتضمنها لكافة المواطنين، بالإضافة إلى الحاجة لتحقيق الاستقرار السياسي والتغير الديمقراطي.
وبالمثل، اتصل وزير الدفاع تشاك هيغل بوزير الدفاع المصري، عبد الفتاح السيسي قبل يوم من تصريح وزارة الخارجية، مقدما تعازيه ومناقشا ما وصفه وزير الدفاع بـ«التوازن بين الأمن والحرية». ولهذه المحادثة أهمية خاصة أخذا في الاعتبار أن قدرا كبيرا من العلاقات الثنائية بين البلدين كان يعتمد على هذين الرجلين وليس على الفرق الدبلوماسية التي أوكلتها الدولتان لهذه المهمة. ومع ذلك، لم يقم أي من كيري أو هيغل بذم أو امتداح ذلك التصنيف. ويبدو أن عدم وجود رد فعل رسمي يعكس إلى حد ما رغبة في التقليل من شأن القضية.

* الولايات المتحدة اختارت عدم الانحياز

* وفي الحقيقة، حدد أوباما هذا المسار بنفسه قبل عدة شهور أثناء الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما قال مباشرة إنه يعتزم عدم الانحياز لأحد الأطراف، مؤكدا أن كلا من الرئيس المعزول محمد مرسي والحكومة الانتقالية يحكمان بأسلوب قمعي ولا يتضمن كافة الأطياف، مضيفا: «لقد اختارت الولايات المتحدة عدم الانحياز لأي من الأطراف»، مؤكدا أن أميركا سوف تتوقف عن لعب دور الوسيط في السياسات الداخلية المصرية لكي تتمكن من تحقيق أهداف أكثر تحديدا».
وأكد أوباما أن الولايات المتحدة: «سوف تستمر في مضيها قدما في الحفاظ على علاقات بناءة مع الحكومة الانتقالية فيما تدعم المصالح الرئيسة مثل اتفاقيات كامب ديفيد ومكافحة الإرهاب». كما قدم أوباما تفسيرا إضافيا لهذا التصريح قائلا: «سوف تعمل الولايات المتحدة في بعض الأحيان مع حكومات لا تلبي، على الأقل من وجهة نظرنا، أعلى المعايير الدولية، ولكنها تعمل معنا في مضمار مصالحنا الجوهرية ولكننا في الوقت نفسه لن نكف عن التأكيد على المبادئ التي تتفق مع المثل التي نؤمن بها سواء كان ذلك يعني معارضة استخدام العنف كوسيلة لقمع المعارضة أو دعم المبادئ المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان».
وباختصار، أوضح الرئيس أنه على الرغم من أنه والشعب الأميركي يتمنيان الديمقراطية والحرية للشعب المصري فإن المصالح الرئيسة مثل الوصول إلى قناة السويس والتعاون بشأن مكافحة الإرهاب والحفاظ على اتفاقيات كامب ديفيد هي الخط العام للسياسة الأميركية.

* التصنيف أو عدم التصنيف
* تساءل كثير في مصر والولايات المتحدة عما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تدعم قرار مصر بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، وهل ستتخذ الولايات المتحدة نفسها خطوة مماثلة؟ وربما يرى البعض في العالم العربي التردد الأميركي في تصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية كدليل على تأييدها الضمني للجماعة مستدعيا إلى الأذهان خطاب أوباما في القاهرة في 2009.
ومن جهة أخرى، هناك آخرون من ذوي الميول الإسلامية الذين يقولون إن قيادات الجيش المصري لا يمكنها توجيه مثل تلك الضربة للجماعة إلا بمباركة صريحة من واشنطن. ويقر أوباما بهذه الاتهامات المستمرة والمتناقضة في الخطاب الذي ألقاه بالأمم المتحدة قائلا: «لقد تعرضت أميركا للهجوم من قبل كافة أطراف النزاع الداخلي، حيث اتهمت في الوقت نفسه بدعم الإخوان المسلمين وبتدبير إبعادهم عن السلطة». ومع ذلك، فإن الحقيقة أبسط من هذه الخيالات الجامحة.
