أوليفييه روا: المشكلة هي «أسلمة» الراديكالية.. لا راديكالية الإسلام

قدم عالم السياسة أطروحته حول الشباب العدمي والإرهاب في فرنسا بالتشكيك في وجهة نظر الرئيس

فرنسي أثناء تقديمه باقة ورود لضحايا العمليات الإرهابية في باريس الشهر الماضي (أ. ب)
فرنسي أثناء تقديمه باقة ورود لضحايا العمليات الإرهابية في باريس الشهر الماضي (أ. ب)
TT

أوليفييه روا: المشكلة هي «أسلمة» الراديكالية.. لا راديكالية الإسلام

فرنسي أثناء تقديمه باقة ورود لضحايا العمليات الإرهابية في باريس الشهر الماضي (أ. ب)
فرنسي أثناء تقديمه باقة ورود لضحايا العمليات الإرهابية في باريس الشهر الماضي (أ. ب)

أفرزت العمليات الإرهابية التي كانت العاصمة الفرنسية باريس مسرحًا لها يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. ردود فعل متباينة وسط النخبة الفرنسية. ففي الوقت الذي سارعت النخب السياسية الحزبية لاستغلال الأحداث المؤلمة وجعلها جزءًا من التعبئة الانتخابية ضد الخصوم السياسيين؛ سارعت النخب الاقتصادية للتنبيه إلى تأثير الإرهاب على الاقتصاد الوطني، مسجلة أن خسائر هذا المجال وصلت لملياري يورو، وأن القطاع السياحي مس بشكل كبير. وفي ظل التعبئة العامة التي سجلت في الوسط النخبوي الفرنسي، ظهر مرة أخرى عالم السياسة الفرنسي أوليفييه روا الأستاذ الجامعي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا، بأطروحته المتميزة؛ وقد ساعده في ذلك ما راكمه من خبرة بحثية كبيرة، جعلت منه أكبر متخصص فرنسي في الحركات الإرهابية.

في ظل الصراع السياسي المحتدم في فرنسا كان من الطبيعي أن تثير العمليات الإرهابية التي شهدتها باريس يوم 13 نوفمبر 2015 الشارع الفرنسي، بأوساطه كافة، وأن تخصص صحيفة «لوموند» الرصينة المرموقة بتاريخ 24 نوفمبر 2015، صفحة كاملة طرح عبرها الأكاديمي الفرنسي أوليفييه روا (Olivier Roy)، تفسيره لطبيعة العمليات الإرهابية الباريسية من حيث المنفذين، وكيفية التعامل مع الإرهاب في فرنسا خصوصًا.
ولقد بدأ عالم السياسة روا أطروحته بالتشكيك في وجهة نظر الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند المبنية على كون فرنسا في «حالة حرب». وسارع للتساؤل ووضع علامة التعجب بخصوص حقيقة هذا الزعم السياسي، طارحًا إشكالاً منطلقيًا يقول: «فرنسا في حرب! لكن ضد من وضد ماذا»؟ إذ لم يهاجم السوريون فرنسا حتى تعلن باريس شن هجومها على هذا البلد، ثم إن الذين ارتكبوا الفعل الإرهابي هم جزء من الكينونة الفرنسية الغربية، وليسوا من الشرق الأوسط. وتمرّدهم وراديكاليتهم ناتجة عن أزمة الثقافة في عصر العَلمنة والعولمة وارتدادات الدين والتدين.
وعليه فإن تفسير ما عاشته باريس بتاريخ 13 نوفمبر 2015، لا يمكن فهمه بربطه ربطًا مباشرًا بتاريخ «القاعدة» وما جرى في أفغانستان؛ وظهور «داعش» في العراق وسوريا، وقبلها الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر. إن روا باعتباره متخصّصًا في الحركات التي تطلق على نفسها مسمى «الجهادية»، يسجل أن هناك تحوّلاً جوهريًا طرأ على البنية الثقافية والسلوكية للشباب المسلم الأوروبي، حيث أخذ جانبه المعرفي والسلوكي يقترب ويتشابه بشكل كبير مع المنطلقات الفاشية واليسارية الجذرية المتطرفة. وفي الوقت نفسه يجد الشباب المسلم من الجيل الثالث نفسه في مجتمع لا يخلو من «الإسلاموفوبيا»، وهو يعيش في قطيعة مع آبائهم من حيث فهمهم للدين، ودور هذا الأخير في المجتمع، وعلاقته بالهوية. ومن جانب آخر، يجد هذا الجيل نفسه أمام تحدّي تأثيرات الصراع العربي الإسرائيلي.
بهذه الخطاطة المتشابكة يرسم روا، الأستاذ الجامعي في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، أطروحته التفسيرية لظاهرة «الإرهابيين الشباب»، باعتبارها جزءا من التحول الواقع في العالم الغربي نفسه، وقدرته على استيعاب الجيل المتمرد، الذي اختار الراديكالية باعتبارها تحيزًا سلوكيا قبل أن تكون مظهرًا من مظاهر التديّن المتشدد. وعلينا ألا ننسى في هذا الإطار نقطة مركزية في غاية الأهمية، وهي أن الإرهابيين كانوا جزءًا أصيلاً من عالم الجريمة، قبل أن يتحوّلوا إلى «راديكاليين إسلاميين».
إن العصيان والراديكالية، عند الجيل الثالث المسلم بفرنسا لا يمكن ربطهما بالتعليم الديني، ولا حتى بالتشدد الديني المحافظ، والأسرة؛ بل هو «التزام طوعي» سابق على الدين والتدين. وهذا المشكل لا نجده عند الجيل الأول والثاني من مسلمي فرنسا.
ويبدو أن صلابة هذه الأطروحة، دفعت روا، للتأكيد في مقالة له نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية بتاريخ 17-11-2015، أن فرنسا التي «تحارب مع الولايات المتحدة (داعش) في الشرق الأوسط. هي القوة الغربية الوحيدة التي تحاربه في منطقة الساحل الأفريقي، بدءًا من مالي في 2013. ونشرت جزءًا مهما من جيشها هناك لهذا الغرض. ومساء الجمعة 13 نوفمبر 2015، تكبّدت فرنسا ثمن قتال (داعش)».