ويصف هذه الحقيقة البسيطة كل من دانيال بينجامين الذي عمل كخبير في مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأميركية في الفترة من 2009 إلى 2012 وستيفن سيمون المسؤول عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الفترة 2011 - 2012 باختصار في مقالهما الذي نشر بصحيفة «نيويورك تايمز» حيث يقولان: «لقد راقب القادة الأميركيون والأوروبيون عملية القمع بقدر من الانفصال نظرا لأنهم ليست لديهم أدوات للتأثير على قرار الجيش بالإضافة إلى أن النزاع يبدو نزاعا داخليا».
ويحتاج هذا المنطق الأخير الذي جاء أيضا في تصريح أوباما (لقد اختارت الولايات المتحدة تجنب الانحياز لأحد الأطراف)، بعض التفسير، فمما لا شك فيه أن كافة الدول تتمتع بالاستقلال، وباستثناء حالات خاصة محددة عادة ما تتعامل تلك الدول مع العنف المتفشي لديها والاضطرابات كما ترى هي. وعلى الرغم من أن أميركا كانت واضحة تماما عندما ارتأت السياسات المصرية كارثية ولكن التوبيخ اللفظي لم يكن من الممكن أن يعمل في النهاية كرادع حقيقي للسلوكيات المصرية. وعلى نفس المنوال، فإن الولايات المتحدة لا تفترض أنها إذا صنفت مجموعة محددة كجماعة إرهابية، فإنه يصبح على جميع حلفائها أن يحذوا حذوها أو حتى يوافقوا على القرار. فقد لجأت الحكومة الانتقالية المصرية لهذا الإجراء للحد من تهديد ما وإقصاء منافس، مما يجعل القضية قضية داخلية تماما.

* أدوات محدودة للتأثير على الجيش المصري
* ومن جهة أخرى، يحتاج العامل الأول من بين العاملين (عدم وجود نفوذ للتأثير على الجيش المصري) إلى الكثير من الشرح. كيف حدث ذلك، كيف تراجع التحالف بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية مصر العربية إلى الحد الذي يجعل الولايات المتحدة لا تمتلك سوى أدوات محدودة للتأثير على الجيش؟ هناك ثلاثة أسباب رئيسة: نظرية المؤامرة، وسياسة رد الفعل، والمال.
لقد تراجعت الثقة بين الزعماء المصريين والأميركيين بسبب الشكوك بشأن مشاركة الولايات المتحدة في وضع جماعة الإخوان على رأس السلطة في مصر والاستمرار في تأييدها حتى اليوم. وهذا غير صحيح ببساطة ولا يحتاج أن نهدر الوقت في محاولة تفنيده.
أما عن سياسة رد الفعل، فعلى الرغم من أنها جرى ذكرها من قبل فإنني سوف أشرحها بالتفصيل هنا. ففي إطار محاولاتها للبقاء وفية لحليفها الدائم – في إشارة إلى مصر ولكن إذا أردنا الوصول إلى حقائق الأمور فإن المقصود هو الجيش المصري - أعطت الولايات المتحدة انطباعا بأنها متغيرة ولا يمكن الوثوق بها. فسرعان ما تحول الدعم الأميركي طويل المدى لمبارك إلى دعم لمن خلعه بعد عدة أيام من اندلاع الثورة. وعلى الرغم من أن الدعم الأميركي اللاحق للمجلس الأعلى للقوات المسلحة والانتقال للحكم المدني كان مفهوما، فإنه لم يدم طويلا. وبعدها جاء التأييد الأميركي للانتخابات المصرية الذي تحول على نحو مثير للسخرية إلى تأييد مزعج لمرشح الإخوان المنتخب، محمد مرسي. وسرعان ما تراجعت تلك الحقيقة الجديدة أمام التأييد الأميركي الضمني لخلعه في أعقاب المطالب الشعبية بذلك. وجاءت نهاية ذلك الدعم الذي بدا لا نهائيا للعبة الكراسي الموسيقية المصرية في صورة التأييد الأميركي لسيطرة وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي على الأمور وإعادة تنظيمها. ولكن الولايات المتحدة اضطرت في النهاية أن تتخذ موقفا عندما استخدمت قوات الأمن وسائل عنيفة لإعادة فرض الأمن. ودفعت درجة العنف وإراقة الدماء الطائفية العديدين في الولايات المتحدة للتوقف والتساؤل حول ما إذا كان خلع مرسي يمثل انقلابا وهو ما يوجب على الولايات المتحدة قانونا أن تقطع المساعدات المقدمة لمصر أم لا.
وقد خيب هذا النوع المستمر من الدعم الأميركي أمل العديدين في الولايات المتحدة تجاه مصر برمتها، وتصاعدت أصوات الدعوات المطالبة بسحب المساعدات الأميركية التي تقدم إلى البلاد المتعثرة. وعلى الصعيد المصري، بدأت أزمة الثقة العميقة تظهر داخل كافة المعسكرات المتصارعة بالاعتماد على فكرة بسيطة وهي إذا ما كان الأميركيون «يدعمونهم» فكيف يمكن أن «يدعمونا». ولم تعمل بعض الانتقادات الخليجية المتعلقة بأن أميركا تخلت عن مبارك بسرعة فائقة ونظريات المؤامرة حول التحالف الأميركي مع الإخوان إلا على تصعيد الأزمة. وفي الوقت نفسه، ما زال الأكاديميون وصناع السياسة في واشنطن ينتقدون إدارة أوباما لافتقارها أي نوع من السياسة الرسمية تجاه مصر ويدعون الإدارة إلى سرعة وضع سياسة متماسكة ومنطقية تجاهها.
ويتعلق السبب الأخير لتراجع النفوذ الأميركي في مصر بالمال أو على نحو أكثر تحديدا بتعليق صفقة المساعدات الأميركية وبصفقة المساعدات الخليجية (الأكبر حجما والمجانية). فكنتيجة لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية 1979، بدأت الولايات المتحدة تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية سنوية تقدر بمليارات الدولارات إلى مصر.
هذا بالإضافة إلى التدريب والتبادل العسكري، الذي مثل عصب العلاقة الأميركية - المصرية التي استمرت لثلاثة عقود. ومع الوقت، أصبح ينظر إلى تلك الأموال ليس كمدفوعات للحفاظ على اتفاقية كامب ديفيد فقط ولكن كذلك للحفاظ على عدد من القضايا المشتركة الأخرى. ومنذ سقوط مبارك، دعا بعض المصريين إلى رفض «الرشوة الأميركية». وبالمثل، دفع خلع محمد مرسي العديد من أعضاء الكونغرس الغاضبين إلى الإصرار على تعليق المساعدات الأميركية تطبيقا للقانون الأميركي. وفي النهاية، نجح الكونغرس في تحقيق مراده وقلصت الولايات المتحدة جزءا من صفقة المساعدات المقدمة لمصر والتي تصل إلى 1.55 مليار دولار أميركي في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 ضمن عدد من الإجراءات العقابية الأخرى.
وقد كان لهذه الخطوة تأثير تنبأ به العديدون بمن فيهم أنا شخصيا؛ فلم يسفر فقط القرار عن زيادة التوتر في العلاقات بين الإدارة الأميركية والنظام العسكري المصري، ولكنه جاء أيضا متأخرا مما جعله يفتقر إلى الأثر المرجو منه وهو تحجيم الحملة القمعية التي يشنها النظام ضد جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من عناصر المعارضة في البلاد. ومن جهة أخرى، تعهدت المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت بمساعدة مصر ماليا بعد الموقف الأميركي بما يقدر بنحو 12 مليار دولار، وهي الصفقة التي قزمت من الصفقة الأميركية، كما أنها تأتي دون أية شروط وجعلت زعماء الخليج يحصلون على انتباه الجيش المصري، وأصبحت الولايات المتحدة تقف في الصف انتظارا لدورها في لفت الانتباه. والأهم من ذلك هو أنه لم يكن العرب فقط هم من رحبوا بملء الفراغ الذي خلفته أميركا، بل بدأت روسيا أخيرا التفاوض على أكبر صفقة سلاح مع مصر منذ الحرب الباردة. وعلى الرغم من أن قدرة مصر على سداد كلفة مثل تلك الصفقة الضخمة محل تساؤل ومن ثم فربما لا تتم الصفقة من الأساس، فإن ذلك التطور يعكس أن الولايات المتحدة لا تحتفظ بنفس القدر من النفوذ الذي كانت تمتلكه في الأيام الأولى من عام 2011.