أما في حوار أوليفييه مع راديو «آر تي إس إينفو» RTS INFO يوم الجمعة 13 نوفمبر 2015، فقد أكد على أن «فرنسا ليست في حرب ضد (داعش)..، التفجيرات تمت من طرف شبان فرنسيين، صحيح أن هذا التنظيم جند شبابا أصله من عالم المخدرات، وعندما ينتقل للتدين ينتقل للتطرف بسرعة».. وهذا ما لا تتناوله النخب الإعلامية والسياسية الفرنسية؛ والتي هاجمت ما أطلق عليه الإعلام الفرنسي مسميات نمطية تتصل بالتشدّد الديني في محاولة لاستغلال التعاطف والتضامن الشعبي لربح مكاسب سياسية انتخابية. يَعتبر أوليفييه روا، الجيل الثالث من مسلمي فرنسا الذين نفذوا الهجمات، متطرفين يجدون في الإسلام تعبيرا عن تطرفهم، ليس لأن الإسلام أو التعليم الديني متطرف؛ بل إنهم شباب لا نعرفهم، وهم يشعرون بانتمائهم للأمة الإسلامية، ولا يختلفون بشيء عن الفاشية واليسار المتطرف من حيث الاختيارات المتطرفة. وهم في واقع الأمر في قطيعة مع آبائهم وخبرتهم الدينية الصوفية والمجتمعية. علينا كذلك أن نأخذ بعين الاعتبار أنهم شباب يمتهنون المهن، محامون، وموظفون، أطباء وهم يُحمّلون الإسلام تطرفهم عبر ممارسة التدين المتطرف، فيما يشبه محاولة لقولبة الدين نفسه وتحويله لمَجمع للمتطرفين. «إنهم لم يصبحوا راديكاليين لأننا علمناهم الإسلام الراديكالي في مدارس التعليم، والمحاضن الأسرية، بل إنهم يبحثون عن الإسلام الراديكالي لأنهم راديكاليون، ويريدون الراديكالية».
ولذلك، يدعو روا إلى إبراز الإسلام المعتدل المعاصر، وتمتيع المسلمين بحرية التدين وممارسته في المجتمع. ليس في المجتمع الفرنسي وحسب، بل كذلك في العالم العربي والإسلامي. لننظر ما يقوله روا لأحداث ما بعد 2011م، وإفرازاتها عربيًا. «عندما تركنا المسار الديمقراطي في تونس يسير بمسار طبيعي، وجدنا أن الوضع لم يتجه نحو التطرف والراديكالية الإسلامية، بل نحو حزب النهضة المعتدل. بالنسبة لنا في فرنسا يجب التوجه لشباب الجيل الثالث الراديكالي والتعرف عليهم، باعتبارهم فئة متنوعة. إن هؤلاء الشباب يتجهون لتكريس وضع يعتبرون فيه أنهم هم الإسلام، وهذه وجهة نظر أصولية، لها سبب جوهري يتجلى في أزمة الثقافة في زمن العلمنة والعولمة. وهذا يدفع للربط بين الثقافي والديني بشكل كبير عند المسلمين الفرنسيين».
بالنسبة لأوليفييه روا، في كتابه «الجهل المقدس: زمن الدين بلا ثقافة»، فإن «التعارض لا يقوم بين أديان معتمدة على ثقافات متضادة بل بين الأديان ودينامية العلمنة». لذلك يعود بمقالته المطوّلة في «لوموند»، ليؤكد أن هناك طريقتين لتفسير ما حدث بباريس من أحداث إرهابية: الأولى تتبنى التفسير الثقافي، والثانية تعتمد التفسير التقليدي. وترى الأولى أنه لا بد للإسلام - وفي الحقيقة كان على روا أن يتحدث هنا عن المسلمين - حتى يحقق الاندماج من إصلاح «عقدي» فيما يخص نظرة القرآن لـ«الجهاد».
ومن جهة أخرى، لا بد من تجاوز الإرث الاستعماري في علاقته بالقضية الفلسطينية والشرق الأوسط؛ وكذلك العنصرية و«الإسلاموفوبيا» على المستوى الداخلي الفرنسي. وما لم يعالج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فإن الثأر والراديكالية سيستمران. من هذا المنطلق، وجب الانتباه للعزلة التي يعيشها المتطرفون الشباب وسط المجتمع الإسلامي الفرنسي، فهم يعيشون خارج المسجد، وراديكاليتهم لم يكتسبوها من الشريعة الإسلامية، أو من اليوتوبيا الدائرة اليوم بسوريا. إنهم عدميون أكثر من كونهم يوتوبيين؛ فهم لم يكونوا أعضاء في جماعة الدعوة والتبليغ، أو الإخوان المسلمين، ولم ينخرطوا في أي عمل سياسي منظم، لكن هويتهم «المتشددة» هي نفسها هوية «داعش».
خلاصة القول عند أوليفييه روا، أن أسباب الإرهاب «بنيوية»، ومن ثم، فإن مواجهته لا يجب أن تقتصر على جانب معين في غياب نظرة شاملة. وما هو مؤكد أن الإرهابيين ليسوا تعبيرًا عن راديكالية المجتمع المسلم، بل إنهم انعكاس لتمرد فئة محددة من الشباب الفرنسي، اختاروا الإسلام لأنه لا يوجد في السوق غيره للتعبير عن التمرّد الراديكالي.
* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