وقد بدأت بالفعل تداعيات تراجع الدور الأميركي في الظهور. فعلى سبيل المثال، قبل فترة وجيزة من تصنيفها كجماعة إرهابية، رفضت النخبة الحاكمة في مصر اختيار وزير الخارجية الأميركي للسفير الأميركي في مصر (روبرت فورد) الذي كان يعمل حتى وقت قريب سفيرا أميركيا في سوريا دون أن يقيم بها. ومن الواضح، أن النظام العسكري المصري رفض ترشح فورد نظرا لدعمه للمظاهرات المناهضة للأسد في الأيام الأولى للانتفاضة السورية (قبل أن يهيمن عليها الإسلاميون) واستعداده لاحقا للتفاوض مع المسلحين الإسلاميين في سوريا. ومن الواضح أن تأييد خلع نظام عسكري ودعم العديد من الإسلاميين في العديد من أنحاء المنطقة كان يعد خطا أحمر في المنطقة في تلك اللحظة. وما زال المنصب خاويا حتى هذه اللحظة نظرا للسحب المفاجئ للسفيرة الأميركية السابقة إلى مصر آن باترسون في أعقاب المزاعم المتعلقة بعلاقتها الوثيقة بمرسي وجماعة الإخوان بعد استيلاء الجيش المصري على السلطة.
ويأتي خلو المنصب في الوقت الذي يحتاج فيه كلا البلدين لاستخدام وسيط ماهر للمساعدة على إعادة العلاقات لمسارها الصحيح. وتفسر ميشيل دون، الباحثة بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي والعضو المؤسس لفريق عمل بشأن مصر – مبادرة غير حزبية تتضمن أكثر من عشرة من الأكاديميين والخبراء في الشأن المصري والسياسة الخارجية الأميركية - ذلك بأن منصب السفير يأتي كأحد أعراض الافتقار إلى الجدية في البيت الأبيض بشأن السياسة الخارجية. فعلى الرغم من أن معظم الاتصالات بين البلدين كانت تجري مباشرة بين هيغل والسيسي، فمن الحماقة ألا يكون هناك سفير أميركي في مصر.
وفي ضوء العوامل التي ذكرت مسبقا والتي تحد من القدرة الأميركية على دفع التغيير في مصر، ليست هناك خيارات جيدة أمام الولايات المتحدة حاليا. ويشير دانييل بينجامين وستيفن سيمون إلى أن الولايات المتحدة تواجه حاليا احتمالية أن تخسر المزيد من النفوذ. حيث يقولان إن «الولايات المتحدة سوف تصبح في وضع يماثل ما كانت عليه أيام حكم مبارك الذي امتد لثلاثة عقود حيث تتعاون من كثب على مكافحة الإرهاب فيما تحاول الضغط من أجل الحريات».

* مواجهة العدو المشترك أم تحويله إلى راديكالي
* ومع ذلك فهناك أصوات ترغب في أن تقف الولايات المتحدة «إلى جانب مصر» وتعلن جماعة الإخوان جماعة إرهابية، سواء لأنهم يؤمنون بأنها كذلك أو كوسيلة لإصلاح العلاقات الثنائية، بالإضافة إلى وجود حملات شنها أناس عاديون قد قدمت التماسا للرئيس أوباما أن يصنف الإخوان كمنظمة إرهابية أجنبية. وقد حصل أحد تلك الالتماسات على أكثر من 200 ألف توقيع رغم أن البيت الأبيض لم يرد رسميا على هذا الالتماس حتى الآن.
وعلى الرغم من أنه من المستبعد أن يجبر مثل هذا الالتماس الإدارة الأميركية على اتخاذ قرار، فهناك مناصرون أقوياء لتصنيف الجماعة كجماعة إرهابية أجنبية في واشنطن وسوف يبذلون مساعي من أجل ذلك.
ومن جهة أخرى، هناك بعض النواب الجمهوريين مثل ستيفن كينغ ولوي جوهميرت وميشال باكمان الذين أعربوا بوضوح عن دعمهم للجيش المصري وإدانتهم لجماعة الإخوان المسلمين. ففي زيارة إلى مصر في سبتمبر (أيلول) الماضي، أدلى الثلاثة بالعديد من التصريحات المثيرة للجدل والمؤيدة لمقاربة الجيش العنيفة تجاه الإخوان معربين عن إيمانهم بوجود عدو مشترك وهو الإرهابيون الذين ظهروا مؤخرا على هيئة الإخوان المسلمين. وبالنسبة لباكمان فالأمر أبسط من ذلك: «ليس لدينا خيار. فيجب هزيمتهم».
ومن ثم لا يصبح مفاجئا أن تكتب باكمان قبل أيام من تصنيف مصر للجماعة مقالا في صحيفة مصرية يومية مؤيدة للقرار المتوقع. ففي المقال كتبت باكمان: «إذا ما كان قرار الحكومة الانتقالية المصرية أن تصنف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية فيجب أن تحذو الولايات المتحدة حذوها. مضيفة أن القرار يعد ذا ضرورة قصوى وينبع من تاريخ الجماعة الطويل من الإرهاب الذي جرى تجاهله لمدة طويلة».
على أية حال، هناك ثلاث قضايا رئيسة تمنع الولايات المتحدة من الانضمام لمصر في حملتها ضد جماعة الإخوان المسلمين. أولا أن مصر لم تتخذ أي إجراء رسمي أو قانوني تجاه هذا التصنيف حيث إن هذا الإعلان لم يتجاوز الإدانة اللفظية. وثانيا، سيكون اتباع الولايات المتحدة لموقف مصر موقفا متسرعا، خاصة وأن مصر كانت تشهد تغيرات سريعة خلال الفترة الماضية. وثالثا، أظهر نظام الجيش في مصر بوضوح منذ يوليو (تموز) الماضي أن أفعاله ليست أقل عنفا من تلك التي تقترفها جماعة الإخوان المسلمين. فخلال الأشهر السبعة الماضية، قتل النظام ما يزيد على 1100 شخص وسجن الآلاف لمدة لا يعرف أحد مداها وفقا للمحامين الذين يطالبون المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق.
وفي الحقيقة، أصبح الوضع في مصر أقل استقرارا الآن مما كان عليه في يوليو نظرا للتفجيرات اليومية والاقتصاد المتعثر. ويقول بعض المحللين إن الولايات المتحدة سوف تخاطر إذا ما ألقت بثقلها على قيادة لم تثبت حتى الآن أنها باقية في السلطة. بالإضافة إلى أن العديدين في واشنطن قلقون بشأن احتمالية أن يخلق سلوك الجيش إرهابيين بدلا من أن يحاربهم.
ويحذر كل من دانييل بينجامين وستيفن سيمون من أن هذا المنحى ضد الإخوان «ربما يتضح لاحقا أنه كان خطأ فادحا وهو الدرس المستفاد من التاريخ: حيث دائما كان مزيج القمع والإقصاء السياسي يدفع إلى نشأة الجماعات الراديكالية». ويضيف الباحثان أن «الحرب ضد الإخوان سوف تجعل العنف هو الخيار العقلاني الوحيد أمام من لم ينخرطوا بالفعل فيه».
ويضيف إريك تريغر، زميل إيثر واغنر بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى وصوت مؤثر في السياسة الأميركية تجاه جماعة الإخوان أنه في ظل حملة الاعتقالات وحل الجماعة وتصنيفها جماعة إرهابية «وهي الجماعة التي تعد أكثر الجماعات الإسلامية تماسكا في مصر.. حول الجنرالات مئات الآلاف من جماعة الإخوان المسلمين إلى راديكاليين لن يصغوا بعد ذلك إلى قياداتهم الأكثر حذرا».
وإذا ما أعدت قراءة تصريحات كيري وهيغل الحذرة في ظل تلك الخلفية سوف تبدو أكثر منطقية. وفى المحصلة، بدلا من أن تهدر الأصوات العاقلة في واشنطن طاقتها في الجدل بشأن ما إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية أم لا، فإنها يجب أن تضغط للتنمية على المستوى البعيد ووضع سياسة أميركية مستدامة صوب مصر. ولتحقيق مثل تلك السياسة، سوف يحتاج البيت الأبيض لأن يولي اهتماما بصديقه السابق على الرغم من ضغط الآخرين سواء في الداخل أو الخارج؛ حيث تقتضي المصالح الأميركية الرئيسة في المنطقة ذلك. وكما يقول ميشال دون: «إذا ما كانت الولايات المتحدة ترغب في أن تصبح مصر شريكا أمنيا مستقرا وشريكا مستقرا في عملية السلام فيجب أن تهتم بما يحدث حاليا في مصر».
* مديرة برنامج الشرق الأوسط في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.